صيرفيُّ العلماء، وصائغ طلاب العلم
فهذه نبذة يسيرة، وقليل من كثير استفدته واستفاده غيري ممن صحب شيخنا العلامة ساعد بن عمر غازي رحمه الله.
لا يجد كاتبٌ مهما أوتي براعة اليراع إلا أن تلفَّه حيرة تُذهب معاقد تركيزه ولُبِّه، خاصة في الحديث عن حال شيخنا العلامة المحدث ساعد بن عمر غازي رحمه الله تعالى.
فهو رجل ذو مواهب، جامعٌ من كل فضيلة بطرف، وحائز من الملكات أحسن وصف، بتواضعه مع رَوِيَّة في طرح أفكاره، وهذه الأخيرة كانت سبباً في تميُّز نوعية ملازميه وأصفيائه؛ من لا يعرفه يزهد فيه وييأس مما عنده، أما الملازِم فتنكشف له معالم ذهن حادّ وفكر وقّاد، تشغله الأفكار والنقاشات ليل نهار، لا يكاد يستجم، ينقد بأدب ويميز الغث من الثمين، ويزن المعلومة، وينظرها بميزان دقيق؛ يستقري مردديها، وينقر عن قائلها الأول، ويقيد مطلقها، ويخصص عامها؛
فشعاره: «العلم أن تفيد وتستفيد»، «أصحح خطأ غيري أو يصحح خطأي».
ولا يكاد يرضى عن معلومة مُرسلة، ذكرتَ شيئاً فأسنِده، وقلت فدلِّل عليه، ليكن علمك علم بحث لا علم تقليد وتبعية.
وأعذروني فقد رأيت ذلك وأكثر، لذا فإني أسميه: "صَيرفيّ العلماء.. وصائغ الطلاب".
لمستُ منه الكثير، وعشته يوماً بيوم طيلة 14 عاماً، وعاش هو قلبي وأوراقي؛ في كل ورقة أكتبها، وكل مسألة أحررها؛ وقلت له كثيراً: "إذا سقطتُ في إشكال علمي تذكرتُ طريقتكم في المباحثة، وأحاكيها" فكان يبتسم.
وهنا سوف أذكر بعض أوجه استفادتي من شيخنا رحمه الله -ولعل الله يمنّ بعد بإفاضة- ومن ذلك:
«فتح باب الاستفادة من الطلاب»:
فمن جميل المعاني التي طُبع عليها -وحاول نشرها عملياً- الدندنة حول تلاقح العلم بين أجيال مختلفة وأفهام متباينة؛ بأن يشق العالم أو المعلم لنفسه طريقاً للاستفادة من تلامذته؛ بتكليفهم تارة، والسؤال والاستفتاء أخرى، والمناقشة تارات، فكم عرض عليَّ أفكاراً لنقدها ومسائل للبحث والنقاش، وأذكر أنا مكثنا عدة أشهر ليس لنا بحث إلا تخريج علة حديث وتوجيهها.
فهذا والله! لكأنَّه بابٌ من النبوغ مُشرَع، وهي سنة سلفية، لكنها السنَّة المهجورة، والخير المغفول عنه؛ فلافتقاره إلى دُربة واتِّضاع وتأهُّل قلبي؛ فإن هذا الخُلُق لا يكاد يَلين إلا للواحد بعد الواحد، وهذا الزمن لا يُتَصَّور فيه أن يقوى قلبٌ على تحريرٍ منفرداً، إلا بمعونة، أو عرضٍ على مشايخه وإخوانه؛ بهم تَنجلي الإشكالات، وتنمو الفِطَن، وتعرف بما قالوا ما لم يُقَل، وأعرفُ مَن نبغ في عصرنا بنباهة طلابه، وتشاركه معهم في العلم والبحث.
