الصدق منجاة
يكذب الإنسان عادةً لضعفه، فالكذب هو ضعف وخور في النفس، فمن كان ذا مكانة عليَّه عند من يُتحدث إليه، فلا حاجة له بالكذب.
- التصنيفات: تزكية النفس -
الحمد لله الهادي إلى صراطه المستقيم والطريق القويم، والصلاة والسلام على نبينا محمد الصادق الأمين، وآله وأصحابه الغر الميامين، ومَن اتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فالعقل دليل إليه والشرع آمرٌ به، ناهٍ عن ضده، والمروءة باعثة عليه، فصاحبه مصان جليل، وهو أَوَّل السعادة، والعون لمن اتصف به.
عباد الله، إنَّ المؤمن لا يسعه إلا أن يكون صادقًا فقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا؟ فَقَالَ: «نَعَمْ»، فَقِيلَ لَهُ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلًا؟ فَقَالَ: «نَعَمْ»، فَقِيلَ لَهُ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا؟ فَقَالَ: «لاَ»[1]. فصدقُ اللسان أوَّل السعادة، والصادق مصان جليل، والكاذب مهان ذليل، ولا سيف كالحق، ولا عون كالصدق.
ومـا شـيء إذا فـكَّـرتَ فـيـه *** بأذهبَ للمُروءة والجمال
مِن الكذبِ الذي لا خيرَ فيـه *** وأبـعدَ بالبَهـاء من الرجال
فاللهُ ذكر أولئك الرجال، فقال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].
فكان الصدق هو ما مدَحهم الله به، وأخبرنا الله أنَّ مرتبة الصِّديقين بعد مرتبة الأنبياء، وقبل مرتبة الشهداء، فأيُّ فضل يَعدِل هذا!
إن الصدق ليس شعارًا يرفع أو حُلَّة تُلبَس، إنما هو أقوال عليها من الفعل دليلٌ، وحذَّر الله الذي يفعله ويخالف قوله، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3].
فالصدق يدعو إليه العقل لحُسنه، وقُبح ضدِّه، والدين أمر به ورغب فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَمَا ثَلاَثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَمْشُونَ، إِذْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ، فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ وَاللَّهِ يَا هَؤُلاَءِ، لاَ يُنْجِيكُمْ إِلَّا الصِّدْقُ، فَليَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ فِيهِ»؛ الحديث، فكان سبب نجاتهم صدقهم مع الله، والمروءة داعية إلى الصدق باعثة عليه، وكانت العرب تأنف أن يؤثر عنها الكذب، وتحب الاشتهار بالصدق، وعُدَّ الكذب من علامات المنافق.
وفي قصة كعب بن مالك رضي الله عنه لعبرة لأولي الألباب، فعندما تخلف رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وبعد أنْ تاب الله عليه قال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَنْجَانِي بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَلَّا أُحَدِّثَ إِلَّا صِدْقًا مَا بَقِيتُ.
وما منعنه أن يعتذر كما فعل المنافقون قلة حيلته، أو ضعف حُجته، لكنه آثر الصدق، وتكبد لأجل ذلك المشاق حتى تنكَّر له أقرب الناس إليه، وضاقت عليه الأرض بما رحُبت، فإذا بفرج الله يأتي، وتنزل توبته؛ قال تعالى: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 118، 119].
أما عن حالنا اليوم، فيتحدث المرء بالحديث أو يرسله، ثم يتبعه بقوله: "حسب ما وصلني"، أو قوله: "منقول"، أو غيرها من العبارات، وكأنَّ هذا يخرجه من الإثم وتبعة ما قال، ويكون به مع الصادقين.
ألم يبلغه حديث الصادق صلى الله عليه وسلم: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ»، وقالت الحكماء: العينان أنمُّ من اللسان، فهي تخبر بصدق صاحبها من كذبه، وقال بعض البلغاء: الوجوه مرايا تريك أسرار البرايا.
تُريكَ أَعيُنُهُم ما في صُدورِهِمُ *** إِنَّ الصُّدورَ يُؤَدِّي غَيبَها النَّظَرُ
الصدق منجاة لمن اتصف به، فقد عُرِفَ الرسول صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه بالصدق، ووُصف به صاحبه أبي بكر الصِّديق، فقال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33].
فليس من الكياس والذكاء الكذب في شيء، فإنه خلق ذميم، وطبع لئيم، فإن كان ولا بد فإن في المعاريض ما يكفي أن يعف الرجل عن الكذب، فعندما أَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى المَدِينَةِ وَهُوَ مُرْدِفٌ أَبَا بَكْرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ شَيْخٌ يُعْرَفُ، وَنَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَابٌّ لاَ يُعْرَفُ، قَالَ: فَيَلْقَى الرَّجُلُ أَبَا بَكْرٍ فَيَقُولُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْكَ؟ فَيَقُولُ: هَذَا الرَّجُلُ يَهْدِينِي السَّبِيلَ، قَالَ: فَيَحْسِبُ الحَاسِبُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي الطَّرِيقَ، وَإِنَّمَا يَعْنِي سَبِيلَ الخَيْرِ.
قلتُ ما سمعت، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، إنه هو العفو الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب البرايا هادي الحيارى إلى الحق المبين، وصلى الله وسلم على نبيه وخير خلقه أجمعين المبعوث رحمة للعالمين، أما بعد:
فيا يأيها المسلمون، إن الصدق هو الطريق إلى كل خير، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ، وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا».
وأقبح ما يكون الكذب ممن لا حاجة له به، كمن كان ذا سلطان، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: وذكر منهم، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ»؛ رواه مسلم.
إنه يكذب الإنسان عادةً لضعفه، فالكذب هو ضعف وخور في النفس، فمن كان ذا مكانة عليَّه عند من يُتحدث إليه، فلا حاجة له بالكذب.
فكيف لابنٍ يرى أباه يكذب على مرأ ومسمع منه، فأنَّى له أن يكون صادقًا هذا، فالأبناء تربيتهم بالأفعال لا بالأقوال.
عباد الله، كونوا مع الصادقين تُفلحوا، وتَحَلَّوْا بالصدق تَربحوا، ففيه السعادة والنجاة: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واللهم جنِّبنا الفتنَ ما ظَهَرَ منها وما بطنَ، ربنا اغفرْ لنا ولوالدينا وجميعِ المسلمينَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201].
(1) وهو حديث ضعيف.
_______________
المؤلف: أحمد بن علوان السهيمي.