عاشوراء رحلة من الألم إلى الأمل

  • التصنيفات: مناسبات دورية -

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيًّا عن أمته، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:

 

فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإن من اتقى الله وقاه، ومن توكل عليه كفاه؛ واتقوا الله، {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].

 

إخوة الإيمان، على مشارف العام الهجري الجديد، وتحديدًا في شهر الله المحرم أحد الشهور الأربعة المحرمة، التي عُلم مقدار عظمتها عند الله ومكانتها، هذه العشر الأوائل من هذه السنة الهجرية الجديدة، قال بعض العلماء: إن فيها نزل قول الله: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1-2]، كما هو قول قتادة، وقال أبو عثمان النهدي: كانوا يعظمون ثلاث عشرات: العشر الأخير من رمضان، والعشر الأُول من شهر ذي الحجة، والعشر الأُول من المحرم، حتى في الجاهلية كانت قريش تصوم يوم عاشوراء، فلما وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة -تقديسًا لهذا الشهر وتنزيلاً لمكانة اليوم أعني عاشوراء -، علم أن اليهود يصومونه فصامه عليه الصلاة والسلام احتفالًا بموسى فهو أولى بموسى منهم كما قال عليه الصلاة والسلام، بل احتسب على ربه أنه يكفر سنة ماضية، وهكذا عُلِم أننا في أيام عظيمة -إخوة الإيمان- أعني شهر الله المحرم، بل أفضل الصيام بعد رمضان كما أخبر بذلك النبي المصطفى العدنان صيام شهر الله المحرم.

 

وأجمل من ذلك ما ذكره ابن رجب في تعليقه على الصيام -أعني صيام شهر الله المحرم- قال: "من صام من ذي الحجة وصام من المحرم فقد ختم السنة بالطاعة وافتتحها بالطاعة، فيرجى أن تكتب له سنته كلها طاعة، فإن من كان أول عمله طاعه وآخره طاعة، فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العملين"، فأسأل الله عز وجل أن يختم لنا ما مضى بخير، وأن يجعل ما يأتي هو الأخير بإذن الله جل في علاه.

 

إخوة الإيمان ليس عن هذا حديثي، وإنما حديثي التأمل في يوم عاشوراء، إذا كان هذا اليوم يومًا عظيمًا فإن ثمة أحداثًا تاريخية لا تخفى على قريب أو بعيد حدثت في يوم عاشوراء، أقف أمامها لأستلهم العبر، وأختطف الفوائد، وأنثرها عبيرًا وريحانًا، فلعل كلمة تقع في قلب تقوده بإذن الله تعالى إلى هداية، انظروا إلى ذلك الطفل الصغير وقد خافت أمه بأن يقتل من الملك، ترميه في النهر، يستقر مقامه في قصر الملك كما هو معلوم، يكبر هناك ويترعرع لكن سنة الله الجارية أنه لما اشتد عوده كان يرى الظلم مرفوضًا، فقتل ذلك العدو الضاري الذي هو من بني جلدته، يفر إلى مدين وهناك يتزوج وبعدها تكون الرسالة والنبوة، يعود داعيًا إلى الله جل في علاه، ليلقى شدة العذاب ليس من فرعون فحسب، بل حتى من أبناء جلدته، إنه موسى عليه وعلى نبينا أفضل صلاة وأزكى سلام، عرض تاريخي سريع لحياته لكن المقام يستقر بنا يوم تضيق الأحوال كان لزامًا أن يخرج المؤمنون إلى مكان يقيمون فيه شعائر الله، فكانت الهجرة والخروج، خروج بيقين بأن الله هو الناصر وهو والمؤيد، ويخرج الظالم في أثرهم يتبعهم، وأمام البحر تنكشف الأمور، المنافقون يتهالكون ويتساقطون، {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61]؛ وبيقين: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]، فيكون ما يكون، ينفلق البحر فيصبح كل فرق كالطود العظيم، معجزة لا تتكرر لا زمانًا ولا مكانًا، ثم يمر موسى ومن معه ويطبق البحر على فرعون وجنوده ومن معه.

 

إنه يوم عاشوراء اليوم الذي نجَّا الله فيه موسى في البحر وأغرق فيه فرعون في البحر، ليبقى هذا اليوم يوما تاريخيًّا عظيمًا لا يُنسى أبدًا.

