معرفة الله فطرية

مصطفى حلمي

هاجم ابن تيمية القياس الأرسططاليسى، وأداه ذلك إلى البحث - كما أوضح أستاذنا الدكتور النشار - في مادة القضية "من نواحي منطقية وابستمولوجية وميتافيزيقية وفيزيقية وإنسانية ودينية

  • التصنيفات: العقيدة الإسلامية - النهي عن البدع والمنكرات -

هاجم ابن تيمية القياس الأرسططاليسى، وأداه ذلك إلى البحث - كما أوضح أستاذنا الدكتور النشار - في مادة القضية "من نواحي منطقية وابستمولوجية وميتافيزيقية وفيزيقية وإنسانية ودينية"[1].

 

وسنحاول أن نعرض بإيجاز لرأي ابن تيمية في الاستدلال على إثبات الله، من هذه النواحي المتشابكة في الفكر التيمي.

 

إنه يرى أن كثيرًا من المعارف (قد يكون في نفس الإنسان ضروريًا وفطريًا، وهو يطلب الدليل عليه لإعراضه عما في نفسه وعدم شعوره بشعوره[2]، ويضرب على ذلك مثلًا بأن كثيرًا من المؤمنين يجدون في قلوبهم محبة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولكنهم بعد النظر في آراء الجهمية والمعتزلة نفاة المحبة، يقعون في الشبهات التي أثاروها وربما أدت بهم الحال إلى إنكار ما في نفوسهم من محبة[3].

 

ينبغي إذن على المؤمن أن ينصاع إلى هذه المعرفة الفطرية، فإن أصل العلم الإلهي ومبدأه، ودليله الأول، عند الذين آمنوا هو الإيمان بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -"[4].

 

وهكذا كانت طريقة الأنبياء عليهم السلام في الدعوة: يدعون الناس إلى عبادة الله أو، بالقلب واللسان[5].

 

وربما كان أحد الدوافع الكامنة وراء هدم الشيخ للمنطق الأرسطي، هو محاولته البرهنة على سلامة منهج الأنبياء القائم على الفطرة.

 

وهذا يدعونا إلى دراسة نبذة لآرائه المنطقية المتصلة بإثبات الله عز وجل بواسطة النظر في الإنسان نفسه وفي الآفاق.

 

إن نظرة ابن تيمية للقضية الكلية ونقده لها كان بمثابة مقدمة للبرهنة على يقينية القضية الجزئية المستمدة من التجربة الشخصية. فعلم الإنسان بأنه لا بد لكل محدث من محدث ولكل مخلوق من خالق، ولكل أثر من مؤثر، وهكذا مما يعد من القضايا الكلية، ليس موقوفًا على الصفة العامة الكلية "بل هذه القضايا المعينة قد تسبق إلى فطرته قبل أن يستشعر تلك القضايا[6].

 

إن معرفة حكم المعينات إذن لا يتوقف على القضايا الكلية، بل إن هذه الطريقة في الاستدلال - أي الاستدلال على قضية جزئية معينة بواسطة القضية العامة الكلية - ليس شرطًا في العلم. ويذهب شيخنا الى العكس من ذلك فيرى أنه (قد يجزم بالمعينات من لا يجزم بالكليات، ولهذا لا تجد أحدًا يشك في أن هذه الكتابة لابد لها من كاتب، وهذا البناء لابد له من باني، بل يعلم هذا ضرورة"[7].

 

فإذا ما انتقل الى البرهنة على أن معرفة الإنسان لربه فطرية، فإنه يستشهد بما سبق أن أوضحناه من معرفة الإنسان بأنه لم يحدث نفسه، ثم بموقفه من الأمور المألوفة لديه والتي اعتاد رؤيتها في أغلب الأحوال كالبناء الذي يراه لابد له من بان، والكتابة لابد لها من كاتب، والآثار التي يراها على الأرض لابد لها من مؤثر وغير ذلك مما يشاهده ويألفه.

 

أما المتجدد الغريب، كالرعد والبرق والزلال، فإنه يكون داعيًا قويًا لتأكيد المعرفة الفطرية بالله ولهذا كانت فطرة الخلق مجبولة على أنهم متى شاهدوا شيئًا من الحوادث المتجددة.. ذكروا الله وسبحوه"[8].

 

وإذا علم الإنسان أنه لم يحدث نفسه، كما أن أحدًا من البشر لم يحدثه، عرف أن له خالقًا يتصف بالحياة والعلم والقدرة، لأن هذه الصفات يمكنه معرفتها عن طريق الاستدلال بطريقة الأولى بمقارنتها بغيره من المخلوقين.

 

إن علم الإنسان إذن "بنفسه المعينة المشخصة الجزئية يفيده العلم بهذه المطالب وغيرها، كما قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}  [الذاريات: 21][9]. وذلك دون توقف معرفته بهذه القضية الجزئية على قضية كلية. ويذهب شيخنا إلى أن مخلوقات الله كلها آيات عليه، فمعرفة ذلك لا تفتقر إلى قياس كلي - تمثيلي أو شمولي- ولا تتوقف عليه، وإن كان هذا القياس مؤيدًا لها.

 

وهذا الاستدلال بالآيات يسميه "علم القلوب" إشارة إلى الفطرة فيقول "ولكن علم القلوب بمقتضى الآيات والعلامات لا يجب أن يقف على هذا القياس"[10].

 

إن ثبوت موجود قديم وواجب بنفسه معلوم - إذن - بالضرورة[11] ويصرح بأن الإقرار الفطري بوجود الله يظهر كأوضح ما يكون عند الفزع إليه في الشدائد، فهو من قبيل المعارف التي تحصل في النفس بالأسباب الاضطرارية، وهي "أثبت وأرسخ من المعارف التي ينتجها مجرد النظر القياسي"[12].

