سعة رحمة الله
بيان سعة رحمة الله، وأنه يغفر للعبد مارتكب من الذنوب إذا تاب توبة نصوحا.
- التصنيفات: التوبة -
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب وأشهد أن لا إلا الله القائل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمد عبده ورسوله القائل: «أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة».
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه سمع رسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إن عبداً أصاب ذنباً فقال: يارب إني أذنبت ذنباً فاغفره لي. فقال ربه: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به فغفر له، ثم مكث ماشاء الله، ثم أصاب ذنباً آخر، وربما قال ثم أذنب ذنباً آخر فقال: يارب إني أذنبت ذنباً آخر فاغفره لي: قال ربه: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به فغفر له، ثم مكث ماشاء الله، ثم أصاب ذنباً آخر، وربما قال ثم أذنب ذنباً آخر، فقال: يارب إني أذنبت ذنباً آخر فاغفره لي: قال ربه: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به فقال غفرت لعبدي فليعمل مايشاء» (رواه البخاري ومسلم).
تباركت وتعاليت ياغفار الذنوب، وستار العيوب، فأنت الذي تقبل التوبة عن عبادك، وتعفو عن السيئات، ولاتنفعك طاعة المتعبدين، ولاتضرك معصية من أسر القول ومن جهر به، ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار، ولكنها الأعمال تحصيها لعبادك، ثم توفيها إياهم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
سبحانك جل شأنك تبسط يدك بالليل ليتوب مسيء النهار وتبسط يدك بالنهار ليتوب مسيء الليل وتقول ولك الحمد: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور31].
وفي الحديث القدسي:(يابن آدم إنك مادعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك. يابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة). وترغب العصاة في التوبة والإقبال عليك، وبأنك تبدل سيئاتهم حسنات إذا تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات وكان الله غفوراً رحيما.
فبشرى لكم أيها المؤمنون، تحسنون فتثابون، وتسيئون فتستغفرون ويغفر الله لكم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * اُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران136-135].
وقد جعل الله التوبة مقبولة من عباده وإن عظمت سيئاتهم، وارتكبوا كبائر الآثام والفواحش، ولامعصية بعد الكفر مالم تطلع الشمس من مغربها، أو تبلغ الروح الحلقوم، قال تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ} [الأنفال 38].
وفي الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني، والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة. ومن تقرب إلي شبراً، تقربت إليه ذراعاً. ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً. وإذا أقبل إلي يمشي أقبلت إليه هروله) (رواه مسلم).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل توبة العبد مالم يغرغر»، لكن التوبة لها شروطاً لابد منها، والتائب ليس من استغفر الله بلسانه، واستمر في ذنوبه وعصيانه، غير نادم ولا مقلع، ولاعازم على الترك.
وأهم تلك الشروط: رد المظالم إلى أهلها، والندم على ما فات من المعاصي والذنوب، والعزيمة على عدم العودة إلى المعاصي.
فيا تاركأ ما أوجبه الله، ويا فاعلاً ما حرمه الله، تب إلى الله قبل أن يأتيك الموت فتندم ولات ساعة مندم، قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء18].
والله جل ذكره يدعوا عباده إلى رحمته، ويفتح لهم أبواب مغفرته، ويعدهم بما يرضيهم فيقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8].
من قصص التائبين:
1-توبة امرأة بارعة الجمال أرادت أن تفتن الربيع بن خثيم.
أمر قوم امرأة ذات جمال بارع أن تتعرض للربيع بن خثيم لعلها تفتنه، وجعلوا لها، إن فعلت ذلك، ألف درهم، فلبست أحسن ما قدرت عليه من الثياب وتطيبت بأطيب ما قدرت عليه ثم تعرضت له حين خرج من مسجده فنظر إليها فراعه أمرها، فأقبلت عليه وهي سافرة، فقال لها الربيع كيف بك لو قد نزلت الحمى بجسمك فغيرت ما أرى من لونك وبهجتك؟ أم كيف بك لو قد نزل بك ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟ أم كيف بك لو سألك منكر ونكير؟ فصرخت صرخة فسقطت مغشياً عليها، فو الله لقد أفاقت وبلغت من عبادة ربها ما أنها كانت يوم تاتت كأنها جذع محترق.
2-توبة شاب مسرف على نفسه على يد إبراهيم بن ادهم.
روي أن رجلاً جاء إلى إبراهيم بن أدهم فقال له: يا أبا إسحاق إني مسرف على نفس، فأعرض على ما يكون لها زاجراً ومستنقذاً لقلبي قال: إن قبلت خمس خصال وقدرت عليها لم تضرك معصية ولم توبقك لذة قال: هات يا أبا إسحاق !
قال: أما الأولى: فإذا أردت أن تعصي الله عز وجل فلا تأكل رزقه، قال: فمن أين آكل وكل ما في الأرض من رزقه؟ قال: يا هذا ! أفيحسن أن تأكل رزقه وتعصيه؟
قال: لا هات الثانية.
قال: إذا أردت أن تعصيه فلا تسكن شيئاً من بلاده قال الرجل: هذه أعظم من الأولى ! يا هذا إذا كان المشرق والمغرب وما بينهما له فأين اسكن؟ قال: يا هذا! أفيحسن أن تأكل من رزقه وتسكن بلاده وتعصيه؟ قال لا، هات الثالثة.
قال: إذا أردت أن تعصيه وأنت تحت رزقه وفي بلاده فانظر موضعاً لا يراك فيه مبارزاً له فاعصه فيه قال: يا إبراهيم ! كيف هذا وهو مطلع على ما في السرائر؟ قال يا هذا أفيحسن أن تأكل من رزقه وتسكن بلاده وتصعيه وهو يراك ويرى ما تجاهر به؟ قال: لا هات الرابعة.
قال: إذا جاءك ملك الموت ليقبض روحك فق له: أخرني حتى أتوب توبة نصوحاً واعمل لله عملاً صالحاً قال: لا يقبل مني ! قال يا هذا فأنت إذا لم تقدر أن تدفع عنك الموت لتتوب، وتعلم أنه إذا جاء لم يكن له تأخير، فكيف ترجو وجه الخلاص؟ قالت: هات الخامسة:قال: إذا جاءتك الزبانية يوم القيامة ليأخذوك إلى النار فلا تذهب معهم قال: لا يدعونني ولا يقبلون مني قال: فكيف ترجو النجاة إذا؟ قال له: يا إبراهيم حسبي حسبي أنا استغفر الله واتوب إليه ولزمه في العبادة حتى فرق الموت بينهما.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يتوب علينا توبة نصوحاً، وأن يغفر لنا ذنوبنا، إنه جواد كريم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
_________________________
محبكم في الله
أبو فيصل