المقصود بنكاح الشغار وحكمه
أسأل الله عز وجل أن يكون هذا البيان شافيًا كافيًا في توضيح المراد، وأسأله سبحانه أن يرزقنا التوفيق والصواب في القول والعمل
- التصنيفات: فقه الزواج والطلاق -
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أما بعد:
المقصود بنكاح الشِّغار لُغةً واصطلاحًا:
الشِّغار في اللغة هو: الخلوُّ، وأصله مأخوذ من شغور الكلب، يُقال: شَغَرَ الكلب، إذا رفع إحدى رجليه للبول لخلو الأرض منها، وسُمِّيَ بهذا الاسم تقبيحًا له.
ومنه شغر المكان: إذا خلا ولم يكن فيه أحد.
ومنه بلد شاغر: إذا خلا من سلطان، وأمرٌ شاغرٌ: إذا خلا من مُدبِّر.
ومنه قول: وظيفة شاغرة؛ أي: وظيفة خالية.
ولذلك سُمِّيَ نكاح الشِّغار بهذا الاسم لخُلوِّه عن المهر.
قال ابن قدامة رحمه الله: "إنما سُمِّيَ شِغارًا لقُبْحِهِ؛ تشبيهًا برفع الكلب رجله ليبول في القُبح، يُقال: شغر الكلب: إذا رفع رجله ليبول.
وحُكي عن الأصمعي أنه قال: الشِّغار: الرَّفع، فكأن كل واحد منهما رفع رجله للآخر عما يُريد"[1].
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "الشِّغار مصدر شاغر يُشاغر شغارًا، ونظيره في التصريف: قاتل يُقاتل قتالًا، إذًا لا بد من طرفين، وهو مُشتق؛ إما من الشُّغور وهو الخُلوُّ، وإما من شغرَ الكلب إذا رفع رجله ليبول، ويمكن أن يُقال: لا مانع من أن يكون مُشتقًّا من المعنيين جميعًا؛ لأن فيه شغورًا وشغرًا، فلا مانع من أن يكون مُشتقًّا منها جميعًا"[2].
أما نكاح الشِّغار أو ما يُسمِّيه الناس (زواج البدل)، فهو في اصطلاح العلماء: أن يزوِّج الرجل ابنته أو أخته أو غيرهما ممن له الولاية عليها، بشرط أن يُزوِّجه الآخر ابنته أو أخته، وليس بينهما صَدَاقٌ.
ومعنى "ليس بينهما صداق"؛ أي: يكون تزويج كلٍّ منهما مهرًا للأخرى؛ أي: جعل بُضْعَ كلٍّ منهما صداقًا للأخرى، والبُضْعُ هو الفَرْجُ.
قال الجوهري: "والشِّغار بكسر الشين: نكاح كان في الجاهلية، وهو أن يقول الرجل لآخر: زوِّجني ابنتك أو أختك على أن أُزوِّجك أختي أو ابنتي، على أن صداق كل واحدة منهما بضع الأخرى، كأنهما رفعا المهر، وأخليا البضع عنه"[3].
قال ابن الأثير رحمه الله: "وهو نكاح معروف في الجاهلية، كان يقول الرجل للرجل: شاغرني؛ أي: زوجني أختك أو بنتك أو مَن تلي أمرها، حتى أُزوِّجك أختي أو بنتي أو من أَلِي أمره،ا ولا يكون بينهما مهر، ويكون بُضْعُ كل واحدة منهما في مقابلة بضع الأخرى، وقيل له الشِّغار؛ لارتفاع المهر بينهما، ولأن كل واحد منهما يسفر أي: يرفع الرجل للوطْءِ، من شغر الكلب: إذا رفع إحدى رجليه ليبول"[4].
وقد اتفق العلماء على هذا المعنى لنكاح الشِّغار.
قال النووي رحمه الله: "وأجمع العُلماء على أنه منهِيٌّ عنه".
وقال ابن عبدالبر رحمه الله: "وأما معناه في الشريعة: فهو أن ينكح الرجل وليَّتَه رجلًا، على أن يُنكِحَهُ الآخر وليَّتَهُ، ولا صداق بينهما إلا بضع هذه ببضع هذه، على ما فسره مالك وجماعة الفقهاء"[5].
وقال أيضًا رحمه الله: "وهذا ما لا خلاف بين العلماء فيه أنه الشِّغار المنهي عنه في هذا الحديث"[6].
