أسئلة الصحابة رضي الله عنهم للرسول عليه الصلاة والسلام -1
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
وحسن السؤال نِصْفُ العلم؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قد ورد أن حُسْن السؤال نصف العلم"
- التصنيفات: طلب العلم -
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين....أمَّا بعدُ:
للعلم وسائلُ يُدرَكُ بها، من أهمِّها السؤال؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: "زيادة العلم الابتغاء، ودرك العلم السؤال"؛ [ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله].
والصحابة رضي الله عنهم أدركوا العلم بوسائل منها: السؤال؛ فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيمَ أُنزلت، وأين أنزلت، وإن ربي وَهَبَ لي قلبًا عقولًا ولسانًا سؤولًا"؛ [الأصبهاني في الحلية]، وسُئِل ابن عباس رضي الله عنهما: "بِمَ أدركتَ العلم؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول"؛ [أحمد في فضائل الصحابة].
وحسن السؤال نِصْفُ العلم؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قد ورد أن حُسْن السؤال نصف العلم"؛ وأورده ابن السني في " كتاب رياضة المتعلمين" حديثًا مرفوعًا بسند ضعيف، وقال رحمه الله: قال ابن المنير في قوله: ((يعلمكم دينكم)) دلالة على أن السؤال الحَسَن يُسمَّى علمًا وتعليمًا؛ لأن جبريل لم يصدُرْ منه سوى السؤال، ومع ذلك فقد سمَّاهُ عِلْمًا.
والصحابة رضي الله عنهم، كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسئلةً تدُلُّ على عمق علمهم، وشدَّة تعلُّق نفوسهم بالآخرة، فإن من يسأل عن شيءٍ، فإنما يسأل عما يهتمُّ به؛ قال عبدالله بن عباس رضي الله عنه: "ما رأيتُ قومًا كانوا خيرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم...ما كانوا يسألون إلَّا عمَّا ينفعهم"؛ [أخرجه الدارمي].
قال الإمام ابن العطَّار تلميذ الإمام النووي رحمهما الله: "إنَّ من وقف لتدبُّر أحوال الصحابة رضي الله عنهم، اطَّلَع على عِظَمِ اجتهادهم في طلب النجاة، وحرصهم على بلوغ الدرجات، فهذا يسأل عن أركان الدين، وهذا يسأله عن عمل يُقرِّبُهُ من الجنة ويُبعِدُه عن النار، وهذا يسأل عن العمل الذي إذا عمله أحبَّه الله، وأحبَّه الناس، وهذا يقول: يا رسول الله أوصني، وهذا يقول: يا رسول الله، قُل لي قولًا لا أسأل غيرك، وهذا يسأل عن الأعمال التي تُدخِل الجنة...إلى غير ذلك، فالله تعالى يرضى عنهم، ويحشرنا في زمرتهم".
والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يسألون ليعملوا بما علموا، بخلاف ما عليه الناس اليوم من السؤال بدون عمل؛ يقول العلَّامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: هنا سؤال: هل الصحابة رضي الله عنهم إذا سألوا، يريدون أن يطَّلِعوا فقط، أو يريدوا أن يطَّلِعوا ويعملوا؟
الجواب: الثاني، بخلاف كثير من الناس اليوم - نسأل الله ألَّا يجعلنا منهم - يسألون ليطلعوا على الحكم فقط لا ليعملوا به؛ ولذلك تجدهم يسألون عالِمًا ثم عالِمًا ثم عالِمًا حتى يستقرُّوا على فتوى العالم التي توافق أهواءهم، ومع ذلك قد يستقبلونها بنشاط وقد يستقبلونها بفتور.
وهذه بعض أسئلة الصحابة رضي الله عنهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وهي أسئلة تدلُّ على علوِّ همَّتهم، أسأل الله أن ينفع الجميع بها، فمن تلك الأسئلة:
السؤال عن العمل المُقتضي لمحبة الله ولمحبة الناس:
عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته أحبَّني الله، وأحبَّني الناس, فقال: «ازهد في الدنيا يحبَّكَ اللهُ، وازهد فيما في أيدي الناس يحبَّكَ الناسُ» ؛ [أخرجه ابن ماجه].
