سنة التدافع والتغالب في العصر المدني

حميد بن خيبش

اقتضت حكمة التدافع والتغالب ألا يقف المسلمون مكتوفي الأيدي أمام التحريض المتنامي في يثرب.

  • التصنيفات: السيرة النبوية -

 

اقتضت حكمة التدافع والتغالب ألا يقف المسلمون مكتوفي الأيدي أمام التحريض المتنامي في يثرب. فلم يجدوا بدا من وأد الفتنة في مهدها، وحفظ الاستقرار الذي يتطلبه البناء الاجتماعي لأمة توثق آصرة العقيدة، في محيط تأسره دواعي القبلية والعصبية الآثمة. لذلك انتدب النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه لتنفيذ مهام فدائية، تقطع ألسنة الفتنة دون الحاجة لعمل حربي.

وما يميز العمل الفدائي بشكل عام أنه يؤدي إلى هز ثقة العدو بنفسه وبقدراته، ويعزز حضور الخصم وهيبته مهما كانت إمكانياته متواضعة. لذا شكلت الفدائية حلا استباقيا لخيوط المؤامرة التي بدأت تُنسج فور قدوم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى يثرب، ناهيك عن فعاليتها في مواجهة خطاب التحريض والكراهية الذي تولت كبره ألسنة شعرية متحاملة.

 وبالعودة إلى كتب السيرة نجد أسماء تتردد في ثناياها باعتبارها نماذج فدائية مثل: عبد الله بن أنيس، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن عتيك وغيرهم. ويرتبط ذكرهم بمهمات تصفية لرؤوس الفتنة التي كانت تهدد السلم الاجتماعي في يثرب، وتدعو لنقض كل عهد وميثاق سبق الالتزام به أمام النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها من سعى إلى تأليب القبائل المجاورة، لحصار الدعوة من الداخل والخارج. غير أن عرض الأحداث بأسلوب تقريري مباشر يُفضي في الغالب إلى إهمال دروس تربوية وحركية، ترشد اليوم إلى إعادة ضبط علاقة المسلم بعدوه، وتؤسس لندّية الحوار والتعايش.

شكلت غزوة بدر فرقانا واضحا على مستوى المواجهة بين المسلمين ومعسكر الشرك، لذا لم يجد بعض رؤوس الفتنة بُدا من الدعوة إلى تشكيل حلف قادر على التصدي للدولة الناشئة، والحفاظ على التوازنات القائمة بأي شكل من الأشكال. وكان كعب بن الأشرف ممن أغاظتهم تداعيات بدر، فسارع إلى مكة ليحرض قريشا على الثأر، ويوظف مقدرته الشعرية في رثاء قتلى المشركين، وإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم ونساء المدينة بهجائه الفاضح.

لما بلغ أذاه حدا لا يمكن التغاضي عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم : مَن لي بابن الأشرف؟ فتطوع محمد بن مسلمة لقتله، وقال: أنا لك به يا رسول الله ! لكن اعترضته مشكلة حملته على العزوف عن الطعام والشراب ثلاثة أيام. فلما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن السبب أجاب: إنه لا بد لنا من أن نقول، فقال النبي: قولوا ما بدا لكم! وهذه الجزئية بالغة الأهمية لأنها ترتبط بعامل الثقة الذي يستدرج العدو، ولاشك أن لابن مسلمة ، وهو الأنصاري من بني عبد الأشهل، خبرة باليهود وطرق التعامل معهم؛ فلم يكن أمامه سبيل لاستدراج كعب بن الأشرف غير النيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع ما يثيره ذلك في نفس المسلم من حرج بالغ. وهنا يثير تصرف ابن مسلمة نقطة هامة مفادها : أن العمل الفدائي وإن كان مغامرة قاتلة يُعرض فيها الفدائي نفسه للهلاك، إلا أنه يستلزم تدبيرا محكما لا يشوبه ارتجال أو تهور، ويتحقق فيه هدف إلقاء الرعب في قلوب الأعداء مع التمويه اللازم لإبعاد المسؤولية عن الجهة التي يمثلها.

اختار ابن مسلمة أربعة أشخاص للمهمة، من بينهم أبو نائلة الذي كان أخا لكعب بن الأشرف من الرضاعة. وللأمر دلالته في زيادة الاطمئنان ورفع منسوب الثقة، لذا تقرر إيفاده لوحده قبل أن تلتحق به البقية. وتضمنت الخطة إقناع ابن الأشرف بالضائقة المادية التي حلّت بأبي نائلة وأصحابه بعد قدوم المهاجرين إلى يثرب، وأنهم بحاجة إلى طعام مقابل أن يرهنوا أسلحتهم. وكان اختيار السلاح جزءا من المكيدة كي لا يثير الريبة في نفس العدو فلا يُنكره إذا اجتمعوا به. فلما عادوا إلى الحصن في ليلة مقمرة، ناداه أبو نائلة ليخرج، وتحدثوا معه ساعة ثم اقترحوا عليه الابتعاد عن الحصن لمتابعة الحديث قبل أن يُجهزوا عليه بسيوفهم.

حققت المهمة هدفها بالتخلص من أحد أبواق الفتنة، وأثارت الرعب في نفوس اليهود فأصبح كل منهم خائفا على نفسه، وأذعنوا للأمر النبوي بتوثيق العهد كتابة. أما محمد بن مسلمة وأصحابه فقد أرسوا نموذجا للعمل الفدائي يعتمد التمويه والاستدراج، والأداء الجماعي المحكم.