وقال ابن رشد رحمه الله: "فأما نكاح الشِّغار، فإنهم اتفقوا على أن صفته هو أن ينكح الرجل وليته رجلًا آخر، على أن يُنكحه الآخر وليته، ولا صداق بينهما إلا بضع هذه ببضع الأخرى، واتفقوا على أنه نكاح غير جائز؛ لثبوت النهي عنه"[7].
والمذهب عند الحنفية يُوافق ما عليه جُمهور العُلماء على أن هذه الصورة من النكاح منهيٌّ عنها ولا تجوز، إلا أنهم يُصححون النكاح، ويُوجِبون فيه مهر المثل لكل واحدة منهما[8].
وهذا النكاح ورد فيه النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما: (( «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشِّغار، والشِّغار أن يُزوِّجَ الرجل ابنته على أن يُزوِّجه الآخر ابنته ليس بينهما صداق» ))[9].
وفي لفظ: ((لا شِّغار في الإسلام))[10].
تنبيه: قول: (والشِّغار أن يُزوج الرجل ابنته على أن يُزوجه الآخر ابنته ليس بينهما صداق) ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول أحد الرواة، قيل: هو من تفسير ابن عمر، وقيل: هو من تفسير نافع، وقيل: هو من تفسير الإمام مالك، على خلاف بين العُلماء.
والراجح أنه من تفسير نافع رحمه الله لحديث عبيدالله بن عمر العمري، قال: حدثني نافع عن عبدالله رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشِّغار))، قلت لنافع: ما الشِّغار؟ قال: "ينكح ابنة الرجل ويُنكحه ابنته بغير صداق، وينكح أخت الرجل ويُنكحه أخته بغير صداق"[11].
وعن عبيدالله بن عمر العمري عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشِّغار - زاد ابن نمير: والشِّغار أن يقول الرجل للرجل: زوِّجنى ابنتك وأُزوجك ابنتي، أو زوجني أختك وأُزوجك أختي))[12].
وأيضًا تفسير الشِّغار في هذا الحديث ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول أحد الرواة؛ قيل: هو من تفسير عبيدالله بن عمر العمري أحد رواة الحديث.
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشِّغار))[13].
علَّةُ النهي عن نكاح الشِّغار:
اختلف العُلماء في علة النهي:
فقيل: إن العِلة هي خلوُّه من ذكر الصداق، وجعل بضع كل واحدة مهرًا للأخرى.
ويترتب على ذلك أنها لا تنتفع بصداقها؛ لأن نفعه عاد إلى الولي، وهو ملكه لبضع زوجته بتمليكه لبضع موليته، وهذا فيه ظُلمٌ لكل واحدة من المرأتين؛ لخلوِّ النكاح عن مهرها الذي تنتفع به.
وقيل: إن علة النهي أنه إنكاح مُشترط؛ أي: إن كل واحد من الرجلين مُشترط فيه أن ينكحه الآخر موليته، وكأنه يقول: لا ينعقد زواج ابنتي حتى ينعقد زواج ابنتك.
قال ابن القيم رحمه الله: "واختُلف في علة النهي؛ فقيل: هي جَعْلُ كل واحد من العقدين شرطًا في الآخر.
وقيل: العلة التشريك في البضع، وجعل بضع كل واحدة مهرًا للأخرى، وهي لا تنتفع به، فلم يرجع إليها المهر، بل عاد المهر إلى الولي، وهو مُلكه لبضع زوجته بتمليكه لبضع موليته، وهذا ظلم لكل واحدة من المرأتين، وإخلاء لنكاحهما عن مهر تنتفع به، وهذا هو الموافق للغة العرب؛ فإنهم يقولون: بلد شاغر من أمير، ودار شاغرة من أهلها: إذا خلت، وشغر الكلب: إذا رفع رجله وأخلى مكانها، فإذا سمَّوا مهرًا مع ذلك، زال المحذور ولم يبقَ إلا اشتراط كل واحد على الآخر شرطًا لا يُؤثر في فساد العقد، فهذا منصوص أحمد"[14].
