أصحاب محمد ﷺ
صالح بن عبد الرحمن الحصين
إنهم في خلال خمس وعشرين سنة امتد سلطانهم، وهزموا الإمبراطورية البيزنطية والإمبراطورية الفارسية، وامتد سلطانهم من القوقاز من أرمينيا إلى أقصى المغرب وإلى حدود الصين.
- التصنيفات: سير الصحابة -
جاءت الروايات دائمًا أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا شبابًا، والحقيقة أنك لما تتبع سير الصحابة الأولين الذين اعتنقوا الإسلام في أول مرة تجدهم كلهم في مرحلة الشباب، لم يجاوزوها إلى مرحلة الكهولة، ربما كان أكبرهم أبو بكر رضي الله عنه ولكنه كان وقت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان عمر النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة كان عمره ثمانية وثلاثين،
فالصحابة -رضي الله عنهم- الأولون الذين انتبهوا وعرفوا حقيقة ما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم والتغيير الذي يريد أن يجري في المجتمع الصغير (مجتمع قريش)، ثم في المجتمع العالمي، فهموه بسرعة؛ لأنهم على عادة الشباب في حدة الذهن والقدرة على التفكير الشامل العميق الناقد النافذ.
وجاء في الأثر: كان عمر رضي الله عنه يستشير الشباب يريد حدة أذهانهم. وقد واجه الصحابة –رضي الله عنهم- في وقت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تحديات التغيير من جهتين، فهم يريدون أن يغيروا العالم، وأيضاً الوضع العالمي كان بالنسبة لهم وضعاً متحدياً؛ لأن صلته بحياتهم في جزيرة العرب صلة بينها بون شاسع، فكان هناك تحديات التغيير السلبية والتي يريدون أن يواجهوها أو يقوموها، وهناك تحديات إيجابية وهي إرادة التغيير، فلهذا كان عمر رضي الله عنه يستشير الشباب.
والذي جرى في الواقع أن نتيجة إطلاق ملكات الشباب وطاقاتهم أن جرى أعظم تغيير ربما في الدنيا، فامتد سلطان الصحابة -رضي الله عنهم- في خلال ثلاثين عامًا، فكانوا يحاربون في جبهتين، وكانت هذه الحرب ليست اختيارًا لهم، وإنما هي حرب أُجبروا عليها؛ لأنهم في حكمتهم وحنكتهم السياسية ما كان يمكن أن يشعلوا حرب في جبهتين لعدوَّين هما أكبر دولتين في العالم وكان بينهما العداء و الحرب الضروس، وكل الأسباب التي يذكرها المؤرخون سواء كان المؤرخون مسلمون أو المستشرقون أنهم يشتركون في أسباب ودوافع هذه الحرب، وكلها كانت تتحقق بأن يحاربوا في جبهة واحدة، فإذا انتهوا منها حاربوا في الجبهة الثانية، و سير الحروب عند تأمله بعمق نرى أنه يهدي إلى هذا.
كانت بداية الحرب التهديد من الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية البيزنطية، و كان التهديد في وقت النبي صبى الله عليه وسلم وغزوة تبوك وغزوة مؤتة، وكل هذه كانت استجابة لهذا التهديد، فأبو بكر رضي الله عنه لأجل الدفاع ضد هذا التهديد أرسل المثنى بن حارث في سرية وأرسل عكرمة بن أبي جهل في سرية، لكن كلا القائدين رأى أن قوة الجبهة المقابلة أكبر من القوة التي معه فاستنجد به، ولهذا فُرضت هذه الحرب على الصحابة، وكانت من تقدير الله وتدبيره، فكانت خيرًا للبشرية، لم تشهد البشرية مثلها من الخير والنعمة فيما يُعلم من التاريخ المكتوب.
فأقول إنهم في خلال خمس وعشرين سنة امتد سلطانهم، وهزموا الإمبراطورية البيزنطية والإمبراطورية الفارسية، وامتد سلطانهم من القوقاز من أرمينيا إلى أقصى المغرب وإلى حدود الصين.
حدث لا يزال يحير المؤرخين في سره، كيف حدث هذا؟! فهو شيء يشبه أن يكون مما وراء الطبيعة ومما فوق تفكير البشر، في هذه المدة القصيرة كيف يمكن أن يحدث هذا الإنجاز الهائل، لكن هناك إنجاز أعجب منه، وهو أن هذه الشعوب الممتدة على هذه الرقعة والمختلفة والأديان فسيفساء من الأديان وفسيفساء من المذاهب، كل هذه جاءت الإمبراطورية الهيلينية وبعدها الرومانية، ولم تستطع أن تغير أي شيء في هذا، أما في خلال هذه المدة القصيرة انطبعت هذه الشعوب كلها بطابع الثقافة الجديدة، واعتنقت الإسلام، وتغيرت وغيرت طريقة حياتها في الأكل والشرب واللباس وفي العادات واللغة.
هناك أشياء مذهلة نتأملها الآن كأنما هي ألغاز، ولولا أن التاريخ في هذا لا يمكن أن يكذبها؛ لأننا لو كذبناها ما استطعنا أن نأخذ أي تاريخ.
ومن هذه الصور الثلاث التي ذكرت نأخذ الخصائص الطبيعية للشباب:
1- الشباب حاد الذهن، تعود على التفكير النافذ الناقد، تعود على ألا تحكمه تصورات مسبقة بحيث توجه تفكيره، وتجعله جامد في قالب لا يتغير، عنده قدرة على التفكير المرن.
2- الاستعداد لمواجهة تحديات التغيير، فهناك تحديات إيجابية تقتضي من الإنسان أن يدعم ويؤيد التغييرات الصالحة، وهناك تحديات سلبية تقتضي من الإنسان أن يواجهها وأن يقاومها، ولا يسمح بوجودها، فإذا وجدت يحاول رفعها.
3- العزم والإرادة للتغيير، هذا العزم يتجلى في البذل التطوعي الذي لا عائد مادي أو معيشي له، وإنما يتعلق بالمثل، ويكون لديهم استعدادًا للبذل لها من الوقت والجهد وكذلك بذل النفس عند الحاجة.
فهذه هي خصائص الشباب الطبيعية التي إذا وُجدت وهيأ لها المجتمع البيئة الصالحة تعمل عملها الصحيح.
ويهمني منها الآن مسألة الاستعداد للبذل، والاستعداد للتطوع، نجد دائمًا في الحياة أمثلة عجيبة لهذا الاستعداد، استعداد الإنسان للبذل التطوعي الذي هو بذل بدون انتظار جزاء وبدون انتظار عائد، وإنما تحقيق معنى الحياة.