يهود مصر وتعثر الذاكرة..!
وما زال المؤرخون الإسرائيليون يعزفون نغمة (العبيد) و (الاضطهاد) في مصر القديمة، وفي مصر الحديثة. وإني لأتساءل: كيف لطائفة (مضطهدة) و (كانوا عبيداً) أن يصنعوا حضارة، بل واحدة من أعظم الحضارات الإنسانية، بادعاء أنهم (بناة الأهرامات)،
- التصنيفات: التاريخ والقصص -
إن اندماج الطائفة اليهودية في واقع المجتمع المصري كان اندماجاً وانصهاراً نسجته الأزمان، من خلال التسامح الفطري الذي ميَّز الإنسان المصري عبر تاريخه، وما أكدته الشريعة الإسلامية من أن اختلاف الدين والمذهب لا يجيز اختلاف المعاملة؛ فهم مصريون اعتنقوا الدين اليهودي، والسلوك الاجتماعي لم يميزهم عن بقية أبناء المجتمع المصري، وظاهرة (الجيتو) التي عاشها قسراً يهود أوروبا، لم تعرفها الجماعات اليهودية التي عاشت في محيط ثقافي عربي إسلامي، و (حارة اليهود) في القاهرة لم تلقَ مصير حارات اليهود في أنحاء العالم!
وادعاءات الصهيونية بأن اليهود هم نسل بنـي إسرائيل القدامى، هي ادعاءات باطلة زائفة، للربط بين الحركة الصهيونية السياسية وتاريخ بني إسرائيل القديم، ولتبرير هدفهم من إقامة (دولة يهودية) في فلسطين باعتبارها إرثاً شرعياً لمملكتي داود وسليمان ومن منطلق أن اليهود في جميع بلاد العالم هم (شعب إسرائيل)، وتحت هذا القناع أقاموا دولتهم بالإرهاب لترسيخ ادعاءات الحقوق التاريخية الزائفة!
لافتة معاداة السامية:
تمت صياغـة لافتة (معاداة السـامية) أساساً اعتمدت عليه الأيديولوجيـة الصيهونية في تنفيذ مخططاتها الإجراميــة، وقـادة العصابات الصهيونية الذين وصلوا إلى مقـاعد الحكم في فلسطين المحتلة، نجحوا في توظيـف هذه الأكاذيب، بل تأديب كل من يفكر في منـاوأتها، ومثلما اســتغل آباء الصهيـونية القـدامى الشعارات المعادية للسامية، يذهب مفكـرو ومؤرخو الكيان الصهيوني إلى أن ظهور الصهيونية كان رد فعل (دفاعي) على معاداة السامية، واستخدموا هذه اللافتة ضد كل من يكشف مخططاتهم وعداءهم لكـل البشر. مثلما فعل المؤرخ الإسرائيلي (جوئل بينين) عندما كتب: «إن الغالبية العظمى من الكتاب المصريين الذين كتبوا عن اليهود المصريين يواصلون استخدام صور ذهنية معادية للسامية». وشرفني بأن وضعني على رأس هؤلاء الكتاب المصـريين. والحقيقة أن الصهاينة هم أعداء السامية الحقيقيون، وإلا فبماذا نفسر إصرارهم على ممارساتهم العنصرية ضد الشعب الفلسطيني والعرب عامة، والتحريض اليهودي للولايات المتحدة وأوروبا ضد الإسلام والمسلمين؟ وأدع (جوئل بينين) ومعه من يروجون لوهم السلام من بيننا، يفكروا جيداً في مقولة (هيلل) أحد كبار مفكري إسرائيل: «إن الدم وحده هو الذي صنع إسرائيل ومن ثَمَّ فعلى الكيان الصهيوني أن يجابه بكل الوسائل: خطر السلام».
لقد حصلت الدولة اليهودية على كل شيء باسم (السلام) الزائف، واكتشف الخبراء والبسطاء أيضاً أكبر عملية نصب واحتيال وقعت باسم (السلام). وصحيفة سوابق (دولة الإرهاب) اليهودية طافحة بالمجازر والجرائم؛ فالإرهاب هو الذي قدم دولتهم وعليه قامت... دولة عنصرية قامت على أسطورة (تفوق وتميز الشعب اليهودي).