حكم نكاح الشغار:
اختلف العُلماء في هذا النهي الوارد في الأحاديث السابقة: هل هو للتحريم أو للكراهة؟ وهل يبطل النكاح بذلك ويجب فسخه أو لا؟ على قولين:
القول الأول:
أنه نكاح مُحرَّم وباطل، ويجب فسخه قبل الدخول وبعده، وهو قول جُمهور العُلماء من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية.
واستدلوا بالنهي الوارد في الأحاديث السابقة؛ حديث ابن عمر، وحديث أبي هريرة، وحديث جابر رضي الله عنهم.
وقالوا: نهيه صلى الله عليه وسلم عن الشِّغار في هذه الأحاديث يدل على فساده قبل الدخول وبعده، ما دام لم يُسَمَّ الصداق؛ لأن النهي يقتضي فساد المنهِيِّ عنه.
سُئل الإمام مالك رحمه الله: "أرأيت نكاح الشِّغار إذا وقع فدخلا بالنساء، وأقاما معهما حتى ولدتا أولادًا، أيكون ذلك جائزًا أم يُفسخ؟ قال: قال مالك: يُفسخ على كل حال"[15].
وقال الشافعي رحمه الله: "فإذا أنكح الرجل ابنته أو المرأة يلي أمرها من كانت، على أن ينكحه ابنته أو المرأة يلي أمرها من كانت، على أن صداق كل واحدة منهما بضع الأخرى، ولم يُسِمَّ لواحدة منهما صداق - فهذا الشِّغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يحل النكاح، وهو مفسوخ"[16].
وقال ابن قدامة رحمه الله: "ولا تختلف الرواية عن أحمد في أن نكاح الشِّغار فاسد"[17].
وقال ابن عبدالبر رحمه الله: "ولا يصح عقد هذا النكاح ويُفسخ قبل البناء وبعده"[18].
وقال ابن حزم رحمه الله: "لا يحلُّ نكاح الشِّغار: وهو أن يتزوج هذا ولية هذا، على أن يُزوجه الآخر وليَّته أيضًا؛ سواء ذكرا في كل ذلك صداقًا لكل واحدة منهما، أو لإحداهما دون الأخرى، أو لم يذكرا في شيء مِن ذلك صداقًا، كل ذلك سواء يُفسخ أبدًا، ولا نفقة فيه، ولا ميراث، ولا صداق"[19].
القول الثاني:
أنه نكاح صحيح غير أنه مكروه تحريمًا، وللمرأة مهر المثل، وهو قول الحنفية، وبه قال الزهري والثوري.
وحملوا النهي الوارد على الكراهة، والكراهة لا تُوجِب فساد العقد.
أي: إن النهي فيه متوجِّهٌ إلى الصداق دون النكاح، وفساد الصداق لا يوجب فساد النكاح.
قال ابن عابدين رحمه الله: "أن مُتعلق النهي مُسمَّى الشِّغار المأخوذ في مفهومه خلوه عن المهر، وكون البضع صداقًا، ونحن قائلون بنفي هذه الماهية، وما يصدق عليها شرعًا، فلا نُثبِتُ النكاح كذلك، بل نُبطله فيبقى نكاحًا مسمًّى فيه ما لا يصلح مهرًا، فينعقد موجبًا لمهر المثل كالمُسمَّى فيه خمر أو خنزير؛ لأن ما هو مُتعلق النهي به لم نُثبته، وما أثبتناه لم يتعلق به، بل اقتضت العمومات صحته"[20].
وقد رد ابن قدامة رحمه الله على هذا التعليل بأن المُفسِدَ في نكاح الشِّغار ليس عدم التسوية، بدليل نكاح المُفوضة، فدل على أن المُفسد هو الشرط وقد وُجد، ولأنه سلف في عقد فلم يصح.
الترجيح:
الراجح في هذه المسألة هو ما ذهب إليه جمهور العلماء من بطلان نكاح الشِّغار ووجوب فسخه؛ لأن النهي في الأحاديث يعود على نفس العقد بالإبطال، والعلة في النهي هي خلو العقد من المهر.
قال الترمذي رحمه الله: "والعمل على هذا عند عامة أهل العلم، لا يَرَون نكاح الشِّغار، والشِّغار: أن يُزوِّج الرجل ابنته على أن يُزوِّجه الآخر ابنته أو أخته ولا صداق بينهما.
وقال بعض أهل العلم: نكاح الشِّغار مفسوخ ولا يحل، وإن جعلا بينهما صداقًا، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، ورُوي عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: يُقرَّان على نكاحهما، ويُجعل لهما صداق المثل، وهو قول أهل الكوفة"[21].
