غدا يوم عرفة

خالد بن سعود الحليبي

يوم الرحمة الإلهية، أفضل يوم من أيام العشر، بل هو أفضل أيام السنة.

  • التصنيفات: الحث على الطاعات - العشر من ذي الحجة -

الحمد لله الذي خلق الأزواج كلها فكانت من أجلِّ مخلوقاته نفعاً، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له قدر كل شيء فأحسنه صنعًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله في البشرية جمعاً، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وصحبه المجاهدين، وعلى آل كل إلى يوم الدين.

 

فإننا في غدنا مقبلون - بفضل من الله تعالى - على أفضل يوم من أيام العشر، بل هو أفضل أيام السنة، قال أبو هريرة رضي الله عنه في أثر عنه لا بأس بإسناده في قول الله تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } [البروج: 3]، قال: ( الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة).

 

قَالَتْ عَائِشَةُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلائِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاءِ»[1].

 

ومن عظم هذا اليوم أن جاء بعده يوم العيد الأكبر، بعد أداء الحجاج أعظم أركان الحج، فهو فرحة بإتمام ركن النسك الأعظم، كما أن عيد الفطر يأتي بعد إتمام ركن الصوم في شهر رمضان المبارك فرحة بذلك، وشكرًا لله تعالى وتعظيمًا لشعائره.

 

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو ابْنِ الْعَاص - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي مَلائِكَتَهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا» [2].

 

وهو يوم الرحمة الإلهية، ففي الحديث الذي رواه مالك: «مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلا أَدْحَرُ وَلا أَحْقَرُ وَلا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ؛ وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ، إِلاَّ مَا أُرِيَ يَوْمَ بَدْرٍ» !!، قيل وما رأى يوم بدر يا رسول الله؟ قال: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلائِكَةَ» أي يرتبهم ويسوي صفوفهم.

لك الدين يا رب الحجيج جمعتهم 

لبيت طهور الساح والعرصاتِ 

أرى النا س أصنافًا ومن كل بقعة 

إليك انتهو ا من غربة وشتاتِ 

تساووا فلا الأنساب فيها تفاوت 

لديك ولا الأقدار مختلفاتِ[3] 

 

سئل عن صومه رسولنا صلى الله عليه وسلم فقال: «أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده» [4]، وقد كان السلف يحرصون على صومه أكثر من أي يوم من آخر، تقول أمنا عائشة رضي الله عنها: (( ما من يوم من السنة صومه أحب إلي من يوم عرفة )).

 

قال البيهقي بعد إيراد قول أنس بن مالك رضي الله عنه: " كان يقال في أيام العشر كل يوم ألف يوم، ويوم عرفة عشرة آلاف"، قال: يعني في الفضل. وهذه المضاعفة تختلف باختلاف الصائمين في الإخلاص، والتحفظ في الصوم، فكل من كان أشد تحفظًا وأكثر يقينًا كان صومه أكثر ثوابًا.[5]

 

ومما ينبغي معرفته أن استحباب صوم يوم عرفة إنما هو لغير الحاج، أما الحاج فلا يشرع لـه صومه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم في عرفة، بل نهى عن ذلك فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة بعرفات ))[6].

 

ولهذا اليوم خصوصية في عبادة الذكر والدعاء ففي الموطأ عن طلحة بن عبيد مرسلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيـ كَ لَهُ» قال الألباني في الصحيحة: ((إسناد مرسل صحيح وقد وصله ابن عدي والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً وزاد: ((له الملك وله الحمد، يحي ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير)).

 

هنيئًا لوفود الرحمن وقوفهم عند جبل الرحمة مقبلين على الله، منيبين إليه، ونفوسهم تتطلع إلى مغفرة الله والفوز بجنته والعتق من النار.

 

طوبى للحاج الذي لا يغفل عن الذكر والشكر، والإلحاح بالدعاء والتلبية باكيًا على ما كان من الذنوب والآثام، سائلاً المولى العزيز العون على طاعته، رافعًا إلى مولاه كل حاجاته؛ ليستأنف بعد حجه حياة جديدة مليئة بالنور والخيرات.

 

وطوبى لمن شارك الحجاج يومهم هذا بصيامه، والإكثار من الذكر والدعاء، متعرضا لنفحات الله تعالى فيه، فإن الله جواد كريم، لا يرد من سأله خيرا.

 

أسأله تعالى أن يشملنا برحمته، وأن يتقبل من حجاج بيت الله كل قول وعمل أرادوا به وجهه، وأن يمن عليهم بإتمام حجهم في أمن وسلام، وأن يعيدهم إلى ديارهم بحج مبرور وسعي مشكور وعمل صالح متقبل مبرور إنه سميع مجيب.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 


[1] [رواه مسلم].

[2] [رواه أحمد بإسناد لا بأس به].

[3] [ الشوقيات: 1 /99].

[4] [رواه مسلم].

[5] [فضائل الأوقات: 362].

[6] [صحيح على شرط البخاري].