لقد اندمج يهود مصر اندماجاً كاملاً في المجتمع المصري، كما لم يحـدث في أي مجتمع آخر وفي أي عصر، في اتجاه معاكس تماماً لرؤية (ناحوم جولدمان) رئيس المنظمة الصهيونية العالمية في 16 مارس 1963م محذراً من انـدماج اليهود في شعوب العالم بقوله: «إن الاندماج هو الخطر الأكبر الذي يهددنا منذ اللحظة التي خرجنا فيها من الجيتو». فقد كانوا في مصر ممثَّلين في البرلمان ضمن مقاعد الوفد أو السعديين، وكان يوسف قطاوي وزيراً للمـالية، والحاخام الأكبر (حاييم ناحوم) كان عضواً بمجلس الشيوخ وعضواً بالمجمع الملكي للغـة العربية، وعشرات الصحف والدوريات التي كانت تصدر بالعبرية والعربية والفرنسية والإنجليزية، ومعابدهم ومدارسهم الدينية، ومنظمات وجمعيات الشباب والكشافة تنسق نشاطها مع مؤسسات الرعاية الاجتماعية والدينية، وعلى مدى قرون تمتعوا بحرية ممارسة شعائرهم، وطقوس ميزت يهود مصر عن يهود العالم، ومنها وليمة رأس السنة (روش هاشانا)، وطقوس (عيد الفصح)، واحتفالات ليلة (التوحيد) في معبد (الأستاذ) بحارة اليهود، وطقوسهم المميزة عشية عيد الغفران (يوم كيبور) حيث (مذبحة الفراخ). إلى جانب الشعائر والتقاليد التي ميزت احتفالهم بـ (كال نيدريه) الذي يتحللون فيه من كل الوعود والمواثيق تجاه الآخرين! والاحتفالات الفخمة بعيد بوريم القاهرة أو (بوريم مصراييم).
وبعد أحقاب طويلة وتوالي أجيال، أخذ يهود مصر طريقهم من جديد إلى المنفى، ووصلوا إلى أراضٍ مغـايرة محملين بكل التشوهات والآلام التي صاحبت (خروجهم الثاني) الذي لن يعرف طريق العودة وأكبر كارثة يخشاها اليهودي هي الاندماج الذي يعني: إذعان المنفى وإبادة الاسم ومحو التاريخ وبحر من الذكريات، وهو ما عبَّر عنه بصدق (شارل نواوي) المولود في الإسكندرية بقوله: لا يعنينا البكاء على المصير المحتوم لليهود في بحثهم الدائم عن ملاذ ولا أن نطلق النواح على آلامنا الماضية، بل ما نريده قبـل كل شيء هو اقتلاع هذا الخجل الذي يحيط بسرنا، وهو الخجل من تاريخ لا يشبه تاريخ البلد الذي استضافنا، والخجل من لغة وطقوس لا تشبه ما نمارسه يومياً... كم أحب أن أرى اليوم وجوه آبائنا أو أجدادنا وهم يتلون مساء عيد الفصح صلاة (الهجادة) التي تقول: «أنا الـرب الذي أخرجتكم من مصر»[1].
الخروج الثاني:
إن مثل هــذه الآراء تكشف عن هوى هـؤلاء المؤرخيـن اليهـود، كما تكشـف عن خدمتهـم لأهــداف سياسـة صهيونيـة، وتأكيدهم على أن (هدفهم الوحيد هو إعادة امتلاكهم للتـاريخ)، والمقصود (توظيفهم التاريخ سياسياً)، ليس هذا فحسب بل الأدب والفن أيضاً، ولعل (عادا أهارونـي) خير مثال على ذلك، وهي التي ولدت وتربت في القاهرة ثم هاجـرت إلى إسرائيل حيث أدركتها حرفة الأدب.
ففي روايتها (الخروجالثاني) Ada Aharoni: the second exodus,Dorrance,U.S.A 1983 التي تدور أحداثها وسط حركة شبابية صهيونية مصرية، كتبت التاريخ من وجهـة نظرها (الصهيونية) مغلَّفاً في قالب روائي، بوقائع مفبركة وسؤالها المكرر: (ماذا نفعل في بلد ليس بلدنا؟)، وتصورات مغلوطة حتى عندما أشارت إلى أن عائلتها عاشت خمسة عشر جيلاً في مصر، ومع ذلك لم تستطع أن تحصل على الجنسية المصرية (لأنها يهودية)، أو عندما زارت الأهرامات مع أصدقائها، حيث انطلق الجميع في الرقص والغناء بالعبرية (من أجل العودة إلى الأرض الجميلة)، وقولها لصديقها (راؤول) وهي تشير إلى الأهرامات متسائلة كأنما تحاول أن تؤكد ما يدور في ذهنهـا من ترهات: «وهل بنى أجدادنا هذا كله؟ لا بد أنهم كانوا أقـوياء جداً». وبالطبع ما شيد أجدادها الأهرامات، ولا كانوا أقـوياء جداً؛ ولكن هي الأوهام التاريخية التي تتردد كثيراً في كتابات المؤرخين والأدباء الصهيونيين!