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "قوله: وإذا زوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته، ففعلا ولا مهرَ، بطل النكاحان، هذا من الشروط الفاسدة المُفسِدة، (إذا زوجه وليته)؛ أي: من له ولاية عليها، ففعيل هنا بمعنى مفعول؛ أي: موليته، (على أن يزوجه الآخر وليته)؛ يعني: من له ولاية عليها من بنت، وأخت، وعمة، والجدة إن كانت من جهة الأم فلا ولاية له عليها، وإن كانت من جهة الأب فهو ابنُ ابنٍ، فله ولاية عليها.
وقوله: (على): أي: بشرط، (أن يُزوجه الآخر وليته ولا مهر بينهما)، والمهر هو الصداق الذي يدفع بعقد النكاح، (بطل النكاحان): كلٌّ منهما يبطل، والدليل أثر ونظر؛ أما الأثر: فهو ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح الشِّغار))، وفسر الشِّغار بأن يُزوجه موليته على أن يُزوجه الآخر موليته، ولا مهر بينهما، وأما التعليل فمن ثلاثة أوجه:
أولًا: أنه في هذه الحال جعل مهر كل واحدة بضع الأخرى، فهل هذا ابتغى بماله أو ابتغى بفَرْجِ موليته؟
الجواب: ابتغى بفرج موليته؛ والله تعالى يقول: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } [النساء: 24]؛ يعني: أن تطلبوا النكاح بأموالكم، وهذا الرجل طلب النكاح بفرج موليته، فجعل فرج موليته هو المهر.
ثانيًا: أنه في هذه الحال عادت منفعة الصداق إلى غير المرأة؛ فعادت إلى الولي؛ والله تعالى يقول: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]؛ أي: عطية بلا تقصير، فأضاف الصداق إليهن، وأمر بإعطائهن إياه نحلة، وهنا ما أعطينا هذه المسكينة صداقًا.
ثالثًا: أن هذا فيه غالبًا مُخالفة الأمانة ومجانبته؛ فإن الإنسان إذا كان يحصل له فرج امرأة بفرج موليته، غفل عن مُقتضى الأمانة، وهي اختياره الكفْءَ لها، وصار لا يُهِمُّهُ إلا من يحقق له رغبته، أما أن يكون صالحًا أو طالحًا، فلا يهمه، يأتيه الرجل الصالح فيقول: أريد أن تزوجني بمهر لكن ليس عنده بنت، فيقول: لا، ويأتيه الرجل الفاسق عنده بنت، فيتبادلان، ففي هذا تضييع للأمانة التي حمَّلها الله تعالى للإنسان؛ ولهذا كان هذا العقد باطلًا بالأثر وبالنظر"[22].
ولنكاح الشِّغار صورة أخرى؛ وهي:
أن يُزوج الرجل ابنته أو أخته أو من هي تحت ولايته، بشرط أن يُزوجه الآخر ابنته أو موليته، لكن مع وجود مهر لكل منهما.
وهذه الصورة اختلف فيها العلماء على قولين:
القول الأول:
لا يجوز مُطلقًا سواء كان بمهر أو بدون مهر، وهو وجه عند الشافعية، وقول بعض الحنابلة، وهو مذهب الظاهرية؛ لعموم الخبر، ولأن هذه الصورة تدخل في الشِّغار المنهي عنه لوجود الشرط، وهو ليس في كتاب الله ولا سُنَّةِ رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فكان باطلًا.
وما ورد في تفسير الشِّغار من كلام الراوي، وليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم.
ولأنه قد يفقد عدم الرضا من المرأة، فقد لا ترضى بأن يكون هذا الرجل زوجًا لها؛ ومن ثَمَّ يفقد ركنًا من أركانه؛ وهو الرضا.
ولأن تزويج الولي موليته إنما كان من أجل مصلحته هو، لا مصلحة موليته، والقاعدة في النكاح: "أن التصرف بالرعية منوط بالمصلحة"، فالتحريم لأجل وجود الشرط، ولو وُجد معه مهر.