هذا الحديث كما ذكر أهل العلم أحد الأحاديث الأربعة التي عليها مدار الإسلام وهي:
حديث: ((إنما الأعمال بالنيَّات))، وحديث: ((الحلال بيِّن والحرام بيِّن))، وحديث: (من حُسْن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه)، وهذا الحديث: (ازهد في الدنيا يحبَّك الله)
قال الإمام ابن العطَّار الشافعي رحمه الله: أما كون الزهد في الدنيا سببًا لمحبَّة الله تعالى، فلأن الزاهد في الدنيا غالبًا يكون راغبًا في الآخرة، ومتى كان راغبًا في الآخرة عمل بأعمال أهلها، فأحبَّه الله تعالى، وأما كون الزهد فيما عند الناس سببًا لمحبَّتهم، فلأن الدنيا خضرة حلوة معشوقة لبنيها، فمتى زهد فيما عندهم، وترك محبوبهم، ولم يزاحمهم فيه، أحبُّوه، والله أعلم.
في الحديث الترغيب في الزهد في الدنيا، وأنه من أسباب محبَّة الله جلَّ جلالُه للعَبْد، وفيه الترغيب في الزُّهْد فيما في أيدي الناس، وأنه مقتضٍ لمحبَّة الناس.
والمراد بالزهد في الشيء: الرغبة عنه، والإعراض عنه، لارتفاع الهِمَّة عنه.
وقد تنوَّعت عبارات السَّلَف في تفسير الزهد؛ قال الإمام النووي رحمه الله: "فسَّرَ الزهد في الدنيا بثلاثة أشياء، كلها من أعمال القلوب، لا من أعمال الجوارح".
أحدها: أن يكون العَبْدُ بما في يد الله، أوثق منه بما في يد نفسه، وهذا ينشأُ من صحَّة اليقين وقوَّته، فإن الله ضمن أرزاق عباده، وتكفَّل بها؛ كما قال: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾ [هود: 6].
والثاني: أن يكون العَبْدُ إذا أُصيب بمصيبةٍ في دُنْياهُ، من ذَهاب مالٍ، أو ولدٍ، أو غير ذلك، أرْغَبَ في ثواب ذلك، مما ذهب منه في الدنيا أن يبقى له، وهذا أيضًا ينشأ من كمال اليقين، وهو من علامات الزهد في الدنيا، وقلة الرغبة فيها، قال عليٌّ رضي الله عنه: من زهد في الدنيا، هانت عليه المُصيبات.
والثالث: أن يستوي عند العبد حامدُه وذامُّه في الحق، وهذا من علامات الزهد في الدنيا، واحتقارها، وقلة الرغبة فيها، فإن من عظُمت الدنيا عنده أحَبَّ المدْحَ وكرِه الذمَّ، ومن استوى عنده حامدُه وذامُّه في الحق، دلَّ على سقوط منزلة المخلوقين من قلبه، وامتلائه من محبَّة الحقِّ، وما فيه رضى مولاه.
وقد روي عن السلف عبارات أُخَر في تفسير الزهد في الدنيا، كُلُّها ترجِعُ إلى ما تقدَّم، وعلى كل حالٍ، فالزهد في الدنيا شعارُ أنبياء الله، وأوليائه، وأحبَّائه.
والزهد فيما في أيدي الناس موجِبٌ لمحبَّة النفس؛ قال الحسن: "لا تزال كريمًا على الناس - أو لا يزال الناس يكرمونك - ما لم تعاط ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك، استخفُّوا بك، وكرهوا حديثك، وأبغضوك".
قال أعرابي لأهل البصرة: من سيد هذه القرية؟ قالوا: الحسن، قال: بمَ سادَهم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دُنياهم قال الشيخ سعد الشثري: أعظم الواجبات الزهد في الشرك ثم الزهد في المعاصي, ومن أنواع الزهد أن يخلص العبد قلبه لله عز وجل وأن يخلص عمله لله بحيث يكون العَبْدُ مُريدًا بأعماله وأقواله كلها إرضاء رب العزة والجلال, أما من قصد الدنيا فقط، فإنه سيستمتع بطيِّبات الدنيا إن قدرها الله له ومن ثم يذهب أجره، ولا يبقى له شيء, ولذلك عاب الله على قوم فقال لهم ﴿ {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} ﴾[الأحقاف:20]
قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ: الزهد ليس معناه الفقر، وليس معناه ترك المال؛ وإنما الزهد حقيقة في القلب بتعلُّقه بالآخرة، وتجانبه وابتعاده عن الدنيا، من حيث التعلُّق، فيتعامل بأمور الدنيا على أنها في يده، وليست في قلبه، فيُخلص قصده ونيَّته في كل عمل يعمله في أن يكون نافعًا له في الآخرة، فإذا عامل - مثلًا- بالبيع والشراء، فإنه يستعين به على الحقِّ، وعلى ما ينفعه في الآخرة، وسُئِل الإمام أحمد عن الرجل يكون معه ألف دينار هل يكون زاهدًا؟ قال: نعم، بشرط ألَّا يفرح إذ زادَتْ، ولا يحزن إذا نقصت.