«لا تكثِّر أعداءك في مفتتح عمرك العلمي»:
جئتُهُ يوماً حيث وهج الشباب والجرأة على المسائل والنقد، فقال: «لا تكثر أعداءك في مفتتح عمرك العلمي»، فكان من بركات ذلك تنوعُ التحصيل والاستفادة ما أمكن مِن كل مَن لاقيتُ وإن كنتُ أخالفه، وكان هذا النصح مفتاح خير عليَّ.
وكان ينصح كثيراً بتنويع المشايخ والاستفادة من الجميع، وكان يقول لي: "لازم فلاناً واستفد منه"، و "مَن آخر مَن لاقيتَ؟"، و"كيف هو علم فلان؟"، و"ماذا استفدت منه؟"، ويستمع وينصح، ويقول لي: "دَوّن هذه الأشياء، وابحث وراءه".
«لا تنبهر بأحد من الناس، واستفد من الجميع»:
كثيراً ما يذكر في مجالسه الخاصة وفي سياق النقاشات، وكثيراً ما ردَّني عن الغلو في بعض أهل العلم ومنتسبيه، ويكبح جماح الغلو ويحرر العقلية وينمي الشخصية الناقدة البحاثة، بتلك العبارة ومثيلاتها القيمة: «لا تنبهر بأحد من الناس». ويقول: دائماً: «طالب العلم ينبغي له أن يعرف أقدار العلماء، وأن يستفيد من جميع الناس، ولا ينبهر بأي أحد، ويعطي كل واحد قدره».
ولا شك أن مقام الاستفادة غير مقام التبعية والتلمذة، فلا يلازم الطالب إلا مَن يثقُ في دينه وعلمه ومنهجه ومنهجيته، ولا تدل الطلاب إلا على مَن كان محل الثقة، أما الاستفادة العامة كتقرير فائدة، أو تعقُّب أو تحقيق مسألة أو حديث، فاستفد من أي إنسان، وانظر ما وافق الشرع فاقبله منه.
«طالب العلم لا بد أن تكون لديه قابلية للتغيير وتطوير نفسه»:
فكان الشيخ دائماً ما يذكر بأن طالب العلم لا بد أن يغير من نفسه إلى الأمام، ويطور إمكاناته، ويتعلم جديداً، ويحاول الاستفادة ما أمكن من كل ما يقرأه أو يسمعه.
ومن جميل ما صرح به إلي على تردد في ذكره، أنه لما طُبع كتابي مدارج التعلم طبعته الأولى، صرَّح إليَّ أنه من جيل تعلم بطريقة صعبة، وخاطئة، ولم يكن في جيلهم من يدندن حول التأصيل العلمي والمنهجية في الطلب، فكان يقرأ كل ما يتاح له لا عن منهج صحيح في الطلب.
وقال: «أنا أحد هؤلاء، ويعلم ما أحدثته المنهجيات الخاطئة في جيله، وما أحدثته فيمن تخرج عليها وما زال، لقد تركتُهم وعدتُ، فوجدت أن أمر الخلاص من ذلك في الأتباع أصعب».
«قراءة نتاج طلابه والاستثمار فيهم والصدق في ذلك»:
فقد أوتي شيخنا رحمه الله صبراً على الصبر في هذا الأمر، ومن عانى المراجعة يعلم ثقلها، فكان الشيخ يجلس بالساعات الطوال تقارب 7 ساعات متواصلة في النقاش حول مسائل كتاب معين، والقراءة والتعقيب والرد والإبطال، وكان يشجع طلابه بشكل لافت، وما رأيت مثله في بعث همة الطالب على البحث والمواصلة، لكأنه يسحر الطالب بجميل عطفه وصدقه في النصح، والإفادة.
ومن ذلك أني جالسته لمراجعة كتابي أعمال الكافر متعدية النفع، في عام 1428هـ، وقد امتدت الجلسة من صلاة العصر حتى الواحدة ليلاً، ولا يتبرم، ولا يخرج عن موضوع الجلسة، وتلا ذلك جلسات أخرى، وأذكر أيضاً أني قرأت عليه كتابي الغرور العلمي، مرتين؛ إحداها في الحرم المكي في آخر عمرة اعتمرها رحمه الله، والمرة الثانية فكانت عن طريق الاتصال بالهاتف، يعقب، ويثري، وينقح.