واستدلوا أيضًا بحديث عبدالرحمن بن هرمز الأعرج أن العباس بن عبدالله بن العباس أنكح عبدالرحمن بن الحكم ابنته، وأنكحه عبدالرحمن ابنته، وكانا جعلا صداقًا، فكتب معاوية إلى مروان يأمره بالتفريق بينهما، وقال في كتابه: "هذا الشِّغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم"[23].
قالوا: هذا الحديث فيه دليل على أن بطلان هذا النكاح مع تسمية الصداق؛ لأن معاوية أبطله وفرَّق بينهما.
واختار هذا القول الشيخ ابن باز رحمه الله وأعضاء اللجنة الدائمة للإفتاء.
قال أعضاء اللجنة الدائمة للإفتاء: "إذا زوَّج الرجل موليته لرجل على أن يُزوِّجه الآخر موليته، فهذا هو نكاح الشِّغار الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا هو الذي يُسميه بعض الناس نكاح البدل، وهو نكاح فاسد؛ سواء سُمِّيِ فيه مهر أم لا، وسواء حصل التراضي أم لا"[24].
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: "والصواب أنه يكون شغارًا مُطلقًا إذا كان فيه الشرط؛ لظاهر الأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، لأنه في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «والشِّغار أن يقول الرجل زوجني أختك وأزوجك أختي، أو زوجني بنتك وأزوجك بنتي»، ولم يقل: (وليس بينهما صداق)، بل أطلق"[25].
وقال أيضًا رحمه الله: "نكاح البدل لا يجوز ويُسمَّى نكاح الشِّغار، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث، فلا يجوز نكاح البدل بالمُشارطة، يقول هذا: زوجني أختك وأزوجك أختي، أو زوجني بنتك وأزوجك بنتي، هذا هو نكاح البدل، ويقال له: نكاح الشِّغار، ولو سمَّى مهرًا، ولو تساوى المهر، ولو اختلف المهر، ما دام فيه مُشارطة لا يجوز"[26].
القول الثاني:
يصح النكاح إن كان هناك مهر لكلٍّ منهما؛ لقوله في الحديث السابق: (ليس بينهما صداق)، فإذا وُجد الصداق، صح العقد، وهذا قول جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة.
لانتفاء الظلم والإكراه في المُزوَّجة، فكان كالشروط في النكاح.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: "وإذا زوج الرجل ابنته الرجل أو المرأة يلي أمرها، على أن يزوجه الرجل ابنته أو المرأة يلي أمرها، على أن صداق إحداهما كذا لشيء يسميه، وصداق الأخرى كذا لشيء يسميه أقل أو أكثر - فليس هذا بالشِّغار المنهي عنه"[27].
وقال ابن قدامة رحمه الله: "فأما إن سمَّوا مع ذلك صداقًا، فقال: زوجتك ابنتي على أن تُزوجني ابنتك، ومهر كل واحدة منهما مائة، أو مهر ابنتي مائة، ومهر ابنتك خمسون أو أقل أو أكثر - فالمنصوص عن أحمد فيما وقفنا عليه صحته"[28].
وقال ابن القيم رحمه الله: "واختُلف في علة النهي: فقيل: هي جعل كل واحد من العقدين شرطًا في الآخر.
وقيل: العلة التشريك في البضع، وجعل بضع كل واحدة مهرًا للأخرى، وهي لا تنتفع به، فلم يرجع إليها المهر، بل عاد المهر إلى الولي، وهو ملكه لبضع زوجته بتمليكه لبضع موليته، وهذا ظلم لكل واحدة من المرأتين، وإخلاء لنكاحهما عن مهر تنتفع به.
وهذا هو الموافق للغة العرب؛ فإنهم يقولون: بلد شاغر من أمير، ودار شاغرة من أهلها: إذا خلت، وشغر الكلب: إذا رفع رجله وأخلى مكانها.
فإذا سمَّوا مهرًا مع ذلك، زال المحذور ولم يبقَ إلا اشتراط كل واحد على الآخر شرطًا لا يُؤثر في فساد العقد، فهذا منصوص أحمد"[29].
الترجيح:
والراجح في هذه المسألة أنه إذا أُعطيت كل زوجة مهر مثلها، ورضيت بالزوج وهو كفءٌ لها، فإن العقد صحيح؛ أي: إذا اجتمعت فيه شروط ثلاثة، فلا بأس بذلك؛ وهي: الكفاءة، مهر المثل، الرضا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والصواب مذهب أهل المدينة مالك وغيره، وهو المنصوص عن أحمد في عامة أجوبته، وعامة أكثر قدماء أصحابه - أن العلة في إفساده بشرط إشغار النكاح عن المهر"[30].
