المتوفِّي أم المتوفَّى؟
الـمُتَـوَفِّـي أم المُتَـوَفَّـى
- التصنيفات: التفسير - اللغة العربية -
المُتَوَفِّي[1] أم المُتَوَفَّى[2]
أمّا الأوّل على (صيغة اسم الفاعل من غير الفعل الثُّلاثي) [3]: وهو الله تعالى، الّذي يَتوفَّى الأنفسَ حين موتِها. قال عزَّ شأنُه: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}[4].
وأمّا الثاني (على صيغة اسم المفعول من غير الفعل الثّلاثي) [5]: وهو الإنسانُ الّذي اِستوفَى اللّهُ عزّوجلَّ مدَّةَ حياتِه، فلم يَبْقَ له منها شيءٌ؛ فحَلَّ أجلُه لانقضاءِ عُمْرِه.
ذا، هو الفارق بين اللّفظتين في لسان العرب، وبينهما من التّباين في الدّلالة ما علمتَ من التّباين بين الخالق والمخلوق.
وعليه؛ فاحذرْ زَلَّةً من لَحْمَة بين شِدقيْن تجمع في رَسْمِها بين دَلالتين.
وقد وقعت فيه لطائف يحسُن إيرادها وهي:
1. حُكِيَ[6] أنّ بعضَهم حضرَ جنازةً فسأله بعضُ الفضلاء وقالَ: مَنِ المُتَوَفِّي؟. بكسر الفاء [المُشدَّدة]، فقال: اللّهُ تعالى، فأنكرَ ذلك إلى أن بُيِّنَ له الغلط. وقال: قُلْ: مَنِ المُتَوَفَّى بفتح الفاء [المُشَدَّدَة].
وبعضُهم يذكر أنّ المسؤولَ هو: عليُّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه.
2. " وممّا يُذكَرُ في هذا السِّياق كذلك ما رواه أحد اللُّغويّين قال: مررتُ في طريقي فرأيتُ جنازةً تُشيَّعُ، وسمعتُ رجلاً يسألُ: مَنِ المُتَوَفِّي (بالياء)، فقلت له: اللّهُ سبحانه وتعالى؛ فضُرِبتُ حتّى كِدْتُ أموتُ "[7].
3. وفي محاضرات الأدباء (1 /1 /66) قال الأصبهانيّ: " ومرَّ رجلٌ بدار ميِّتٍ فقال: مَنِ المُتَوَفِّي؟. فقالَ له رجلٌ: اللّهُ. فقالَ له: يا كافر، اللّهُ يموتُ؟. فقالَ: لعلَّكَ تُرِيدُ المُتَوَفَّى؟. ".
هذا، وقد أجاز في معجم الأخطاء الشّائعة (ص271) على مَضَض أن يُقالَ: تَوَفَّى فلانٌ[8] اِعتمادا على:
أ- أنّ الإمام عليّا رضي اللّه عنه يقرأ الآية الكريمة 234 من سورة البقرة: {وَالَّذِينَ يَتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ …} بالبناء للفاعل.
والجواب: أنّ معنى الآية الكريمة على قراءة البناء للمعلوم هو: استيفاءُ الأجل، والفعل تَوَفَّى هو مِن تَوْفِيَةِ العَدَدِ، وليس مِنْ الوفاة، يَدُلُّ على ذلك أمورٌ منها:
• ما جاءَ في ملحق دُرَّة الغوّاص (ص290): " ومنه قول منظور الوبريّ[9]:
إِنَّ بَنِي الأَدْرَدِ لَيْسُوا مِنْ أَحَدْ
وَلاَ تَوَفَّاهُمْ قُرَيشٌ فِي العَدَدْ
ونظيرُه قولُه تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [10]، وهو مِن تَوْفِيَةِ العََدَد، وليس مِن الوفاة، أي يَقبضُ أرواحَكم أجمعين بأمرِ ربِّه، فلا يُنقِصُ واحدًا منكم، كأنْ تقول: تَوَفَّيْتُ مِن فلانٍ مالي واِستَوْفَيْتُهُ، أي: لم يَبْقَ لي عليه شيءٌ منه … ".
• وقال في المعجم الوسيط (ص1047): " تَوَفَّى … فلانٌ حقَّه: أخذه وافِيًا. ويُقالُ: تَوَفَّيْتُ منه مالي: لم يَبْقَ عليه منه شيءٌ. و[تَوَفَّى] المُدّة: بَلَغَها واِسْتَكْمَلَها. وتَوَفَّى عَدَدَ القومِ: عَدَّهَم كُلَّهُم ".
