خلافات المسلمين .. وآثارها في عقيدة ومذهب الأمة

مثنى الزيدي

على أَيِّ مستوىً نظر القارئ، ومن أَيِّ مستوىً كان، وجد نار الخلاف مسعَّرة بين المسلمين، ذي الدين والعقيدة والمذهب الواحد، ولا يكاد يجد جامحاً لردعها من نفسٍ، أَو كيان، أَو جماعة.

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

على أَيِّ مستوىً نظر القارئ، ومن أَيِّ مستوىً كان، وجد نار الخلاف مسعَّرة بين المسلمين، ذي الدين والعقيدة والمذهب الواحد، ولا يكاد يجد جامحاً لردعها من نفسٍ، أَو كيان، أَو جماعة.

 

إِذ أصبح الخلاف هو السبب الوحيد الذي تجمَّعت حولَهُ كُلُّ خيوط النتائج الباقية مهما عَظُمت، كفقدان الوحدة، والقوة، والتمكُّن من حفظ العِرض والمال، وحتى النفس، والبقاء على الأَرض، وتوارث النوع، وإِقامة الشعائر لعبادة الله تعالى، والتي يجمعها كلَّها "العيش الطبيعي".

 

وهذه الحقيقة تضع فكرة تعليق كلِّ أَسباب النتائج المتقدمة الذِكر "بالحرب على الاسلام" على أَرض المَوات، ليكون قد آنَ للجميع الاعتراف أَنَّ أَسباب كل النتائج تلك "حربنا الخلافية وخلافاتنا الحربية".

 

وهذا سرُّ دعوة الله تعالى لنا بالصورة المباشرة لترك التنازع، إِذ أَنَّه المؤدي الى ما ذُكِر، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}  [الأنفال: 46].

 

وليس معنى ذلك الاختلاف، وانما هو الخلاف الذي يكون اساسه الهوى ومجانبة الحق لموازينٍ عارضةٍ ليس للدين فيها نسبة ونَسَب، وقد ذكَرَ سيد قطب في الظلال أَسباباً للخلاف المؤدي للنزاع ومنها قوله: "ولا يتنازع الناس إلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأَفكار... فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر، إِنما هو الهوى الذي يجعل كلَّ صاحب وجهة يُصرُّ عليها مهما تبيَّن له وجه الحق فيها! وإِنما هو وضع "الذات" في كفة، والحقَّ في كفة وترجيح الذات على الحق ابتداءً"، سوى الصحابة الذي كان خلافهم مهماً فكان للاجتهاد في أَسبابه ونتائجه موطن.

 

وتأَخر تقدُّم الامة، وأَضعف تماسكها، ووضع البداية لمسير التجريء عليها، هو النزاعات الداخلية التي بدأَت منذ العهد الراشدي، وإِلى هذا اليوم.

 

فبعد أَن كانت الاهتمامات منصرفة الى الفتوحات الإِسلامية، في البلدان، والامصار، والقارَّات، كان لأَثر حركة الردة السهم الكبير في ايقاف الفتوحات شيئاً ما، وانتقال الاهتمام إِلى أَوساط القبائل العربية الكبيرة، التي تطبَّعت بطابع الجفاء، مع حداثة العهد الاسلامي في أَوساطهم، زيادة على هذا التعلُّق بالمال الذي جعل الخروج على الزكاة في صدارة الاسباب، مما يؤكد ضعف الايمان بعد في قلوبهم.

 

فحدثت الحركات الانشقاقية التي ادعى بعض قادتها النبوَّة وانتحال صفة الرسالة دون ثقافة كافية بشخصيات النبوة وخصائصها ليؤكد الامر ضعف الثقافة والاطِّلاع، التي كانت في حوزة الأَعراب، وعدم كفاية الوقت في تقوية الايمان بالرسالة.

 

ولو وُضعت معارك الفتنة، كالجمل وصفِّين، والنهروان، في زمن سيدنا علي رضي الله عنه، على مواضع البحث نجد انها نتائج خلافية طويلة لأَسباب خلافية طويلة أَيضاً حول جريمة قتل سيدنا عثمان رضي الله عنه، التي هي أَبشع جريمة في صدر الخلافة الراشدة قام بها الخوارج، فهي تتَّصل بها وتتفرَّع عنها، وقد كادت أَنْ تودِي بالأمة بعدما تركت من الانقسام والخلاف الشديدين، والآلاف من القتلى في معارك الفريقين، كما استمرت آثارها متمثلة في أحزاب المعارضة للدولة الاسلامية التي استمرت في التأثير حتى على الحياة السياسية خلال العصر العباسي الأول خاصة، بل هي مؤثرة في الأمة حتى الوقت الحاضر.

 

حتى أّنَّ جريمة قتل سيدنا عمر لم تكن بأَبْعَدَ أَثراً لعدم التفرع عنها بالخلاف بين المسلمين الذي وصل الى القتال فيما بينهم، انما هي محاولة فارسية للتخلص ممن اصبح مأَمن بلاد المسلمين من توغلات الفرس واطماعهم المستمرة.