وهذا من الأمر العظيم الذي فات إدراكه على كثير من الناس في هذه الأُمَّة، فظنُّوا أن الزهادة: الإعراض عن المال، والإعراض عما يحصل للمرء به نفْعُ في الآخرة، وسُئل الحسن، فقيل له: من الزاهد؟ قال: الزاهد الذي إذا رأى أحدًا قال: هذا خيرٌ مني.
وهذا من عظيم المعاني، وهذا أنه غير متعلِّق بالدنيا، مُزْدَرٍ نفسه في جنب الله عز وجل، غير مترفِّع على الخَلْق، وهذا إنما يحصل لمن منَّ الله عليه فعمر قلبُه بالرغبة في الآخرة، وبالبُعْد عن التعلُّق بالدنيا.
فهذه الوصية العظيمة لا شك أننا بحاجة إليها، خاصة في هذا الزمن الذي صار أكثر الخَلْق معلَّقين بالدنيا في قلوبهم، وينظرون إذا نظروا على جهة المحبَّة للدنيا، وهذا مما يضعف قلب المرء في تعلُّقه بالآخرة، وتعلُّقه بما يحبُّ الله جل جلاله ويرضى، فعظَّمُوا الآخرة وقلَّلُوا من شأن الدنيا، فبذلك يكون الزهد الحقيقي، والإقبال على الآخرة، والتجانُف عن دار الغرور.
السؤال عن الأعمال التي تدخل الجنة:
الصحابة رضي الله عنهم كانت همَّتُهم عالية، ومطالبهم عالية، فكانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأعمال التي تُدخِلهم الجنة وتُباعِدهم من النار
عن معاذ رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني بعمل يُدخِلني الجنة، ويُباعِدني عن النار، قال: (( «لقد سألت عن عظيم، وإنَّه ليسيرٌ على مَنْ يَسَّرَه الله عليه، تعبُد الله لا تُشْرِكُ به شيئًا، وتقيمُ الصلاة، وتُؤتي الزكاة، وتصُومُ، وتحجُّ البيت» ))؛ [أخرجه الترمذي وأحمد].
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: ((لقد سألت عن عظيم)) ذلك أن دخول الجنة، والنجاة من النار أمرٌ عظيمٌ جدًّا، ولأجله أنزل الله الكتب، وأرسل الرسل، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وإنه ليَسيرٌ على مَنْ يَسَّرَه الله عليه)) إشارة إلى أن التوفيق كله بيد الله عزَّ وجلَّ، فمن يسَّرَ الله عليه الهداية اهتدى، ومن لم يُيسِّر عليه لم يتيسَّر له ذلك.
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: «أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: مُرْني بعملٍ يُدخِلني الجنة، قال: ((عليك بالصيام، فإنه لا عدل له))، ثم أتيتُه الثانية، فقال: ((عليك بالصيام))» ؛ [أخرجه أحمد]، قال الشيخ أحمد عبدالرحمن البنا الساعاتي رحمه الله شارح مسند الإمام أحمد: في قوله صلى الله عليه وسلم لأبي أمامة في المرة الثانية: ((عليك بالصيام)) دلالة على أنه لم يجد له أفضل منه، وقد رواه ابنُ حِبَّان في صحيحه بلفظ قلت: يا رسول الله، دلَّني على عمل أدخل به الجنة، قال: ((عليك بالصوم فإنه لا مثل له))، قال: وكان أبو أمامة لا يرى في بيته الدخان نهارًا إلا إذا نزل بهم ضيف.
