وسائل المعرفة في الفكر الإسلامي
إذا نظرْنا في الفكر الإسلامي فسنجد أنَّ المعرفة تنفتح على مجالَين واسعَين، هما عالم الغيب وعالم الشهادة، عكس الفكْر الغربي الَّذي يقتصر على الجانب المادّي من عالم الشهادة، وهو ما بيَّنه تعالى في قوله {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}
- التصنيفات: الإسلام والعلم -
إذا نظرْنا في الفكر الإسلامي فسنجد أنَّ المعرفة تنفتح على مجالَين واسعَين، هما عالم الغيب وعالم الشهادة، عكس الفكْر الغربي الَّذي يقتصر على الجانب المادّي من عالم الشهادة، وهو ما بيَّنه تعالى في قوله {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7][1] فينظرون إلى الأسباب ويجزمون بوقوع الأمر الذي في رأيهم انعقدت أسباب وجوده ويتيقنون عدم الأمر الذي لم يشاهدوا له من الأسباب المقتضية لوجوده شيئاً، فهم واقفون مع الأسباب غير ناظرين إلى مسببها المتصرف فيها.
{وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}قد توجهت قلوبهم وأهواؤهم وإراداتهم إلى الدنيا وشهواتها وحطامها فعملت لها وسعت وأقبلت بها وأدبرت وغفلت عن الآخرة، فلا الجنة تشتاق إليها ولا النار تخافها وتخشاها ولا المقام بين يدي الله ولقائه يروعها ويزعجها وهذا علامة الشقاء وعنوان الغفلة عن الآخرة[2].
وبالنَّظر إلى هذَين المجالين المتداخِلين يتوسَّل الفكر الإسلامي إلى المعرفة بثلاث وسائل تتساوى في الأهمّيَّة، وهي: العقل والقلْب والحواسّ.
العقل: اختلف العُلماء والمفكِّرون في تعْريف العقل؛ فمنهم مَن أنكر وجود شيء مستقلّ بهذا الاسم، وجعله هو والعِلم اسمين لمسمّى واحد[3]، ومنهم مَن جعله رديفَ القلب[4]، ومنهم من أسْهب في الحديث عنه بطريقةٍ تبيّن حدوده، وقسَّمه إلى أقسام عدَّة، وبيَّن وظيفة كلّ قسم[5]، غير أنَّنا إذا عُدنا إلى القرآن الكريم فلن نجد كلِمة "عقل" كمصدْر، وإنَّما جاءتْ في صيَغ فعليَّة متعدِّدة، مثل: "تعقلون"، و"يعقلون"، و"عقلوه"، و"يعقلها"، و"نعقل"، وهو ما يدلُّ على أنَّ العقل ليس مصدرًا قائمًا بذاتِه، وإنَّما هو عمليَّة تعقُّل يقوم بها الإنسان؛ ليربط بين الدَّالّ والمدْلول، والأسباب والمسببات، والمقدمات والنتائج، وغيرها من العمليات الوظيفية في الأشياء المجرَّدة منها والمحسوسة للوصول إلى فكرٍ يسير به في حياته، ويسيّر به شؤونه.
فالعقل - إذًا - وسيلة أو آليَّة في إنتاج الفكْر عمومًا، وفي الفكر الإسلامي العقْل وسيلة للتدبُّر في الوحي لاستِخْلاص مقاصده وعلومه، والتَّأمّل في الكون لمعرفة قوانينه ونواميسه، فعمل العقل وفق هذا المنظور يكون في مجْمله في الأمور المجرَّدة.
القلب: لا يقصد بالقلب هنا ذلك العضو الحيّ الذي يقع في الجانب الأيسر من القفص الصَّدري، والَّذي يقوم بضخّ الدَّم في جسم الإنسان، وإنَّما أقصد تلك اللَّطيفة الربَّانيَّة - حسب تعبير الغزالي أبي حامد - التي يشْعر بها الإنسان، وهو محلّ التصديق والإيمان، وعلى اعتبار أنَّ الفكر الإسلامي ينفتح على عالم الغيب، بل إنَّ اعتبار الوحي والكون كمصدرين له ينبني على التَّصديق بالغيب والإيمان به، وهو توحيد الله باعتباره منزل الوحي وخالق الكون، وذلك لا يكون إلاَّ بالقلب محلّ التَّصديق والإيمان؛ لذا نجد المولى - عزَّ وجلَّ - يُسْبِق لفظ الغيب بالإيمان {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] [6]؛ يصدقون تصديقا جازماً بكل ما هو غيب لا يدرك بالحواس كالرب تبارك وتعالى ذاتاً وصفاتٍ، والملائكة والبعث، والجنة ونعيمها والنار وعذابها[7].
