المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام
محمود الدوسري
هو أحد أُولي العزم من الرسل، دعا قومَه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وهو كلمةُ اللهِ ألقاها إلى مريم، ورُوحٌ منه، وُلِدَ من غير أبٍ؛ كما خُلِقَ آدمُ من غير أبٍ ولا أُم، فليس ليس له من خصائص الربوبية، ولا الألوهية شيء.
- التصنيفات: قصص الأنبياء - خطب الجمعة -
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعده: عيسى ابنُ مريمَ -عليه السلام- هو أحد أُولي العزم من الرسل، دعا قومَه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وهو كلمةُ اللهِ ألقاها إلى مريم، ورُوحٌ منه، وُلِدَ من غير أبٍ؛ كما خُلِقَ آدمُ من غير أبٍ ولا أُم، فليس ليس له من خصائص الربوبية، ولا الألوهية شيء.
ومن أوصافه الواردة في الروايات: أنه رجلٌ مَربوع القامة، ليس بالطويل ولا بالقصير، أحمر، جَعْدُ الرَّأْسِ، عَرِيضُ الصَّدر، سَبْطُ الشَّعَرِ، كأنما خَرَج من دِيمَاسٍ - أي: حمام - له لِمَّةٌ قد رَجَّلَها تملأ ما بين مَنْكِبَيه.
وقد أظهر الله على يديه المعجزات والآيات؛ كإحياء الموتى، وإبراء الأكمه، وكَلَّمَ الناسَ في المهد صبيًّا، وبشَّر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وليس بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم نبي، ولم يُصلب ولم يُقتل؛ بل رَفَعَه اللهُ إليه، وسينزل في آخِرِ الزمان، وسيموت في الأرض ويُدفن فيها، ويُبعث منها كسائر بني آدم.
وأبرز ما جاء في سبب تسميته بالمَسِيح: أنه كان لا يَمْسَح ذا عاهة إلاَّ بَرِئَ، ولا ميِّتًا إلاَّ حيي بإذن الله تعالى. وقيل: لأنه خرج من بطن أُمِّه كأنه ممسوح بالدُّهن، وقيل: لِحُسْنِ وجهه؛ إذْ المسيحُ في اللغة: الجميلُ الوجه، يقال: على وجهه مَسْحَةٌ من جَمال. وقيل: لأنه يمسح الأرضَ، أي: يقطعها.
وتواترت الأخبار في نزوله في آخِر الزمان؛ قال الله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} إلى قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف: 57-60]. والمعنى: أنَّ نزول عيسى - عليه السلام - قبل يوم القيامة علامةٌ على قُرب الساعة، وتدل على ذلك القراءةُ الأُخرى: {وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف: 61] بفتح العين واللام.
ويؤيده: ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا». ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 159]» رواه البخاري. أي: إنَّ من أهل الكتاب مَنْ سيؤمن بعيسى - عليه السلام - قبل موته، عند نزوله في آخر الزمان.
ومما جاء في صفة نزوله: أنه بعد خروج الدجال، وإفساده في الأرض؛ «فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ؛ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَأْطَأَ رَأَسَهُ قَطَرَ، وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ، فَلاَ يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلاَّ مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ» (رواه مسلم).
ويكون نزولُه على "الطائفة المنصورة" التي تُقاتِل على الحق، وتكون مُجتمعةً لقتال الدجال؛ فينزل وقتَ إقامة صلاة الفجر؛ «فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ لَنَا. فَيَقُولُ: لاَ؛ إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ؛ تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذِهِ الأُمَّةَ» (رواه مسلم).
والحكمة من نزول عيسى عليه السلام دون غيره: الردُّ على اليهود الذين يزعمون أنهم قتلوه، وصَلَبوه! فبيَّن اللهُ لهم ولغيرِهم أنه هو الذي يقتلهم، ويقتل رئيسَهم، وكبيرَهم الدجال الذي يدَّعي الربوبية. وأيضًا لدنوِّ أجله؛ لِيُدفن في الأرض، فليس لمخلوق من التراب أنْ يموتَ السماء. وكذلك فإنَّ عيسى عليه السلام وَجَدَ فضلَ أُمَّةِ محمدٍ في الإنجيل؛ فدعا اللهَ تعالى أنْ يجعله من أُمَّةِ محمد، فاستجاب اللهُ دعاءَه. وأيضًا: ينزل مُكذِّبًا للنصارى في زعمهم! فإنه يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويُهْلِك اللهُ المِلَلَ في زمنه إلاَّ الإسلام.