ولا أنسى موقف الشفقة على طلابه، فقد كان يقلق جداً لمرضهم أو تأخرهم أو تغيرهم، وقد رأيت من ذلك الكثير، ومنها أني ذكرت له نتاج تحليل طبي لي، واشتباه بمرض معين، فما كان منه إلا أن انفجر في البكاء، ولم يقدر مدة على الكلام، وظل يتمتم بالدعاء، وقابلت شيخنا الشيخ عبدالمنعم مطاوع حفظه الله بعد فترة، فذكر أن الشيخ ساعد كان قد تأثر لهذا الموقف، واتصل على إخوانه في رمضان يطلب منهم الدعاء لي.
وأذكر في جانب رقة قلبه أنه في إحدى جلساتي معه قبل وفاته بعام، فقد زرته في بيته، في شقة مكتبته، ودخلت معه غرفة سريره يبحث عن كتاب، فأطلعني على كتاب لأحد مشايخنا قد بعثه إليه لينظر فيه ويراجعه قبل الطباعة الأخيرة، فأراني الشيخ موضعاً اعتذر المؤلف عن حل للإشكال، وأنه لم يجد نقلاً معيناً مع شدة تقصيه، فقال لي شيخنا، بحثت عن ذلك والحمد لله وجدته، وهو كذا وكذا، فسكت الشيخ وبكى ، فلما انتهى من ذلك، حمد الله وأثنى عليه؛ أن أطلعه الله على ذلك، وذكر لي أنه شرب ماء زمزم قديماً بنيَّة أن يوفقه الله في بحث مسائل العلم، وأنه إذا طلب شيئاً من المسائل وجدها.
«الانحراف في البداية يولد انحرافاً كبيراً في النهاية»
فكان شيخنا يدندن حول هذه دوماً، ليتحرى الطالب نوعية مَن يستفيد منه، ويكون عنده ميزان يَزِنُ به الأقوال والرجال والكتب. وصدق، فمن عُلم منه انحراف في الاعتقاد أو التزكية ولو يسيراً، لا يلبث إلا أن يكون مناوئاً غالياً، ويسرب خطأه في ثنايا الدروس.
وأعلم فيمن لقيتُ شيخاً في القراءات يعلم الاعتقاد الأشعري لبعض منتسبي أهل السنة والجماعة في ثنايا مجالس الإقراء.
وأذكر أن طالب علم درس على يد أحد الغلاة في التكفير المتمكنين في علوم الآلة، وتساهل في ذلك، وما هو إلا أن آل أمر هذا الطالب بالغلو في التكفير؛ فخذ العلم عن المتّزن، السُّني، المستقيم، معظّم السلف، الذي يعلمُك البحث عن الحق، ويحذرك من التقليد، وليس شرطاً ألا يخطئ في العلم.
«الرضا عن الله والصبر على أقداره»:
وهذه والله كانت من أكثر ما يلفت نظر أصحابه وتلامذته، فكان يكثر من شكر الله تعالى جداً، وذكره، والامتنان بما حباه، ورضاه عنه سبحانه، ودائماً ما يُذكّر بهذا إخوانه وتلامذته.
وقد ذكر لي أكثر من مرة قصة أحد من أضلهم الله، وقد كان إماماً في العلم فزاغ، ومات على الإلحاد، وذكر أن سبب انتكاسته هي عدم رضاه عن الله، وعدم شكر الله، والاعتراف بجميله، سبحانه.
فهذه نبذة يسيرة، وقليل من كثير استفدته واستفاده غيري ممن صحب شيخنا العلامة ساعد بن عمر غازي رحمه الله.
والله تعالى أسأل أن يرحمه ويغفر له، ويجعل ما كتبه في العلم، ونُصحَه وتعليمَه حجة له، واجمعنا اللهم به مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتب
السعيد صبحي العيسوي
مكة المكرمة
5- 12- 1441 هـ