تجربة المدارس الدعوية في بنجلاديش

وختامًا أقول: لا تحقرن عاملاً بنغاليًا أو هنديًا تراه في بلادنا؛ فلعله خريج إحدى هذه المدارس، أو حافظ لكتاب الله تعالى، أو دارس لسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، أو ضليع في أحد مذاهب الفقه الإسلامي، ولكن ضيق الدنيا جعله يسعى لمثل هذا

  • التصنيفات: الدعوة إلى الله -

المعتصم بالله رأفت

 

يبلغ عدد سكان بنجلاديش 180 مليون نسمة من السكان الأصليين، وهي دولة تقع في جنوب شرق آسيا، تحدها الهند من كل الجهات عدا جهة أقصى الجنوب الشرقي؛ فتحدها بورما (ميانمار)، ويحدها من الجنوب ساحل البنغال، عندما قُسمت الهند في العام 1947م قُسمت البنغال بناءً على أسس دينية، حيث انضم الجزء الغربي من الإقليم إلى الهند والجزء الشرقي إلى باكستان باسم (باكستان الشرقية)، وفي العام 1970م قام مجيب الرحمن بإعلان استقلال دولة البنغال لإخراج آخر جندي باكستاني منها.

ودعوني أنقل لكم التجربة التربوية والدعوية خلال سبعة أيام زرت فيها ما يقارب سبع مدارس وثلاث جامعات وخمسة عشر محفلاً دعويًا، ولمست في الناس حبهم للدين وسماعه، فالناس عطشى لكلام ربنا وسنة نبينا .

قامت بدعوتي إحدى المؤسسات هناك لحضور حفل القراء وحفل تخريج حفاظ كتاب الله، ما أن وصلت إلى تلك الديار حتى وجدتهم في استقبالي بكل حبٍ وود مع أني لم أكن أعرفهم، والسبب -بالإضافة إلى أني مسلم- أني عربي، وهم يقدرون العرب جدًا بسبب يسر نطقهم بالعربية وسهولة تعاطيهم مع القرآن الكريم.. وصلت الفندق، وبعدها بساعات اتجهت لمقر حفل المؤسسة والتقيت فيها بخطيب الأمة -كما يسمونه- حفيظ الرحمن صديقي، وعند إخواننا البنغال ألقاب كلٌّ بحسبه؛ فـ(المحدِّث) من يهتم بالتحديث، و(العالِم) تطلق على المهتم بعلوم الفقه والفتاوى، و(الحافظ) تطلق على من حفظ القرآن، ويسمون الخطيب بـ(الواعظ) أو (خطيب الإسلام).

ألقيت بعدها كلمتي أمام محفل كبير برفقة المترجم عبد الرحمن قبادي، وكان استقبالاً وتقديرًا من الناس وسعادة لا أستطيع وصفها.

مدرسة أمهات المؤمنين:

زرت في اليوم التالي مدرسة (أمهات المؤمنين)، وهي مدرسة تعتني بتعليم البنات العلوم الشرعية وتحفيظ القرآن بإدارة الشيخ محمد أنور الحق، وقمت بجولة في المبنى، به مسجدٌ لعوام الناس، وطابق خاص لتحفيظ القرآن للبنين، ومبنى خاص لتعليم البنات مكون من تسعة طوابق، فيه فصول للطالبات وغرف نوم لهن، يعيش البنات فيهن طوال مدة الدراسة، وبالمدرسة 470 طالبة، تبقى منهن في المدرسة كمبيت 300 تقريبًا، وترجع لبيوتهن يوميًا 170 طالبة، مع كل 30 طالبة معلمة ومربية في الوقت نفسه، تعتني بهن وبتعليمهن وتربيتهن، والمادة الأساسية عندهم الكتب الستة مع حفظ القرآن وتفسير الجلالين.

