مبادرة ومسابقة الصحابة رضي الله عنهم إلى الإنفاق في سبيل الله -2
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
تسمية أم المؤمنين زينب بنت خزيمة الهلالية رضي الله عنها بأم المساكين لكثرة صدقتها
- التصنيفات: التقوى وحب الله -
تسابق وتنافس الصحابة رضي الله عنهم للإنفاق في سبيل الله:
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتنافسون ويتسابقون في الإنفاق والصدقة في سبيل الله، ولهم مواقف في ذلك، منها:
وقف بني النجار أرضهم لمسجد رسول الله علية الصلاة والسلام:
عن أنس رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( يا بني النجار ثامنوني بحائطكم ) قالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله» . [متفق عليه] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قولهم (لا نطلب ثمنه إلا إلى الله ) أي لا نطلب ثمنه من أحد، لكن هو مصروف إلى الله.
تصدق أبو بكر الصديق بماله وتصدق عمر بن الخطاب بنصف ماله رضي الله عنهما:
عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: «سمعت عمر بن الخطاب يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، فجئت بنصف مالي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما أبقيت لأهلك ؟ ) فقلتُ: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما أبقيت لأهلك ؟ ) قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قُلتُ: لا أُسابقك إلى شيءٍ أبداً» . [أخرجه أبو داود] قال المحدث السهارنفوري رحمه الله: قوله:( ما أبقيت لأهلك ؟ ) قال: أبقيت لهم الله ورسوله، يعني لم أترك لهم شيئاً من المال، ولكن بقيت لهم ما يرضي به الله ورسوله...ففي الحديث تصريح بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل من أبي بكر التصدق بجميع ماله، ولم ينكر عليه لعلمه بقوة صبره على المشاق، وتوكله على الله تعالى.
وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأرضه بخيبر في سبيل الله:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «أصبت أرضاً من أرض خيبر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أصبت أرضاً لم أصب مالاً أحبُّ إلي ولا أنفس عندي منها فما تأمرني به ؟ قال: ( إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها ) قال: فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها و لا تورث ولا توهب، قال: فتصدق عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف» [أخرجه مسلم] قال الإمام النووي رحمه الله: قوله " أنفس " معناه أجود، والنفيس الجيد...وفي هذا الحديث دليل على صحة أصل الوقف....وفيه فضيلة الوقف وهي الصدقة الجارية، وفيه فضيلة الإنفاق مما يحب وفيه فضيلة ظاهرة لعمر رضي الله عنه قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ينبغي لنا أن نتأسى بهذا الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي جعل هذه الشروط في حياة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإقراره، وألاً نخُصَّ الأوقاف بالأولاد والذُّرية وما أشبه ذلك كما يوجد– الآن– في أكثر أوقاف الناس بل نجعلها في هذه المصالح العامة
حفر عثمان بن عفان رضي الله عنه لبئر رومه وتجهيزه لجيش العسرة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( من يحفر بئر رومه فله الجنة ) فحفرها عثمان، وقال: ( من جهز جيش العسرة فله الجنة) فجهزهُ عثمان» . [أخرجه البخاري] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: المراد بجيش العسرة: تبوك...وأخرج أحمد والترمذي من حديث عبدالرحمن بن حباب السلمي أن عثمان أعان فيها بثلاثمائة بعير، ومن حديث عبدالرحمن بن سمرة أن عثمان أتى فيها بألف دينار فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم.
تصدق أبي الدحداح بحائطه:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لفلان نخله، وأنا أقيم حائطي بها، فمره يعطيني أقيم بها حائطي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أعطه إياها بنخلة في الجنة ) فأبى، فأتاه أبو الدحداح فقال: بعني نخلتك بحائطي ففعل، فأتى أبو الدحداح النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد ابتعت النخلة بحائطي فاجعلها له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كم من غدق دواح لأبي الدحداح في الجنة ) "مراراً" فأتى أبو الدحداح امرأته، فقال: يا أم الدحداح اخرجي من الحائط، فقد بعته بنخلة في الجنة فقالت: ربح البيع » [أخرجه ابن حبان]
كان مرثد بن عبدالله لا يجيء المسجد إلا ومعه شيء يتصدق به:
عن يزيد بن أبي حبيب قال: «كان مرثد بن عبدالله لا يجيءُ إلى المسجد إلا ومعه شيء يتصدقُ به، فجاء ذات يوم إلى المسجد ومعه بصل، فقلتُ له: أبا الخير، ما تريدُ إلى هذا يُنتنُ عليك ثوبك ؟ قال: يا ابن أخي، إنه والله ما كان في منزلي شيء أتصدق به غيره، إنه حدثتي رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ظلُّ المؤمن يوم القيامة صدقته)» [أخرجه أحمد].
قال الشيخ أحمد عبدالرحمن البانا الساعاتي رحمه الله: والمعنى أن الرجل إذا لم يجد ما يتصدق به إلا الشيء الحقير فليتصدق به، فإنه يكون كبيراً عند الله عز وجل، وينفعه الله به يوم القيامة، ويكون فوق رأسه كالظلة في الموقف، إلى أن يقضى بين العباد، والعبرة بالإخلاص في العمل لا بالكثرة والقلة.