 

في اليوم نفسه حدث تاريخي آخر، إنه نبي من أنبياء الله يبعثه الله إلى قومه بلسانهم، يبلغهم دين الله، ينوع في الأساليب، يعدد في الطرق، تارة يدعوهم نهارًا، وتارة ليلًا، وأحيانًا جهارًا، وأحيانًا إسرارًا، وتطول المدة في الدعوة إلى الله، 950 عامًا؛ {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}  [هود: 40]، والنتيجة استهزاء وسخرية وتعدٍّ، حتى لمَّا يتفرغ لشأنه يبني السفينة لم يتركوه على حاله، يمرون عليه ويتهكمون به، إنه نبي الله نوح عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، ويشاء الله أن يرفع يديه إلى السماء فيدعو {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10]، فتفتح أبواب الأرض وأبواب السماء، ويلتقي الماء على أمر قد قدر، وحمله الله على ذات ألواح ودسر، وفي اليوم الذي يريد الله أن تستقر سفينته على الجودي يكون ذلك اليوم هو يوم عاشوراء كما ثبت الخبر في مسند الإمام أحمد، تستقر السفينة على الجودي فيصوم نوح في يوم عاشوراء شكرًا لله جل في علاه، بين نوح وموسى عليهما السلام ثلاثة أمور تحتاج لتوضيح:

أولًا: كانت بين نبيين رؤية واضحة فالكل يدعوا إلى دين الله، إلى توحيد الله، إلى العقيدة، إلى الإيمان.

 

ثانيًا: الكل صبر برغم طول البلاء وطول المدة والعناء، إلا أنه صبرٌ لله فاطر الأرض والسماء.

 

ثالثًا: الكل كان صاحب يقين بالله جل في علاه.

 

فلما تتأمل القصتين تخرج بهذه الوقفات:

أولها: إنه الباطل مهما علا سببه وارتفع مقاله فلا محالة أنه يسقط، فإن الله على كل شيء قدير، سنة لا تتغير ولا تتبدل، أليس فرعون الذي قال أنا ربكم الأعلى، وأنه له ملك مصر والأنهار تجري من تحتها، وطلب بناء الصرح وغير ذلك، فكان مصيره أن يغرق في البحر، وكذلك كان حال قوم نوح مع نوح، فالباطل مهما ارتفع سيسقط بإذن الله جل في علاه.

 

ثانيًا: المواقف تمحص الإيمان وتختبر الإحسان، قد يدعي الإنسان إيمانا وثباتا ويقينا، فتأتيه الأزمة، ينزل الكرب، تلتهمُّ به الرزية، تنكشف الحقيقة، هل هو إيمان ثابت؟ يقين ثابت؟ توكل على الله صادق؟ أم أن القضية ألفاظ وألقاب فقط، فمتى ما جاءت الأزمة تكشّفت الحقائق قالها أصحاب موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61]، فانكشفت حقيقتهم والعياذ بالله.

 

ثالثًا: إنه اليقين بالله مراتب الصالحين، من ارتفع يقينه في الله، آمن بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيا ورسولا، كان لديه إيمان مستقر في قلبه بأن تفويض الأمور من عند الله، وأن الناصر هو الله، وأن الغالب هو الله، وأن دين الله هو الحق لا محالة، فإن هذا اليقين بإذن الله تعالى سيقوده إلى النجاة، في ثبات ويقين قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61]، وفي يقين واضح: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]، قال أهل العلم: والله ما انتهى موسى من نون سيهدين حتى أوحى الله إليه لأنه قال: {فَأَوْحَيْنَا} [الشعراء 63]؛ بالفاء التي تدل على الترتيب والتعقيب، سرعة إليه بأن الفرج جاء من عند الله جل في علاه.

 

رابعًا: الدعاء، يا مكروب، يا مخطوب، يا صاحب البلية والرزية، يا صاحب الدين، يا صاحب المرض، يا من تريد أن يقضى عنك هم من هموم الدنيا، لا تلجأ يمينا وشمالا، ارفعها إلى الله جل في علاه، بثلاث كلمات غير الله السنة الكونية، بدل هذه الكرة الأرضية، {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10]، تفجرت الأرض، هطلت السماء، التقى الماء على أمر قد قدر، الدعاء الدعاء، الله الله أن تكون من أصحاب الدعاء.

 

وخامسًا: كلما تجددت لك نعمة من الله فجدد لها شكرا، وإياك ثم إياك أن تجدد عليك نعم الله فتجدد عليها معاصي الله، إياك أن يسبِّلك الله بالنعمة وأنت تتاجره بالمعصية، الله قادر على أن يسلبها ولا يردها إليك أبدا، فالله الله كلما بدرت لك نعمة من هنا أو هناك اذكر لها طاعة وشكرا لله.