 

ومن أَبعاد الخلاف وآثاره طمع الروم ومحاولاتهم التدخل في شؤون المسلمين الداخلية والسياسية، إِذ طمعوا في ضمِّ بعض الأَراضي التي كانت تحت هيمنة معاوية إليهم، قال ابن كثير: "وطمع في معاوية ملك الروم بعد أَن كان أَخشاه وأَذله، وقهر جندهم ودحرهم، فلما رأَى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب علي تدانى إِلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمع فيه، فكتب معاوية إليه: "والله لئن لم تنته وترجع إِلى بلادك يا لعين لاصطلحن أَنا وابن عمي عليك، ولأُخرجنَّك من جميع بلادك ولأُضيقنَّ عليك الأَرض بما رحبت، فعند ذلك خاف ملك الروم وانكف، وبعث يطلب الهدنة"[1].

 

وتدخَّل الفرنجة الصليبيون حتى وصلوا الى الاندلس فأَسقطوها الى يومنا هذا، وكان سبب هذه النتيجة الخلاف بين ملوك الاندلس، وتتكرر هذه المأساة في حياتنا وفي واقع المسلمين، يوماً بعد يوم، في فلسطين، وأفغانستان، والشيشان، وإريتريا، والفلبين، ولبنان، والعراق، وبورما، والبوسنة والهرسك، واليوم في مصر، وسوريا.

 

فكلُّ مَلِكٍ من مُلوكِ الطوائف في الاندلس كان يتمنى أَن يبدأ الصليبيون بملك آخر، في احتلالهم، ظاناً أَنه إِن ساومهم سيتركوه، حتى استطاعوا بمساومتهم لبعضهم من إِسقاطهم كلهم، وكانوا على مَنْ ساومهم للدخول في بلادهم أَشد، كما فعل التتار في احتلالهم بغداد، وامريكا في احتلالها الاخير.

 

وشابهت أَفعالَهم ونتيجة "خلاف الهوى" بعضُ الطوائف والقوميات في العراق، والاحزاب التي انتسب بعضها للإسلام، وغير الاسلام، ومصر، وفلسطين، فكانت هي المشرِّع الاوَّل بخلافاتها لبقاء بلدانها تحت وطأَة الظالمين، وتخلف المسلمين، ويتوسع الخلاف فيكون بين اغلب الدول العربية التي تعمل انظمتها على اسقاط بعضها قبل تحصين نفسها، وكما عملت دول عربية في شقيقتيها في العروبة والدين مصر والعراق، لكنَّها تتفرج على سوريا وميانمار وفلسطين، لان الاسلام اشدُّ اثراً عليهم من الصهيونية.

 

ويضيق الخلاف ليكون في البلد الواحد بين مكوناته وابنائه، حتى يصل الى استشراء القتل والابادة.

 

ولكن... كلُّ ما تقدَّم يُبقي المسلمين الصادقين خارجين عن شبك المسؤولية الشاملة فيه، لكنَّهم يكونون المسؤولين الأَوائل فيما لو ضاق الأَمر قليلاً أَكثر مما تقدَّم، عندما يكون بين دين واحد، ومعتقد واحد، وهدف واحد، وحياة واحدة، ومصير واحد، والكلُّ يراه بعينيه، إِلا اذا كان أَعور البصر والبصيرة، أَعمى الايمان والصدق، وللمثال اقول: على ماذا يُبنى اختلاف اهل السنة فيما بينهم اليوم حتى يصل الحال بعلمائهم أَن لا يجلسوا او يجتمعوا في اعظم نوازلهم؟ وهل يمكن اخراجهم من مسؤولية تاريخية دينية حضارية اخلاقية وانسانية؟

 

وعلى ماذا يستقر اختلاف الهيئات والمجامع والروابط والمجالس؟ وفي مثل هذا الظرف؟ وخلاف هذه الهيئات والمجامع والروابط والمجالس خلافاً أَعمىً ناتجاً عن هوىً وحقد، وحسد، والطمع بالرياسة، ولو كانت الرياسة تلك شرعية فقهية، أَو دعوية للإسلام، والايمان، الذي يُفترض ان تكون اسسها وفروعها قائمة على ترك هذه الامراض التي اصبحت اسسا تقوم عليها وليس بذل كلِّ جهد من اجل الرقي في تركها ولهذا يصبح في أَوقات القائمين على هذه الخلافات وإِنشائها مساهمين في مساواة الدين أَو على الاقل التأَثير على سمعته مع ما هو دونه مما يتمثل فيه هذا الخلاف كأَساس في أُصوله كالسياسة مثلاً، والانحراف الديني عن معاييره ثانياً، وما يترتب على هذا وينتج من تراجع فردي وجماعي، حتى على المستوى الدعوي، وهذا ما نعيشه اليوم، في امثلة لا تحصر وهي حقيقة مبكية على الارض، مصاحبة لأمور مهمة كأَلم الصادقين في النفس، وانزواء الكثير من افضل العاملين في حقول الدعوة الى الله ومبدعيها خشيةً من اتهامهم فيما لو عملوا ضمن هيئة او جماعة انَّهم منها، وبالتالي فهم مشاركون بكلِّ ما تؤول اليه قرارات المتخالفين، مما يؤدي بالنتيجة الى توقف دعوي فردي مسبِّب عن التوقف الجماعي، أو الى لَصقِكَ مع فريقٍ منها كون الفريق الاخر حكم عليك بالإبعاد لعملك مع الطرف المخالف له، او الى اتهام في الميول والفكر عند عملك مع احد الاطراف، ثم اذا ما اتخذت قرار الانتصاف والعمل مع الجميع في مسافة واحدة كلُّهم اتهموك بانك لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء، وقد ظنَّ هذا بأنك توصل اخباراً لذاك، وبالمقابل ظن ذاك انك توصل اخباراً لهذا فخسرت الجميع، كما لو لم تعمل بأَي عمل يخسرك العمل لله ويخسرك الجميع ايضاً، أو قد تكون على اختيار البعض ربحت الجميع مع القطع بخسارة العمل لله، فتنقضي السنوات بين شد النفس والغيرة على نصرة الدين، وجذب رايات العمل المؤذنة لك افعالها -بسبب الاختلاف الذي لا تحتمله طبعا- بالتوقف، او عليك ان تختار التوقيع مع احدهم على المعية في المنشط والمكره الذي يفسر اليوم "بالخير والشر"، فتصبح حينها ذو وجهة واحدة لا تعارض "الجماعة والقيادة" حتى لو رأيت الخطأَ بعينيك.