وتأكيد (عادا أهاروني) على (النموذج الصهيوني الرسمي للتاريخ اليهودي) من خلال إصرارها على أن (الصهيونية لم يتم جلبها إلى مصر... لقد كانت هناك)[2].
ويُكثِر المؤرخون الصهاينة الذين يكتبون مذكرات وتقارير عن حياة الطـائفة في مصـر من استخدام عبارات مثل: «لقد استدعى الأمر خروج اليهود من مصر للمرة الثانية في التاريخ»، والقدر «الذي رسم مجرى التاريخ وحتمية الرحيل»، ومثلما كتب شارل نواوي: «إلا أن المفارقة بالنسبة ليهود مصر أن أسس تلك اليهودية، وجذور جزء من هويتهم يقع (عند حدود الفضيحة) فهؤلاء اليهود الذين قضوا حياتهم وتاريخهم في مصـر وأثروا وتأثروا بهـا، لم يصبحوا يهوداً إلا لأن أجدادهم كانوا عبيداً فيها منذ عشرات القرون وخرجوا منها»[3].
مؤتمر عالمي وأسئلة حول الخروج الثاني من مصر:
تجدر الإشارة إلى (المؤتمر الدولي ليهود من مصر) الذي عقد خلال الأيام 25 - 29 من مايو عام 2015م في فندق ماريوت الشهير بالقاهرة، برعاية (جمعية الصداقة المصرية - الإسرائيلية)، والمركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة، والسفير الإسرائيلي آنذاك ياكوف عميتـاي، وتمت دعوة 320 يهـودياً من أصول مصـرية من 15 دولة من بينهم ممثلوا منظمات يهود مصر في الولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا والنمسا وكندا والبرازيل، وترأست المؤتمر (عادا أهارونـي) صاحبة الفكرة، وحضره عدد من الشخصيات المصرية!
وتمت مناقشة موضوعات (تاريخ الطائفة اليهودية في مصر، والحفاظ على التراث اليهودي في مصر، والحركة الصهيونية في مصر، ويهود مصر: الماضي، الحاضر، المستقبل). ووزعت استمارات على المشاركين بعنوان (أسئلة حول الخروج الثاني من مصر) تضمنت: الاسم الكامل، تاريخ ومكان ميلاد الشخص ووالديه، مكان الإقامة، المدرسة والجامعة التي تلقى تعليمه فيها، الأصدقاء والجيران مسلمون وأقباط، زواجه وعدد الأولاد، الجنسية التي كان يحملها في مصر والجنسية الحالية، الوثائق الرسمية، علاقاته بالسلطات الحاكمة، الأماكن التي عمل بها ومجالات التجارة والحرف، أبرز المواقـف في حياته، رؤيته للسلام مع مصر والأنظمة العربية ومع الفلسطينيين بشكل خاص، شهادات اليهود الذين عاصروا الخروج الثاني... والهدف المعلن لمنظمي المؤتمر هو: (إعداد قاعدة بيانات كاملة عن يهود مصر وممتلكاتهم)!
تعثر الذاكرة:
وما زال المؤرخون الإسرائيليون يعزفون نغمة (العبيد) و (الاضطهاد) في مصر القديمة، وفي مصر الحديثة. وإني لأتساءل: كيف لطائفة (مضطهدة) و (كانوا عبيداً) أن يصنعوا حضارة، بل واحدة من أعظم الحضارات الإنسانية، بادعاء أنهم (بناة الأهرامات)، وكيف لهذه الطائفة (المضطهدة) أن تصنع حضارة مصر الحديثه؟ كيف لضحـايا (الاضطهاد المعادي للسامية) أن يحققوا الصعود السياسي والاقتصادي والاجتماعي مثلما تحقق لهم في مصر الملكية ؟ فالموقف الرسمي والشعبي المتسامح، كان مشجعاً لهم على الانطلاق والازدهار في كافة المجالات، لكن من الواضح أنهم يعانون من ( تعثر الذاكرة)!