• قال العلاّمة بكر بن عبد اللّه أبو زيد في معجم المناهي اللّفظيّة (492): " وفي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ …} [11] قراءتان، بالبناء للمعلوم وللمجهول. وأنّها على قراءة المبني للمعلوم (يَتَوَفَّوْنَ) بمعنى (اِسْتِيفَاء الأجل) قاله ابن النَّحّاس[12] وغيرُه. واللّهُ أعلمُ ".
ب- أنّ الوجهَ في تَخطِئةِ العامِّي كونه ليس من أهل القصد والتّأويل، أي أنّ الإمامَ حدَّثَ السّائلَ بما يَقْتضيه الحالُ، وما يَسْتوعِبُه لُبُّه.
والجوابُ:
• أنّ الرِّوايةَ ورد فيها: " بعض الفضلاء". فلا يمكن اعتبار الرّجل من عوامّ النّاس.
• أنّ الأصلَ في كلام الإمام رضي اللّه عنه أن يُحمَلَ على حقيقتِه، وذلك باعتبار ما بدر منه تَقْوِيمًا للسان ذاك الرّجل الفاضل. وأمّا العُدول به إلى ضربٍ من التّأويل فليس يُقبلُ إلاّ إذا دلَّ عليه المقامُ، أو بعضُ قرائن الأحوالِ.
وللعلاّمة الألبانيّ[13] التفاتةٌ طيِّبة، وتأصيلٌ شرعيّ لهذه المسألة، قال – رحمه اللّه تعالى -: (فلانٌ تَوَفَّى: أي استوفى أجلَه. وخيرٌ منه أن يُقالَ: فلانٌ تَوَفَّاهُ اللّهُ؛ لأنّ الأوّلَ فيه إيهامٌ، والكلام من المُوهِمات ليس من أدب الإسلام، وهو يحتاج إلى تأويل، والكلام المؤوَّلُ لا حاجة إليه ما دامَ أنّ في الكلام سَعَةً في التّعبيرِ السَّليمِ. قال عليه الصّلاة والسّلام: «لا تَكَلَّمَنَّ بِكَلاَمٍ تَعْتَذِرُ به عند النّاسِ» [14].
ويُراجع:
1. أخطاء ألفناها (ص185).
2. أخطاء شائعة للنّتيقي سليمان بن عبد اللّه – المجموعة الخامسة.
3. أساس البلاغة (ص505).
4. الإعلان بالتّوبيخ لمن ذمَّ التّأريخ (ص46).
5. تطهير اللّغة من الأخطاء الشّائعة (ص20 رقم 33).
6. درّة الغوّاص (ص289 - 290 رقم 33 الملحق).
7. الصّحاح (6 /2526 وفى).
8. غريب القرآن (ص221).
9. لسان العرب (15 /400).
10. مختار الصّحاح (ص731).
11. معجم الأخطاء الشّائعة (ص271 رقم 1165).
12. المعجم الوسيط (ص1047 ع3).
[1] بكسر الفاء المشدَّدَة وآخره ياء.
[2] بفتح الياء المُشَدَّدَة وآخره ألف مقصورة.
[3] يُصاغُ اسم الفاعل من غير الثُّلاثي على وزن مضارعه المبني للمجهول بإبدال حرف المضارعة ميمًا مضمومة، وكسر ما قبل آخره نحو: تَوَفَّى يُتَوَفَّى مُتَوَفِّى. – بتصرُّف يسير من ملحق درّة الغوّاص ص290 هامش1 -
[4] الزُّمَر/42.
[5] يُصاغُ اسم المفعول من غير الثُّلاثي على وزن مضارعه المبني للمجهول بإبدال حرف المضارعة ميمًا مضمومة، وفتح ما قبل آخره نحو: تَوَفَّى يُتَوَفَّى مُتَوَفَّى. – بتصرُّف يسير من ملحق درّة الغوّاص ص290 هامش3 -
[6] نقلا عن معجم المناهي اللّفظيّة (ص492). وانظره في محاضرات الأدباء (1 /1 /66)، والوافي بالوفيات (1 /54 المقدِّمة – الفصل الثّامن).
[7] نقلا عن دُرَّة الغوّاص (ص290).
[8] التّسليمُ بهذا التّركيب اللُّغويّ يعني الإقرار بجوازِ أن يُقالَ للإنسانِ المَيِّتِ: المُتَوَفِّي؟!.
[9] لسان العرب (15 /400 وفي).
[10] السّجدة/11. وقد حدث في هذا الموضع خطأٌ غير مقصود من المحقّق؛ حيث أحال إلى سورة (فُصِّلت) بدل (السّجدة).
[11] البقرة/234.
[12] في معاني القرآن (1 /222).
[13] سلسلة الهدى والنّور: شريط سمعي رقم 92/الوجه الأوّل، بعنوان: حكم الأذان.
[14] الصّحيحة (1/2/758 رقم 401).