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله، أخبرني بعمل يُدخِلني الجنة، ويُباعدني من النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( «تعبُد الله لا تُشْرِكُ به شيئًا، وتُقِيمُ الصلاة، وتُؤتي الزكاة وتَصِلُ الرَّحِم» ))؛ [متفق عليه]، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ولا شكَّ أن كل إنسان يسعى إلى هذا الكسب العظيم، أن ينجو من النار ويدخل الجنة، فإن من زُحزِح عن النار وأُدخِل الجنة فقد فاز، وكل مسلم يسعى إلى ذلك، وهذا يحصل بهذه الأمور الأربعة:
الأول: تعبد الله لا تُشْرِك به شيئًا، لا شركًا أصغر، ولا شِركًا أكبر.
والثاني: تقيم الصلاة، وتأتي بها كاملة في أوقاتها مع الجماعة إن كنت رجلًا، ودون الجماعة إن كانت امرأة.
والثالث: تؤتي الزكاة، بأن تُؤدِّي ما أوجَبَ الله عليك من الزكاة في مالك لمستحقِّه.
والرابع: تصل الرَّحِم، بأن تُؤتيهم حقَّهم بالصِّلَة حسب ما يتعارف الناس، فما عَدَّه الناس صِلةً فهو صِلةٌ، وما لم يعدُّوه صِلةً فليس بصِلةٍ، إلا إذا كان الإنسان في مجتمع لا يُبالون بالقَرابات، ولا يهتمُّون بها، فالعبرة بالصِّلة نفسها المعتبرة شرعًا.
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: «أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أرأيتَ إذا صلَّيْتُ المكتُوبات وصُمْتُ رمضانَ، وأحلَلْتُ الحلالَ، وحرَّمْتُ الحرامَ ولم أزِدْ على ذلك شيئًا أأدخُلُ الجنة؟ قال ((نعم))» [أخرجه مسلم].
قال الإمام ابن العطار تلميذ الإمام النووي رحمهما الله: هذا الحديث أصْلٌ عظيمٌ من أصول الدين، وقاعدةٌ من قواعده، فإن من وُفِّق للقيام بالمفروضات، واجتناب المحرَّمات، واعتقاد حِلِّ المباحات، فقد حسنت له الحالات، وعلت له الدرجات في الجنان، وذلك بفضل الله تعالى وكرمه من خالق الأرض والسماوات، والله أعلم.
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: في قوله صلى الله عليه وسلم: ((أحللت الحلال وحرمت الحرام)) دليل على أنه لا بد من اعتقاد الحل فيما هو حلال، واعتقاد التحريم فيما هو حرام، وهذا أمر زائد على الفعل فيما يحلُّ، وعلى التَّرْك فيما يحرُم؛ لأن من فعل ما يحلُّ لا باعتقاد الحل، فإنه نقص عليه عقيدة، وهي عقيدة الحكم الشرعي في هذا الذي فعله، وكذلك من تجنَّب الحرام دون اعتقاد تحريمه، فقد نقص عليه العقيدة في حُكم هذا الشيء.
وقال الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ: الروايات التي فيها ترتيب دخول الجنة على بعض الأعمال الصالحة، المقصود بها: أنها إذا فعلت مع اجتماع الشروط، وانتفاء الموانع، أو إذا فُعلت هذه الأفعال مع الإتيان بالتوحيد، وهذان احتمالان:
الأول: أنها مع اجتماع الشروط وانتفاء الموانع.
الثاني: أنها مع الإتيان بالتوحيد؛ لأنه به تصحُّ الصلاة، وتُقبَل الزكاة، ويصحُّ الصيام، إلى آخره.
وقال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: في هذا الحديث من الفوائد حرص الصحابة رضوان الله عليهم على ما ينفعهم وسؤالهم عن الأمور المهمة، وأن الصحابة اهتمُّوا بشأن الجنة، ورغبوا في تحصيلها، وذلك لعِظَم ما في الجنة من النعيم، وفيه أن الجنة مطلبٌ صحيحٌ، وأنه يجوز للإنسان أن يعمل الطاعات والقربات والعبادات من أجل أن يدخله الله عز وجل الجنة، ولا يصحُّ أن يُقال: إن هذا مراد العامة أما الخاصة فإن مُرادَهم محبَّة الله؛ لأن ذلك يخالف طريقة القرآن وهديه، ويخالف طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه.