أما مهمة اغتيال سلام بن أبي الحُقيق، فارتكزت بالأساس على المهارة الفردية التي تمتع بها عبد الله بن عتيك، ومعرفته بلغة العدو، ثم قدرته على التمويه والتسلل. ويبدو أن تداعيات اغتيال كعب بن الأشرف حالت دون استدراج سلّام خارج الحصن، مما اقتضى التنفيذ داخله، مع ما يمثله ذلك من توغل غير آمن قد يجعل المهمة صعبة، إن لم نقل شبه مستحيلة.

بعد غزوة الخندق وتأديب بني قريظة، تولى سلام بن أبي الحُقيق، أحد زعماء يهود بني النضير المقيمين بخيبر، مهمة التحريض للقضاء على المسلمين. ورصد لغطفان وغيرها من قبائل المشركين أموالا ضخمة تعين على إشعال فتيل الحرب. غير أن النبي صلى الله عليه وسلم آثر التخلص منه دون اللجوء إلى عمل حربي يستوجب متطلبات عديدة، فانتدب لهذه المهمة عبد الله بن عتيك وأربعة معه، وكلهم من الخزرج. وتحكي مصادر السيرة أن السبب في ذلك يرجع إلى التنافس المستمر بين الأوس والخزرج حتى بعد اجتماعهم تحت مسمى الأنصار. ذلك أن المتطوعين لقتل كعب بن الأشرف كانوا من الأوس، فحرص الخزرج على أن تكون لهم سابقة في العمل الفدائي إسوة بأبناء عمومتهم. 

تظاهر عبد الله بن عتيك بأنه من المقيمين بالحصن، فتمكن من الدخول ثم الاستيلاء على مفاتيح البوابة. ولما التحق أصحابه وظف معرفته بلغة اليهود في التلطف لزوجة سلّام وإقناعها بأنهم جاءوه بهدية كي تسمح لهم بدخول بيته. وبعد أن اشتركوا في ضربه بسيوفهم قرر ابن عتيك رغم الكسر الذي أصاب ساقه، ألا يغادر البوابة حتى يتأكد من مقتل سلّام ونجاح المهمة.

اعتمد نموذج الفدائية كما سطره ابن عتيك على الأداء الفردي المتقن، وتوظيف الخبرة بلغة العدو وأسلوب حياته للتمكن من القضاء عليه. كما كان للقدرة على التمويه دورها في تنفيذ جميع عناصر الخطة، والإفلات من قبضة اليهود الذي اشتدوا في طلبهم.

ترجح المصادر بأن عبد الله بن أنيس شارك في هذه العملية، وأنه صاحب الضربة القاضية التي أنهت حياة سلّام. ويبدو أن خطة ابن عتيك لاقت استحسانه فقرر اعتمادها في مهمة أخرى، لكن بمفرده !

أصبحت الفدائية جزءا من العقيدة العسكرية للجماعة المسلمة، وشاهدا على الحالة المعنوية التي يتمتع بها المسلم في صفوف القتال، تحت شعار "الآن نغزوهم ولا يغزوننا". ومكّنت بشكل واضح من تفكيك عدد من التحالفات قبل أن تتطور إلى جبهة لا ينفع معها غير العمل الحربي.

إننا مع عبد الله بن أُنيس نكتشف غزوة بصيغة المفرد، وإقداما يصح أن يُكتب بماء الذهب. كيف لا والرجل يقبل على المهمة دون معطيات أو استطلاع مسبق، باستثناء توجيه نبوي يتضمن أوصاف المجرم؟!

 في السنة السادسة للهجرة حاول سفيان بن خالد الهذلي أن يستغل حمية الجاهلية، لتجميع فلول القبائل المشركة تحت زعامته وشن حرب على المسلمين. وكانت له في العرب وجاهة وهيبة وكلمة مسموعة، فقرروا التجمع حوله بعد أن منيت غزوة الأحزاب بخيبة كبيرة. لذا قرر النبي صلى الله عليه وسلم التخلص من هذا التحالف دون الحاجة إلى تعبئة عامة، فانتدب عبد الله بن أنيس للقضاء على سفيان، ودلّه عليه بقوله: إذا رأيته هِبتَه وفرقت منه وذكرت الشيطان، وآيةُ ما بينك وبينه أن تجد له قشعريرة إذا رأيتَه. ثم أذن له أن يستعمل الحيلة وينتسب إلى قبيلة خزاعة حتى يطمئن العدو.

خرج عبد الله بن أنيس متوشحا سيفه، ولما تعرف على سفيان أقبل عليه قائلا: أنا رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لذلك. ثم مشى معه مسافة يحادثه، حتى إذا تمكن منه حمل عليه بالسيف فقتله، وعاد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبشرى. فكان للمهارة الفردية والقدرة على التمويه والاستدراج دور في تحقق العملية الفدائية على النحو المطلوب.

إن قيم التسامح والتعايش والسلام، والحوار الأفقي بين أصحاب الملل والنحل لا يمكن أن تكتسب معناها في ظل علاقة غير متوازنة، يمد خلالها طرف يده البيضاء، بينما يعمد الخصم إلى عرض تفوقه وغطرسته، والإيحاء بأن موقفه مجرد تأجيل لقرار التصفية. ولكي تستعيد الصورة وضعها الطبيعي، فإن استعراض القوة النفسية للمسلم يسهم، ولاشك، في كبح المغامرين بالدم والاستقرار والعيش المشترك