وهناك غرف صغيرة يُدرِّس فيها الشيوخ البنات من خلف ستار من خلال الميكروفون، يُشرح فيها الكتب الستة، وزرت تلك الغرفة وألقيت عليهن التحية، وطلبت من واحدة منهن أن تقرأ كتاب البخاري، فقرأتْ وذُهلتُ من قراءتها كأنها ولدت ببلاد عربية ولم تعرف غيرها. وهناك ثلاثة شبابيك محاطة بستارة يستطيع من خلالها أن يزور والد البنت بنته لو أراد أن يعطيها شيئًا أو يسمع عن أخبارها. ومطبخ لإطعام البنات الدارسات فطورًا وغداءً وعشاءً.

ويطمحون في المدرسة لإكمال المبنى، فما بقي لهم إلا مستوصف وصيدلية وغرفة لتعليم البنات بعض المهن كالخياطة والطبخ، ومصعد لصعود البنات إلى الأدوار المرتفعة، وتحسين مطبخ المدرسة.

مدرسة تحفيظ القرآن والسنة:

ومن المدارس التي رأيت فيها عجبًا وبركة: (مدرسة تحفيظ القرآن والسنة)، هكذا بهذا الاسم، وتعتني بتحفيظ القرآن حفظًا متقنًا وتجويده وتحبيره بصوتٍ حسن، والمشرف عليها الشيخ نجم الحسن، صاحب صوت ندي، والمدرسة مكونة من ثلاثة طوابق: كل مستوى في طابق، وعناية المدرسة مقتصرة على القرآن والسنة واللغة العربية فقط، وكل الفائزين الأوائل في مسابقات القرآن الكريم على مستوى الدول: (مصر، السعودية، قطر، الكويت، بنجلاديش، البحرين) من خريجي هذه المدرسة، ومن حسن حظي حين وصولي كان لديهم تجمع لكل الطلاب، وفكرته أن يأتوا بالعشر الأوائل الذين شاركوا في المسابقات الدولية، ويختبروا المدرسة بالكامل والمكونة من 500 طالب على مدى ثمانية أيام.

ومن المناطق التي زرتها منطقة بي باريا، ليكون في استقبالنا الشيخ عبد القيوم، وقرأ عليّ أحد طلاب القرية من كتاب الله، وقد أوتي صوتًا حسنًا ويكأنه الشيخ محمد صديق المنشاوي -رحمه الله- وهو لا يجيد التكلم بالعربية، ولكنه يقرأ القرآن كأنه عربي، والعجيب أن كثيرًا منهم يجيد حفظ القرآن ولكن إذا كلمته لا يفهم منك شيئًا وخاصة المبتدئين منهم.

مدرسة التقوى:

بعد ذلك زرنا مدرسة التقوى تحت إشراف الشيخ خطيب الإسلام حبيب الرحمن مصباح، روحه طيبة وصاحب دعابة، وتهتم مدرسته بتعليم الفقه الحنفي وتفسير الجلالين، وألقيت عليهم كلمة مختصرة عن إخلاص النية لله والأجر المترتب على طلب العلم، ولاحظت تفاعلهم وانتباههم.

ومما زرت أيضًا حفل القراء، كان منظرًا مهيبًا في مسجد بيت المكرم؛ حيث يجتمع فيه عدد من قراء العالم ومصر وإيران وتنزانيا وبنجلاديش، وكعادتهم يقدرون أي عربي ويحتفون به ويستقبلونه استقبالاً خاصًا.

ثم توجهنا للجامعة الإسلامية إمداد العلوم، وفيها التقيت بالشيخ المسند الشيخ منير الزمان سيراجي مدير الجامعة الإسلامية في بي باريا، وقرأت عليه أول حديث في البخاري وأجازني بذلك، وسنده يصل إلى الشيخ ولي الله المحدث الدهلوي الذي هاجر من مكة المكرمة إلى قارة الهند.

