وقفة مع آية
{وَإِذا أَذَقنَا النّاسَ رَحمَةً فَرِحوا بِها وَإِن تُصِبهُم سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَت أَيديهِم إِذا هُم يَقنَطونَ * أَوَلَم يَرَوا أَنَّ اللَّهَ يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشاءُ وَيَقدِرُ إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِقَومٍ يُؤمِنونَ}.
- التصنيفات: التفسير -
{وَإِذا أَذَقنَا النّاسَ رَحمَةً فَرِحوا بِها وَإِن تُصِبهُم سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَت أَيديهِم إِذا هُم يَقنَطونَ * أَوَلَم يَرَوا أَنَّ اللَّهَ يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشاءُ وَيَقدِرُ إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِقَومٍ يُؤمِنونَ}.
[الروم: ٣٦-٣٧].
قال الطبري رحمه الله: (يقول تعالى ذكره: إذا أصاب الناس منا خصب ورخاء وعافية في الأبدان والأموال، فرحوا بذلك، وإن تصبهم منا شدّة من جدب وقحط وبلاء في الأموال والأبدان {بِمَا قَدَّمَتْ أيْدِيهمْ} يقول: بما أسلفوا من سيئ الأعمال بينهم وبين الله، وركبوا من المعاصي {إذَا هُمْ يَقْنطُونَ} يقول: إذا هم ييأسون من الفرج.
والقنوط: هو الإياس...
أولم ير هؤلاء الذين يفرحون عند الرخاء يصيبهم والخصب، وييأسون من الفرج عند شدّة تنالهم، بعيون قلوبهم، فيعلموا أن الشدّة والرخاء بيد الله، وأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده فيوسعه عليه، ويقدر على من أراد فيضيقه عليه {إنَّ فِي ذلكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤمِنُونَ} أ.هـ...
قال ابن كثير رحمه الله: {وَإِذا أَذَقنَا النّاسَ رَحمَةً فَرِحوا بِها وَإِن تُصِبهُم سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَت أَيديهِم إِذا هُم يَقنَطونَ}، هذا إنكار على الإنسان من حيث هو، إلا من عصمه الله ووفقه؛ فإن الإنسان إذا أصابته نعمة بطر وقال: (ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور).
أي: يفرح في نفسه ويفخر على غيره، وإذا أصابته شدة قنط وأيس أن يحصل له بعد ذلك خير بالكلية؛ قال الله: {إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات}.
أي: صبروا في الضراء، وعملوا الصالحات في الرخاء، كما ثبت في الصحيح: «عجبا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» أ.هـ
عند النعمة من الله على عباده لم يذكر سببا لها لتفضله بها عليهم وهذا إحسان منه {وَإِذَا أَذَقْنَا النّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا}.
وعند ذكر العذاب والسيئة ذكر سببًا {وَإِن تُصِبهُم سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَت أَيديهِم}، تحقيقا للعدل.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القدر إلا الدعاء، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه».
رواه أحمد وغيره وقال ابن القيم لا بأس بإسناده.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من رحمته أحد».
رواه مسلم.
حال أكثر الناس حيال النعمة والرخاء أنهم يفرحون فرحًا قد ينسيهم المنعم عليهم بهذه النعمة، وإذا ابتلاهم بنقص وضراء لقاء ما اقترفت أيديهم ضجروا وبدأ اليأس في قلوبهم...
ولو تفكروا لعلموا أن من أعطى هو من منع، وأن من ابتلى قادر على إزالة الضراء والابتلاء، وأن الأمر بيده وحده سبحانه وتعالى وأن ما قدمت أيدينا واقترفنا من آثام هو سبب ما نحن فيه ( {وَإِن تُصِبهُم سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَت أَيديهِم} ) ليكفر عنا بعض السيئات ويخفف بعض عقاب الآخرة الذي لا يطاق ويعفو سبحانه عن كثير...
إذا علم المرء وأيقن أنَّ كل ما حصل له هو بقضاء الله وقدره استراح قلبه، ولم ييأس لفوات شيء كان يرجوه، أو لوقوع أمر كان يحذر منه، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}.
حال السلف: رجاء بلا إهمال، وخوف بلا قنوط.
ولابد من حسن الظن بالله تعالى.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عزَّ وجلَّ: أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني...» الحديث...
رواه البخاري ومسلم.
لله عز وجل الحكمة البالغة في تفاوت أرزاق العباد يفضل بعضهم على بعض لحكم يعلمها سبحانه {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا}.
اللهم قنعنا بمارزقتنا وبارك لنا فيه وأوزعنا شكر نعمتك ووفقنا لطاعتك..