 

وليس الامر منحصراً في النتائج السلبية لإيقاف الدعوة لدين الاسلام واعطاء رسالة سوداء عن حقيقته البيضاء، وليس الامر منحصراً أَيضاً بالضعف والعجز والتخلف المشاهَد اليوم عند الخطوب واحتدامها، وإِنَّما يتوسع للهلاك الشامل-لا سامح الله- والادلة المعروفة في الهلاك بسبب الاختلاف كثيرة ومحفوظة، اختار منها ما قاله عمرو بن شعيب عن أبيه عن ابني العاص أنهما قالا: "جلسنا مجلساً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كأَنه أَشد اغتباطاً فإذا رجال عند حجرة عائشة يتراجعون في القدر- يعني مسألة علمية تتعلق بالعقيدة - فلما رأيناهم اعتزلناهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلف الحجرة يسمع كلامهم، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مُغضَباً يُعرَف في وجهه الغضب حتى وقف عليهم وقال: "يا قوم بهذا ضلَّت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتاب بعضه ببعض وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض ولكن نزل القرآن يصدِّق بعضه بعضاً، ما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به، ثم التفت فرآني أنا وأخي جالسين فغبطْنا أنفسَنا أن لا يكون رآنا معهم"، قال البخاري رأيت أحمد بن حنبل وعلي بن عبدالله والحميدي وإسحاق بن إبراهيم يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده[2].

 

وهذا الاختلاف في مسائل علمية وإِن كانت عقدية، لكنها اذا اثَّرت فإِنها واقعة بطرفي الخلاف كأَفراد دون شمولها على جماعة المسلمين بالضرورة، كما لو كان احد طرفيها حاكم أَو خليفة كما حصل مع الامام احمد رحمه الله في فتنة خلق القران المشهورة، فعندئذٍ يختلف الامر لأنه قد توسَّع، فما بالك عما اذا كان الخلاف بين اقطاب مرجعيات يملكون مصير المسلمين عند القرار؟ وماذا نقول لو كان الخلاف قائما على مسميات واتهامات وظنون غالبها لا صحة له، وماذا لو كان بسبب مادي أو تعداد تَبَعي؟.

 

ولا نعيش اليوم عقوبة الهلاك المحتملة -لا سامح الله- وانما نعيش عقوبة معنوية، وهي ايضاً من اسباب الخلاف ولكنَّها تكون اخفُّ من الهلاك، فإِذا ما استمرَّ الخلاف اصبحت العقوبات المعنوية أَول طريق الهلاك، أَو ينقطع الخلاف فينقطع الهلاك، فهي كالمنذرة، ولمَّا تلاحى رجلان، ايضاً فردان، وليس جماعتان، في مسألة ليلة القدر كانت العقوبة المعنوية رفع ليلة القدر حتى مع وجود النبي صلى الله عليه وسلم بين اظهرهم، وكانت العقوبة المعنوية هناك هي "الحرمان"، وكم حرمان نعيشه اليوم؟، وقد قال الامام النووي في شرحه لحادثة التلاحي في ليلة القدر: "وفيه –اي الحديث- أن المخاصمة والمنازعة مذمومة وأنها سبب للعقوبة المعنوية"[3].

 

اذا ما علمنا هذا لا بد ان نعلم ان الله تعالى ينذر اولئك مهما بلغوا منازل الظواهر والمسميات بقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}  [آل عمران: 105]، واوجب على النبي صلى الله عليه وسلم البراءة منهم بقوله:  {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}  [الأنعام: 159]

 


[1] البداية والنهاية 8/122.

[2] اعلام الموقعين 1/260.

[3] شرح النووي على مسلم 8/63.