والمدرسة (مدرسة التقوى) مقسمة على عدة طوابق على حسب المستوى، ويسمى الفصل على اسم أهم متن عندهم؛ فالمستوى الأول يسمى (تفسير الجلالين)، ويدرسون فيه الفقه الحنفي وأصوله، والمستوى الثاني يسمى (مشكاة المصابيح) وهو كتاب حديث للإمام النووي، والمدرسة عبارة عن ستة طوابق، وفي الطابق الخامس تحفيظ القرآن.

وممن التقيت بهم هناك الشيخ عبد الخالق سامبلي نائب الرئيس بجامعة دار العلوم ديوبند الهند، وكان قد وصل من الهند ثم اتجه من المطار لقرية بي باريا التي تبعد عن المطار حوالي ست ساعات، وهو شيخ كبير ثمانيني، العجيب أني وفي طريقي لهذا اليوم كنت قد تعبت كثيرًا، وصلت للغرفة، وطلبت أخذ قسط من الراحة قبل اللقاءات، لكن حينها وصل الشيخ من المطار وهو شبه متعب، ولكنه ارتاح قليلاً فقط ثم ذهب لإلقاء المحاضرة، فوالله كأني قد نشطت من عقال بعدما رأيت همته وعدم اكتراثه بالتعب وتفضيله لمحاضرة الناس عن نيل قسطه من الراحة.

ومن المناطق التي زرتها منطقة جاتغام برفقة الحبيب أبو بكر شبير والمترجم عبد الرحمن قبادي، وفي الطريق أخذنا معنا الشيخ حبيب الرحمن مصباح وسكرتير الشيخ سعيد الرحمن لحضور ذلك المحفل، وفي الطريق حصل موقفٌ عجيب؛ وقفنا للاستراحة وأخذ بعض ما نتقوى به من الزاد، فوجدنا ثلاثة من الشباب متجهين إلى المنطقة نفسها، وهم يعرفون الخطيب الواعظ الشيخ حبيب الرحمن مصباح، فوقفوا وتحدثوا معه وأخبروه أنهم ذاهبون إلى تلك المنطقة لحضور المحفل الدعوي، تعجبت كثيرًا؛ لأنهم يتنقلون بين المواصلات، ومدة السفر لا تقل عن ست ساعات، والأمر بالنسبة لنا كان متعبًا ومعنا سيارة، فكيف بهم وهم يسافرون بلا سيارة!! كل هذا من أجل حضور المحفل الدعوي.

وصلنا جاتغام الساعة الثامنة والنصف، فانطلقنا للجامعة العربية الإسلامية بجيري، والتقيت بشيخها المسند محمد حفيظ الذي قرأت عليه أول حديثين في البخاري وأجازني بسنده إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. أخذت جولة في الجامعة للتعرف على ما تقدم من علم لطلابها، فهم يعلمونهم العربية والفارسية والإنجليزية والبنغالية، ومن حسن حظي أن الطلاب كانوا في فترة اختبارات، فأخذت جولة بين الطلاب، فمنهم من يختبر في البخاري وآخر في مسلم وثالث في المنطق ورابع في الفقه الحنفي وخامسٌ في التفسير.

وأخيرًا التقيت بالشيخ الدكتور محمد بلال نور عزيزي، وله اهتمام بالعربية والحديث والتاريخ، وذكر لي من ضمن ما ذكر أن أبا الحسن الندوي -رحمه الله- سد ثغرة كبيرة في بلادهم؛ فشعب بلاد السند كان يقتصر اهتمامهم بأدب شكسبير، فقدم الشيخ الكتاب والسنة على مأدبة أدبية ليهتم بها أبناء بلاده.

وختامًا أقول: لا تحقرن عاملاً بنغاليًا أو هنديًا تراه في بلادنا؛ فلعله خريج إحدى هذه المدارس، أو حافظ لكتاب الله تعالى، أو دارس لسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، أو ضليع في أحد مذاهب الفقه الإسلامي، ولكن ضيق الدنيا جعله يسعى لمثل هذا.. نسأل الله أن يستعملنا لخدمة دينه.