تصدق كعب بن مالك رضي الله عنه ببعض ماله لتوبة الله عز وجل عليه:
عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: «إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك )» [متفق عليه] قال الإمام النووي رحمه الله: معنى أنخلع منه: أخرج منه وأتصدق به، وفيه استحباب الصدقة شكراً للنعم المتجددة، لاسيما ما عظم منها.
تصدق ابن عمر رضي الله عنهما بما يحبُّ من ماله:
قال أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله في كتابه " حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه، أنه كان لا يعجبه شيء من ماله إلا أخرج منه لله عز وجل، قال: وربما تصدق في المجلس الواحد بثلاثين ألفاً..وعن نافع قال: ما مات ابن عمر حتى أعتق ألف إنسان أو زاد، وعن مجاهد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال: لما نزلت: {لن تنالوا البر حتى تُنفقوا مما تحبون } دعا ابن عمر رضي الله تعالى عنه، جارية له فأعتقها.
مبادرة نساء الصحابة إلى الصدقة بحليهن:
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد..فصلى وخطب..ثم أتى النساء فوعظهن وأمرهن بالصدقة فرأيتهن يهوين إلى آذانهن وحلوقهن يدفعن إلى بلال» . [متفق عليه] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي مبادرة تلك النسوة إلى الصدقة بما يعز عليهن من حليهن مع ضيق الحال في ذلك الوقت دلالة على رفيع مقامهن في الدين، وحرصهن على امتثال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن.
وفق الله نساء المسلمات وخصوصاً منهن الموسرات للإقتداء بالصحابيات في الصدقة.
عدم إمساك أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق لشيءٍ جاءها وتصدقها به:
قال عروة بن الزبير رضي الله عنه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «كانت لا تمسك شيئاً مما جاءها من رزق الله تصدقت» . [أخرجه البخاري] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: أي لا تدخر شيئاً مما يأتيها من المال.
قال أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله في كتابه " حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: عن هشام بن عروة عن أبيه أن معاوية بعث إلى عائشة رضي الله تعالى عنها، بمائة ألف، فوالله ما غابت الشمس عن ذلك اليوم حتى فرقتها، قالت مولاة لها: لو اشتريت لنا من هذه الدراهم بدرهم لحماً، فقالت: لو قلت قبل أن أفرقها لفعلت.
محبّة أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها للصدقة:
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «(أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً ) قالت: فكانت أطولنا يداً زينب، لأنها كانت تعمل بيدها وتحبُّ الصدقة» [متفق عليه] قالت رضي الله عنها كما جاء في رواية الحاكم في المناقب من مستدركه – كما نقل الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح -: وكانت زينب لمرأة صناعة باليد، وكانت تدبغ وتخرز وتصدق في سبيل الله.
تسمية أم المؤمنين زينب بنت خزيمة الهلالية رضي الله عنها بأم المساكين لكثرة صدقتها:
عن الزهري قال: «تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة، وهي أم المساكين، سميت لكثرة إطعامها للمساكين،..توفيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي لم تلبث معه إلا يسيراً.» [أخرجه الطبراني]
رضي الله عنها وأكثر من مثيلاتها من نساء المسلمين.
تصدق زينب زوج ابن مسعود بحليها:
عن أبي هريرة رضي الله عنها قال: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى النساء في المسجد فوقف عليهن فقال: ( يا معشر النساء إني قد أريت أنكن أكثر أهل النار يوم القيامة فتقربن إلى الله ما استطعن ) وكان في النساء امرأة عبدالله بن مسعود فأتت إلى عبدالله فأخبرته بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذت حُليّاً لها فقال ابن مسعود: أين تذهبين بهذا الحُلي ؟ فقالت: أتقربُ به إلى الله ورسوله لعلَّ الله أن لا يجعلني من أهل النار» . [أخرجه أحمد].
وفي الختام فهناك أمور ينبغي أن تراعي في الصدقة والإنفاق في سبيل الله حتى تقع موقعها، ويثاب العبد عليها، منها:
• أن تكون لوجه الله عز وجل، قال جل جلاله: ﴿ لَ {ا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} ﴾ [النساء: 114] وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «(إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها) » [أخرجه البخاري]
• ألا تكون من أجل الرياء والسمعة، قال الله عز وجل: ﴿ {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا } ﴾ [النساء: 38]
• أن تكون من كسب طيب، قال الله عز وجل: ﴿ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } ﴾ [البقرة: 267].
• أن لا تكون بمنٍّ ولا أذى حتى لا يبطل أجرها، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } ﴾ [البقرة: 262] وقال عز وجل: ﴿ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } ﴾ [البقرة: 264].
• أن تُخفى ولا يُجهرُ بها، إلا أن تكون هناك مصلحة راجحة في إظهارها، قال الله جل جلاله: ﴿ {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ﴾ [البقرة: 271]
كتبه/ فهد بن عبدالعزيز الشويرخ