فالقلب - إذًا - هو وسيلة من وسائل الإدراك والمعرفة في الفكر الإسلامي، وهو من الأهمّيَّة بمكان حيثُ لا يمكن استبداله بالعقْل ولا بغيره، فعمل القلْب وفقًا لهذا يكون في الأمور الوجدانيَّة.
الحواس: وهي جمع حاسة، وهي الوسائل التي ندرك بها الأمور المادّيَّة، كالأذن التي تقوم بوظيفة السَّمع، والعين التي تقوم بوظيفة البصر، والأنف الَّذي يقوم بوظيفة الشَّمّ، وغيرها من الحواسّ التي نتواصل بها مع عالمِنا الخارجي.
وقد بيَّن الموْلى - عزَّ وجلَّ - هذه الوسائل في كتابه قائلاً: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] [8] أي لا تتبعه في قول أو فعل، تسنده إلى سمع أو بصر أو عقل. من (قفا أثره) إذا تبعه. قال الزمخشري: والمراد النهي عن أن يقول الرجل ما لا يعلم، وأن يعمل بما لا يعلم. ويدخل فيه النهي عن التقليد دخولا ظاهرا، لأنه اتباع لما لا يعلم صحته من فساده، انتهى[9]. فالسَّمع والبصر (الحواسّ)، والفؤاد (القلب والعقل)، هي وسائل العلم والمعرفة.
هناك صعوبات تحول دون التطبيق الكامل للمنهج التربوي الفكري الإسلامي العلمي في العلوم الاجتماعية والسلوكية منها:
1) أنَّ الظواهر الاجتماعية تتصف بأنها أكثر تعقداً وتشابكاً منها في العلوم الطبيعية.
2) صعوبة ضبط الظواهر الاجتماعية تجريبياً، وقياسها قياساً موضوعياً.
3) صعوبة ملاحظة الظواهر الاجتماعية بدرجة عالية من الدقة، وصعوبة إخضاعها لضبط، كالضبط الموجود في الظواهر الطبيعية والتجارب العلمية؛ لأن البشر يتغيرون في أشخاصهم وسلوكهم واستجاباتهم للمؤثرات المختلفة.
استحالة إجراء التجارب في الدراسات الاجتماعية وصولاً إلى قوانين اجتماعية تتميز بالدقة؛ لأنّ الموضوعية المطلقة صعبة التحقيق إلى حد كبير في هذه الدراسات.
كل ذلك يحتم علينا إذا أردنا أنْ نؤسس لمنهجٍ سليم لا يكون مجرّد نظرية غير قابلة للتطبيق، أو إذا طُبّق يكون ضرره أكثر من نفعه أنْ يكون المصدر الأساس لإعطاء منهجٍ ناجح للتربية هو الوحي بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى، قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] [10]، ألا يعلم السر والجهر، من خلق الأشياء، والخلق يستلزم العلم، وقيل: معنى الآية: ألا يعلم الله من خلقه، وهو بهذه المثابة ف (من) مفعول، والعائد مقدر[11].
ومظهر الوحي الإلهي عبارة عن: (القرآن، السّنة)، ولا يعني ذلك الاستغناء عن التجربة البشرية، بل الإسلام أقرّ بعض السّير المتّبعة؛ فعن أمير المؤمنين: "الأُمور بالتجربة، والأعمال بالخبرة"، وعنه أيضاً: "العقل حفظ التجارب"، وقال أيضاً: "لولا التجارب عميت المذاهب، وفي التجارب علمٌ مستأنف".
[1] سورة الروم:7.
[2] تفسير السعدي (ج1 - ص636).
[3] آراء أبي بكر بن العربي الكلاميَّة، عمار طالبي، الشركة الوطنية، الجزائر، ج1، ص142 - 143.
[4] رسائل أبي حامد الغزالي، أبو حامد الغزالي، مكتبة الجندي، مصر، وينظر كذلك: ابن منظور، لسان العرب، مادة "عقل".
[5] تراث الإسلام، شاخت وبوزورت، ترجمة حسين مؤنس، سلسة عالم المعرفة، الكويت، ص209.
[6] سورة البقرة:3.
[7] أيسر التفاسير لأبو بكر الجزائري (ج 1 - ص 20)..
[8] سورة الإسراء:36.
[9] محاسن التأويل (ج 6 - ص 460).
[10] سورة الملك:14.
[11] محاسن التأويل (ج 9 - ص 291).
__________________________________________________
د. سمير مثنى علي الأبارة