ثبات في زمن المتغيرات
الثبات في زمن المتغيرات أقضَّ مضاجع الصالحين، وأقلق قلوبَ الصادقين، ولا سبيل لذلك إلا بتوفيق الله تعالى وإعانته لعبده، فنسأل الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد.
- التصنيفات: تربية النفس -
يتَّضح من خلال استقراء الأدلة والملاحظة والتأمل في دورس التاريخ وعِبَر الغابرين - أن هناك فرقًا طفيفًا بين الثبات على الموقف والثبات على المبدأ، فالموقف قد يتغير من خلال اتضاح الجانب الآخر من الحقيقة، أو لدفع الضرر الأصغر مَخافة الضرر والشر والأكبر، والموقف لا يتغير تغيرًا فجائيًّا بلا مبررات ولا بدليل، وبيِّنة ظاهرة، أو نضوج فكري، أو رجوع للحق، أو نقد بنَّاء يعيد الفكرة والموقف إلى مكانها الصحيح.
فالموقف الفقهي مثلًا فيه باب الاجتهاد الواسع الذي يجعل مثلًا الموقف الفقهي يتغير، ليس ليواكب الواقع سلبًا أو إيجابًا، لكن ليجعل من هذا الدين العظيم صالحًا لكل زمان ومكان، ولإيجاد حلول لما يصادف المؤمن والإنسان من ظواهر وحوادث يتطلب تفسيرها، وإبداء الحكم الشرعي، وبيان الموقف الفقهي منها.
وكذلك الموقف من بلد ما أو فكرة معينة تتغير، وللتغير عوامله ودوافعه، فالموقف قد يطرأ عليه تغيير بظرف يحيط به زمانيًّا أو مكانيًّا أو فكريًّا، ولكن المبدأ والقيم ثابتة لا تتغير فمبدأ (العدل) على سبيل المثال مبدأ ثابت، فلن يكون (الظلم) يومًا فضيلة، ومبدأ قول (الصدق) وتبيان الحقيقة، فلن يصبح الكذب والحيلة دليلَ دهاء وحنكة، والكرم والشجاعة، والنبل وصفاء النية ومكارم الأخلاق عمومًا، فهذه مبادئ وقيم تغرس غرسًا في الناشئة، وتنمَّى في الشباب، وتثبت على مدى الدهر في النفوس الأصيلة، وكان مبعثه عليه الصلاة والسلام إتمامًا لمكارم الأخلاق وهو في الأربعين من عمره.
أما الارتباط بين المبدأ والموقف في جانب أن المبدأ يعبر عنه بالموقف، فالكرم مثلًا يعبر عنه بالعطاء في موقف الحاجة وعند حضور الضيف، ومبدأ العدل يعبر عنه بالإنصاف وعدم هضْم حقوق الآخرين، ومبدأ الصدق يعبر عنه بقول الحق ولو كلَّف الكثير ثمنًا لذلك، وهكذا وبعد هذه المقدمة يمكن لنا أن نفصِّل فيما يخص الثبات على الدين ومبادئه لأهميته وعظيم شأنه، فقد خصص عليه الصلاة والسلام موضع السجود الذي هو أقرب ما يكون العبد من ربه للثبات وبالدعاء المأثور: (اللهم يا مقلِّب القلوب، ثبِّت قلبي على طاعتك)، لاحِظ ثبات القلب على الطاعة إنما يأتي بتمكُّن الإيمان في قلب المؤمن، وعادة القلوب المليئة بالإيمان وحب الخير والبذل في دروب الخير أن تكون ثابتة على الحق، فالقلب محل نظر الرب، وهو ملك الأعضاء وسيد الجوارح، لذا عليك الحذر مِن تغيُّر موقفة وميله عن الحق.
عَنِ المقداد بن الأسود قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ أَشَدُّ تَقَلُّبًا مِنَ الْقِدْرِ إِذَا اجْتَمَعَ غَلْيًا»، وصح عنه عليه الصلاة والسلام في الحديث الطويل كما رواه الشيخان أنه قال: «إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، ثُمَّ يُخْتَمُ له عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ يُخْتَمُ له عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ».
ويرجع أهل الشروح في هذا الحديث إلى أن الاخلاص وصدق النية المصاحب للعمل، هو السبب الأساس في ثبات القلب وزيغه، قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5].
وفي سورة إبراهيم يعرض الله تبارك وتعالى مثالًا عظيمًا في ثبوت الكلمة الطيبة؛ كثبوت الشجرة الطيبة في الأرض ثبوتًا راسخًا، وعلى النقيض منها الكلمة الخبيثة كشجرة خبيثة أصلها رثٌّ، وقلعُها يسير، ويختم الآيات بالتذكير بأهمية الثبات؛ قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]؛ قال أهل التفسير: الثبات على لا إله إلا الله، وبعضهم أوضح أنه بالثبات في القبر عن السؤال، ويَجدُر بنا في هذا المقام تبيان أهم العوامل التي يجب التمسك بها في سبيل الثبات على المبادئ:
أولًا: الاعتصام بكتاب الله تعالى يُمسك الغريق الطالب للنجاة من طوفان الفتن المضلة والشهوات المزلة للأقدام، ويكون الاعتصام قراءةً وتدبرًا وعملًا.
ثانيًا: اقتفاء سنة سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام، فقد ذكر في غير موطن من سنته أن النجاة والسلامة من الضلال والثبات على المنهج هو في سلوك سنته عليه الصلاة والسلام.
ثالثًا: طلب العلم الشرعي، وحضور مجالس العلماء الربانيين الذين بذلوا أعمارهم في طلب العلم وبذله.
رابعًا: قراءة سير وتراجم الثابتين، والأعلام القدوات الذين ثبَّتهم الله تعالى، فالحي لا تؤمن عليه الفتنة، إنما من مات على الحق، وضحى في سبيل مبدئه، جديرٌ بأن تُقرَأَ سِيَرُهم وتُدرَّس مواقفهم.
خامسًا: الاعتبار من سير الناكصين على الأعقاب الذين ضلوا بعد أن عرَفوا طريق الهداية، وحادوا بعد عرفوا سبيل النجاة، ففي ذلك العظة والعبرة.
قال أبو فراس الحمداني:
عَرَفتُ الشَرَّ لا لِلشَـــرِّ *** لَكِـــن لِتَوَقِّيـــــهِ
وَمَن لَم يَعرِفِ الشَـرَّ *** مِنَ الخَيرِ يَقَع فيهِ
سادسًا: توقي أسباب الوقوع في الفتن والحذر من أصحاب الشبهات، وحضور مجالسهم ومنتدياتهم ومواقعهم، خاصة مع حداثة السن وضَعف التجربة وقلة العلم، فقد يزغ القلب وتنقلب المفاهيم.
سابعًا: الدعاء بالثبات، فكما بيَّنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام يكثر مِن يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على طاعتك، وفيه دليل لنا وإشارة إلى أمته عليه الصلاة والسلام بأهمية الدعاء بالثبات حتى الممات، وفي القبر وعلى الصراط، فليس للعبد في ذلك حول ولا قوة للثبات، إلا ما رسخ في قلبه من الإيمان، وما قدَّمه من أعمال صالحة يرجو ثوابها عند الله في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وخلاصة القول:
الثبات في زمن المتغيرات أقضَّ مضاجع الصالحين، وأقلق قلوبَ الصادقين، ولا سبيل لذلك إلا بتوفيق الله تعالى وإعانته لعبده، فنسأل الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد.
____________
الداعة: أحمد الأحمري
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/culture/0/140805/#ixzz6YxhE7pqU