 

أسأل الله لي ولكم كل توفيق وسداد ورعاية ورشاد، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، فطوبى للمستغفرين.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ وبعد:

إخوة الإيمان أوصيكم ونفسي بتقوى الديان، في يوم عاشوراء كتب الله عز وجل أن يغادر هذه الدنيا سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحسين بن علي، وقصته طويلة لا يتسع المقام لذكرها، لكن الحسين لما كان يرى بأن البيعة لا تعقد بيزيد اجتهادًا منه، وعلم أن أهل الكوفة قد أرسلوا له كتبًا وخطابات يدعونه ليبايعوه خرج إليهم، وكان عبدالله بن عمر وابن عباس قد نهوه عن الخروج إلا أنه كان يرى المصلحة في ذلك، بل ذكر له عبدالله بن عباس أن أهل العراق أهل غدر، وكان ما كان، كان الشيعة الذين أرادوا أن يشايعوه هم من شيَّعوه، أولئك الذين ادَّعوا محبته والوقوف معه، هم الذين تخلوا عنه واقرأوا التاريخ بتمعن، ليس هذا مقام طرح ذلك باستفاضة، لكن ما ذكرته إلا لِأُؤكد على أمر مهم:

ذهب الحسين وكان ما كان من خذلان الناس له، ثم قُتل في ذلك اليوم أعني يوم عاشوراء من سنة 61 للهجرة، وقطع رأسه وحمل إلى عبيد الله بن زياد عليه من الله ما يستحق، ذلك السبط الذي كان النبي صلى الله عليه واله وسلم يحبه، ذلك السبط الذي ربما كان عليه الصلاة والسلام يخطب فوق المنبر، فيراه يمشي بين الصفوف في ثوب له طويل يكاد أن يسقط على الأرض، فيقطع خطبته وينزل من فوق منبره، ويذهب إليه فيحمله ويعود حبًّا له، ولربَّما يصلي في الناس فيرتقي الحسين على رأسه فيسجد سجدة طويلة، سجدة طويلة لا يرفع منها، فيستبطئه الناس فيرون أنه تأخر عليهم، فلما يسألوه بعد الصلاة قال: «إن ابني الحسين قد ارتحلني -يعني جعلني راحلة- وخشيت أن أرفع رأسي قبل أن يقضي لعبه» أو كما قال عليه الصلاة والسلام، هذا الحسين نحبُّه ونشهد الله على حبِّه، وحبُّ آل البيت كلهم عقيدة مقررة في قلوبنا لا نتنازل عنها أبدًا، نتقرب إلى الله بحب آل البيت، وهذا هو الحسين رضي الله عنه وأرضاه، ثم بعد 5 سنوات نرى عبيد الله بن زياد هذا الذي أمر بقتله يُقتل ويُجز رأسه.

 

إخوة الإيمان أمام قصة الحسين وقفتان عظيمتان:

أولاهما: الجزاء من جنس العمل، فالذين اعتدوا عليه، الذين تطاولوا عليه كان عليهم من الله ما يستحقون في زمانهم وعند الله تجتمع الخصوم، الظالم الذي يتعدى على الناس في أعراضهم، الظالم الذي يتعدى على الناس في أموالهم، الذي يتكبر أو يتعالى أو يتجاوز، بينه وبين هؤلاء المظلومين يوم لن تزول فيه القدم عند الله؛ «إِنَّ اللَّه لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» [متفق عليه]، الظالم تُستعجل له عقوبته في الدنيا قبل الآخرة.

 

والثانية: أن ما نراه اليوم من الشيعة أصحاب الغدر والخيانة إنما هو محض كذب وبهتان والعياذ بالله، ما يُفعل يوم عاشوراء من بدع واعتداءات إنما هو أمر مردود عليهم، إذ هو واضح أن القضية قضية بهتان وكذب والعياذ بالله.

 

أسأل الله العلي العظيم ورب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يجعل في مواقف التاريخ وأيامه ولياليه عبرة للمعتبرين وعظة للمتكلين، وأن يأخذ بمجامع قلوبنا إليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

 

ألا وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير؛ فإن الله أمركم بذلك في كتابه قائلًا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

____________________________
د. فؤاد صدقة مرداد