عباد الله.. بعد أنْ يقضي عيسى عليه السلام على الدجال وفِتنَتِه، ويَخرج يأجوجُ ومَأجوجُ فَيُفسِدون في الأرض إفسادًا عظيمًا، فيدعو ربَّه، فيستجيب له، ويُصبِحون موتى لا يبقى منهم أحد، بعد ذلك يتفرغ عيسى عليه السلام للمهمة الكبرى التي أُنزِل من أجلها؛ وهي تحكيم شريعة الإسلام؛ مصداقًا لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ» (رواه البخاري).
وسيحكم عيسى عليه السلام بالشريعة المحمدية، ويكون من أتْباعِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فلن ينزل بِدِينٍ جديد؛ لأنَّ دِينَ الإسلام خاتم الأديان، وهو عام لجميع الخلق، باقٍ إلى قيام الساعة لا يُنسَخ؛ فيكون عيسى عليه السلام حَاكِمًا من حُكَّام هذه الأمة، ومُجدِّدًا لأمر الإسلام؛ إذْ لا نبيَّ بعد محمد صلى الله عليه وسلم. وعدمُ قبولِ الجزية لا يُعَدُّ نسخًا؛ فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّ الجزية تُقبل إلى أن ينزل عيسى، وبعد ذلك لا تُقبل، وليس عيسى هو الناسخ لها؛ بل نبينا صلى الله عليه وسلم هو المُبيِّن للنسخ، وعيسى عليه السلام يحكم بشرعنا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله... أيها المسلمون.. أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأنَّ عيسى عليه السلام سيذهب للبيت العتيق حاجًّا؛ كما في قوله: « «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ [مَوضِعٌ بين مكةَ والمدينة] حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا» [أي: يجمعُ بين الحجِّ والعمرة]» رواه مسلم.
وبعد نزول عيسى عليه السلام يطيب العيش، ويعم الرخاء، وينتشر الأمن، وتَظهر البركاتُ في عهده؛ إذْ زمَنُه زمنُ أمنٍ وسلامٍ ورخاءٍ، وبركات؛ حيث يُرسِلُ اللهُ فيه المطرَ الغزير، وتُخرِجُ الأرضُ ثمرتَها وبركتَها، ويفيض المالُ، وتزول الشحناءُ، والتباغضُ، والتَّحاسد؛ جاء في "الحديث الطويل" عن النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رضي الله عنه مرفوعًا، والشاهد منه: «ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لاَ يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ، وَلاَ وَبَرٍ [أي: لا يَسْتُرُ من ذلك المطرِ – لِكَثْرَتِه - بَيتٌ بُنِيَ بالطِّين، ولا بَيتُ شَعَرٍ، ولا وبَرٍ]، فَيَغْسِلُ الأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ [أي: تُشبِهُ المِرآةَ؛ لِصَفائِها ونَظافتِها]، ثُمَّ يُقَالُ لِلأَرْضِ: أَنْبِتِي ثَمَرَتَكِ، وَرُدِّي بَرَكَتَكِ. فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ، وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا [أي: بِقِشْرِها]، وَيُبَارَكُ فِي الرِّسْلِ [اللَّبن] حَتَّى أَنَّ اللِّقْحَةَ مِنَ الإِبِلِ [هي النَّاقةُ الحَلُوب] لَتَكْفِي الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِي الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ لَتَكْفِي الْفَخِذَ مِنَ النَّاسِ» رواه مسلم.
ولمَّا رُفِعَ عيسى عليه السلام إلى السماء؛ كان عُمره إذ ذاك ثلاثًا وثلاثين سنة - على المشهور، وبعد نزوله يمكث في الأرض سَبْعَ سِنِين، جمعًا بين الروايات الواردة في ذلك؛ فيكون مجموع مُكْثِه في الأرض أربعين سنة؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «فَيَبْعَثُ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، ثُمَّ يَمْكُثُ النَّاسُ سَبْعَ سِنِينَ لَيْسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَدَاوَةٌ ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ رِيحًا بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ الشَّامِ فَلاَ يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ إِيمَانٍ إِلاَّ قَبَضَتْهُ» (رواه مسلم). ولقوله صلى الله عليه وسلم: «فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يُتَوَفَّى، فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ» صحيح - رواه أحمد وأبو داود.