 

وإذا أردنا بحث العلاقة بين ما فطر الناس عليه من الإقرار بأن الله ربهم[13] وبين الأكثرية الغافلة عما فطرت عليه من العلم[14]، لأمكننا العثور على سبب إعطاء ابن تيمية لدور الأنبياء والرسل الأولوية في المنهج الذي ينبغي اتباعه في العقائد والعبادات. أنهم يذكرون الناس بما غفلوا عنه "ولهذا توصف الرسل بأنهم يذكرون"[15].

 

وكان من نتائج نظرة الشيخ إلى المعرفة القلبية بوجود الله أن جعل الدين نفسه "أول ما يبنى من أصوله قائم بالقلب، ويكمل بفروعه"[16].

 

ولكى يزداد الأمر إيضاحًا، فلننظر فيما يراه من قصور في المنهج الصوفي - وأساسه تصفية القلب بترك الشهوات البدنية مع ملازمة الخلوة والاستغراق في العبادة.

 

إننا نعرف عن الغزالي أنه اختار طريق التصوف مرشدًا إلى الله، وموصلًا الى اليقين بعد أن استبعد باقي المناهج، إذ رأى أن جميع حركات الصوفية وسكناتهم مقتبسة من مشكاة نور النبوة وأول شروطها هو "تطهير القلب بالكلية عما سوى الله ومفتاحها استغراق القلب بذكر الله"[17].

 

ويذكر ابن تيمية هذه النتيجة التي وصل إليها الغزالي ويجعلها المقدمة والبداية فيقول "يستفاد من كلامه أن أساس الطريق: هي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، كما قررته غير مرة. وهذا أول الإسلام، الذي جعله هو النهاية"[18].

 

كما يعجبه رد الشيخ نجم الدين البكري على سؤال كل من أبي عبد الله الرازي وأحد متكلمي المعتزلة عن تعريفه لعلم اليقين، فأجاب الصوفي "علم اليقين عندنا واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها"[19].

 

غير أنه يخشى أن يصل الصوفي الذي لا ينظر في الدليل الهادي - وهو الكتاب والسنة - إلى تأله مطلق على نحو ما يصل إليه أرباب القياس. فإن التصفية المتضمنة لترك الشهوات البدنية من طعام وشراب، مع ملازمة الخلوة والاستغراق في العبادة، هذا كله يؤدي إلى التأله ومعرفة مطلقة بثبوت الرب ووجوده، ولكن هذه المعرفة قد تتوارى وتختفى "بملابسة الأمور الطبيعية، من الطعام والاجتماع بالناس، فإن سببها إنما هو ذلك التجرد، فإذا زال زال"[20].

 

يصل من هذا إلى أن العلم الفطري المجمل بالله لابد أن يصحبه الدليل الذي جاءت به الرسل، وأفضلها القرآن. وهذا هو طريق الصحابة حيث يعبر لنا جندب بن عبد الله البجلي وغيره من الصحابة بقولهم: "تعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا ايمانًا"[21]، فزيادة الإيمان ناجمة عن كثرة العبادة لله، وذكره، ودعائه، فإن "كل من كان بالله أعرف، وله أعبد، ودعاؤه له أكثر، وقلبه له أذكر، كان علمه الضروري بذلك أقوى وأكمل، فالفطرة مكلفة بالفطرة المنزلة"[22].

 

ونستطيع أن نستنتج أنه ينقد كل ما يخالف هذه الفطرة المنزلة، ويضع ما يخالفها تحت أسماء "المادة الفلسفية الصابئة" أو المادة الإرادية النصرانية، أو المادة الكلامية اليهودية[23].

 

وإذا كان الإقرار بالله عند ابن تيمية فطريًا - وهو أن الاعتراف بوجود الصانع ثابت بالفطرة[24] فماذا يعني بالفطرة المنزلة؟

 

(يتبع)

 


[1] دكتور النشار- مناهج البحث ص 239.

[2] ابن تيمية - منهاج السنة ج 3 ص 100.

[3] نفس المصدر والصفحة.

[4] مجموعة فتاوى ج 2 ص 1.

[5] نفس المصدر ص 15.

[6] ابن تيمية- بيان موافقة صريح المعقول ج 3 ص 92.

[7] ابن تيمية- بيان موافقة صريح المعقول ج 3 ص 25.

[8] موافقة صريح المعقول ج 3 ص 95.

[9] نفس المصدر ص 96.

[10] نفس المصدر ص 98.

[11] الرسائل الكبرى ج 1 ص 111 أو 113.

[12] ابن تيمية. مجموعة الرسائل الكبرى ج 2 ص 81.

[13] جامع الرسائل ص 11.

[14] نفس المصدر ص 16.

[15] نفس المصدر ص 16.

[16] السلوك ص 355.

[17] الغزالي. المنقذ من الضلال.

[18] ابن تيمية. مجموع فتاوى ج 2 ص 57.

[19] نقض المنطق ص 38.

ويضيف في نص آخر إجابته: "إن علم اليقين عندنا هو موجود بالضرورة لا بالنظر". مجموع فناوى ج 2 ص 76 ويعلق ابن تيمية على ذلك بقوله: "وهو جواب حسن".

[20] مجموع فتاوى ج 2 ص 64.

[21] نقد المنطق ص 34.

[22] نفس المصدر ص 39.

[23] مجموع فتاوى ج 2 ص 73 ويقصد بذلك المتأثرين بفلسفة الإشراق والصوفية والمعنيين بالإرادة وحدها والمتكلمين المتأثرين باليهود ناقلين عنهم مشكلة (خلق القرآن).

[24] مجموع فتاوى ص 72.