السؤال عن أحبِّ الأعمال إلى الله:
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال «سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ العمل أحَبُّ إلى الله؟ قال: ((الصلاةُ على وَقْتِها))، قلت: ثم أي؟ قال: ((بِرُّ الوالدين))، قُلْتُ: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))» ؛ [متفق عليه]، وفي رواية: أي العمل أفضل؟ وفي رواية: أي الأعمال أقرَبُ إلى الجنة؟
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: من فوائد الحديث: محبة الله تعالى للصلاة على وقتها، وبضدِّه: كراهة الله تعالى للصلاة على غير وقْتِها؛ لكن من نعمة الله أن أباح للعبد أن يُصلِّي في آخر الوقت، فإن صلَّى بعده، فالصواب أن الصلاة غير مقبولة، إلا أن يكون هناك عُذْرٌ، كما بيَّنَتْه السُّنَّة أن من نام عن صلاة أو نسيها فليُصلِّها إذا ذكرَها؛ ولكن ما معنى بِرِّ الوالدين؟ الجواب: البِرُّ إسداء الخير الكثير إليهما، وذلك بالمال والبدن والجاه والعلم وغير ذلك، حتى الذي ينصح والده أو يعلمه قد بَرَّ به؛ لكن استعمل الحكمة واللِّين واحترم مقامَه، ولا تقل: يا رجل، اتَّق الله، وخَفْ ربَّكَ، كيف تعمل هذا العمل؟ فهذا لا يليق؛ لكن يقول كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: "يا أبتِ" كلام لطيف؛ لأن مقام الوالد يجب أن يكون مُحترمًا.
والحاصل: أن من بر الوالدين إسداء النصيحة لهما حتى وإن غضبا..والجهاد في سبيل الله..يشمل النوعين من الجهاد : الجهاد بالسلاح, والجهاد بالعلم واليان, لأن الجهاد يشمل المعنيين, قال الله تعالى : ﴿ {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين} ﴾ [التوبة:73] ومعلوم أن جهاد المنافقين لا يتأتى فيه الجهاد بالسلاح لأن المنافق لم يبرز لنا العداوة حتى نقاتله…فيتعين أن يكون جهاد المنافق بالعلم والبيان.
السؤال عن خير خصال الإسلام:
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: «قالوا: يا رسول الله، أيُّ الإسلام أفضل؟ قال: ((من سلم المسلمون من لسانه ويده))» ؛ [متفق عليه].
وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما « أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الإسلام خير؟ قال: ((تُطعم الطعام، وتقرأ السلام على مَنْ عرَفْتَ ومَنْ لم تعرِف))» ؛ [متفق عليه]. قال الإمام النووي رحمه الله: قال العلماء رحمهم الله: قوله: أي الإسلام خير؟ معناه: أي خصاله وأموره وأحواله، قالوا: إنما وقع اختلاف الجواب في خير المسلمين لاختلاف حال السائلين والحاضرين، فكان في أحد الموضعين الحاجة إلى إفشاء السلام وإطعام الطعام أكثر وأهم، لما حصل من إهمالهما والتساهُل في أمورهما، ونحو ذلك، وفي الموضع الآخر إلى الكفِّ عن إيذاء المسلمين، وقوله صلى الله عليه وسلم: (( «من سلِمَ المسلمون من لسانه ويده» )) معناه: لم يُؤذِ مسلمًا بقول ولا فعل، وخصَّ اليد بالذكر؛ لأن معظم الأفعال بها، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ سَلِم المسلمون من لسانه ويده))، قالوا معناه: المسلم الكامل، وليس المراد نفي أصل الإسلام عمَّنْ لم يكن بهذه الصفة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله: "أي الإسلام خير"، التقدير: أي خصال الإسلام؟ وخصَّ هاتين الخصلتين بالذكر لمسيس الحاجة إليهما في ذلك الوقت، لما كانوا فيه من الجهد، ولمصلحة التأليف، ويدلُّ على ذلك أنه عليه الصلاة والسلام حثَّ عليهما أول ما دخل المدينة، وبذل السلام يتضمَّن مكارم الأخلاق، والتواضُع، وعدم الاحتقار، ويحصُل به التآلُفُ والتحابُّ.