ويعترف (جـوئل بينين) في إطار حديثه عن جهود اليهود المصريين من أجل استعادة (الهوية المصرية اليهودية) بأنهم (كانوا صهاينة في مصر) فكتب: «إن المجهودات الأولى لليهود المصريين من أجل إثبات هويتهم ووجودهم الجماعيين المتميـزين في إسرائيل؛ قد أكدت على فكرتين: الأولى أنهـم كانوا صهـاينة في مصر. والثانية أنهـم كانوا ضحـايا الاضطهاد المعادي للسامية...»[4]، وشهد شاهد من أهلهم بأنهم كانوا صهاينة في مصر، حتى لو ادعى بعضهم أنه ضد الصهيونية وأفكارها.
ومن منافيهم المختارة كتب بعض اليهود المصريين عن الحنين إلى مصر وطنهم الأصلي على طريقة (المفهوم البكائي الجديد) للتـاريخ اليهودي في مصر مجسدين مشاعرهم المركَّبة تجاه بيئتهم المصرية، وبشكل يتناقض مع الفكر الصهيوني الذي لا يقبل أو يعترف بأن يحنَّ إسرئيلي يهودي مصري أو غيره إلى حيـاته في (الشتات)، بينما يرى بعض الدارسين أن خروجهم من مصر هو الذي أدى بهم إلى الشتات، وهو ما يدحض ادعاءات الصهيونية بأنها (الحل الصهيوني للمشكلة اليهودية) وأنها نهاية التاريخ اليهودي.
إن مناخ التسامح والحرية السائد في مصر الملكية جسده ازدهار الطائفة اليهودية؛ إذ انتشروا في أحياء القاهرة والإسكندرية وأغلب مدن مصر، إلى جانب المسلمين والأقباط والجاليات اليونانية والإيطالية والأرمنية والشامية، لم يميز بينهم وبين أهل مصر من المسلمين والأقباط أي شيء في الزي أو اللغة، حتى أن غلاة الكتاب الصهاينة ومنهم (بنيامين جوردون) في كتـابه (أرض اليهود الجديدة) المتحيز تماماً للصهيونية تحدث عن التسامح والازدهار اللذَين تمتع بهما يهود مصر وكتب: «تعد الحالة السياسية والاقتصادية ليهود مصر مرضية جداً، فهم لا يتعرضون لأي قيود، ويوجد بينهم أغنى أغنياء القاهرة من أرباب البنوك والمصانع والمتاجر وازدادوا ازدهاراً بتوالي السنين، والأهالي يُقبِلون على متاجر اليهود ومنتجات مصانعهم مثلما يُقبِلون على أطبائهم ومحاميهم دون تمييز».
وكان الأجدر بالمؤرخين الصهاينة - ومنهم: جاك حسون، إميل جـابي، ليفانا مزراحي، إجلال عريرا، إيفيت شماس، ويعقوب لانداو... وغيرهم - أن يكتبـوا ويؤرِّخـوا بأمانة عن (العصر الذهبي) للطائفة اليهودية المصرية منذ عصر محمد علي باشا وحتى نهاية الملكية، وكيف كان يهود مصر جزءاً متفاعلاً في نسيج المجتمع المصري حتى توالت حالات الرحيل النهائي بإشراف (الوكالة اليهودية)، بينما ظلت أغطية الرؤوس وكتب الصلوات مكدسة في المعابد المغلقة، وأجبر معظمهم على الهجرة من كل البلاد العربية والانضواء تحت نجمة داود!
وكنت أودُّ أن يحدثَنا هؤلاء المؤرخون عن اليهود المصـريين الذين رحلوا إلى (الدولة اليهودية)؛ فلم نسمع عن أحد منهم واصل صعوده في عالم المال والاقتصاد والسياسة والشهرة مثلما تحقق لهم في مصر وجعلهم صفوة المجتمع المصري، لم يكن لأحد منهم شأن في قيادة المجتمع الإسرائيلي وفقدوا بريق النفوذ السياسي والاقتصادي، وهـم الذين كانوا - طبقاً لوصف حاييم كوهين - «أغنى الطوائف اليهودية في الشرق الأوسط وأكثرها استقراراً»، هربوا بأموالهم إلى هناك وعاشوا بلا قيمة: كأنهم عبيد للسادة من يهود أوروبا وأمريكا!
[1] تاريخ يهود النيل، ص 228 - 229).
[2] هاتسيونت لويوفالي مينزايم، ص20.
[3] تاريخ يهود النيل، ص227.
[4] شتات اليهود المصريين، ص 362.