واختار هذا القول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، فإنه سُئل عن نكاح البدل إذا كانت كل واحدة من الزوجتين راضية، وكان لها مهرها كاملًا.
فأجاب رحمه الله: "إذا كان الأمر كما ذكرت من أن لكل واحدة من الزوجين مهرَ مثلِها، وأن كل واحدة منهما راضية بالزواج من الآخر - فلا بأس بالزواج المذكور، وليس من الشِّغار المُحرم وبالله التوفيق"[31].
ورجح هذا القول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله؛ حيث قال: "إذا كان المهر مهر مثلها لم ينقص، والمرأة قد رضيت بالزوج، وهو كفء لها - فإن هذا صحيح، وهذا هو الصحيح عندنا أنه إذا اجتمعت شروط ثلاثة؛ وهي: الكفاءة، ومهر المثل، والرضا - فإن هذا لا بأس به؛ لأنه ليس هناك ظلم للزوجات، فقد أعطين المهر كاملًا، وليس هناك إكراه، بل غاية ما هنالك أن كل واحد منهما قد رغب ببنت الآخر، فشرط عليه أن يزوجه ... فظاهر الأدلة يقتضي أنه إذا وُجد مهر العادة والرضا والكفاءة، فلا مانع"[32].
وقال أيضًا رحمه الله: "نكاح الشِّغار منهيٌّ عنه، نهى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والشِّغار أن يزوج الإنسان موليته شخصًا، بشرط أن يزوجه ذلك الشخص موليته، فيقول: زوجتك بنتي بشرط أن تزوجني ابنتك، أو يقع بينهما اتفاق على ذلك من قبل بأن يزوجه ابنته ليزوجه الآخر ابنته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، ولأن هذا يضيع الأمانة، فيزوج الولي من يزوجه ولو كان غير كفء للمرأة، ويمتنع عن تزويج الكفء؛ لأنه لم يزوجه ابنته مثلًا؛ لهذا نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه، فأما إذا كان بينها الصداق المعروف الذي يُبذَل لمثل هذه المرأة، وكان كلٌّ من الزوجين كفءً للأخرى، وكان برضاهما أي: برضا البنتين - فإن ذلك لا بأس به عند كثير من أهل العلم؛ لأن الشروط فيه متوفرة، وليس فيه نقص، ولا غضاضة على الزوجتين، لا بالمال ولا بالنفس؛ فيكون جائزًا"[33].
مسألة:
من صور نكاح البدل أن يُزوج الرجل ابنته أو أخته أو من هي تحت ولايته لشخص آخر، ويتزوج هو بنت أو أخت أو من هي تحت ولاية هذا الشخص، دون اشتراط بينهما، مع الرضا والكفاءة ووجود المهر لكلٍّ منهما.
وهذه الصورة ليست من نكاح الشِّغار ولا حرج فيها.
قال أعضاء اللجنة الدائمة للإفتاء: "أما إن خطب هذا مولية هذا، وخطب الآخر موليته، من دون مُشارطة، وتم النكاح بينهما برضا المرأتين، مع وجود بقية شروط النكاح - فلا خلاف في ذلك، ولا يكون حينئذٍ من نكاح الشِّغار"[34].
وقال الشيخ صالح الفوزان: "إذا زوَّج الرجل موليته لرجل آخر على أن يزوجه الآخر موليته، ولم يكن بينهما مهر، فهو نكاح الشِّغار؛ حيث جُعلت أنثى في مُقابل أنثى، وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو نكاح باطل يجب أن يُفرَّق بينهما.
أما إذا زوج كل واحد منهما الآخر موليته من غير اشتراط، وإنما تم عن طريق التراضي، ورغبة كلٍّ من المرأتين في زوجها، وكان هناك صداق تامٌّ، فليس هذا من الشِّغار؛ لانتفاء الضرر"[35].
أخي الحبيب:
أكتفي بهذا القدر وفيه الكفاية إن شاء الله، وأسأل الله عز وجل أن يكون هذا البيان شافيًا كافيًا في توضيح المراد، وأسأله سبحانه أن يرزقنا التوفيق والصواب في القول والعمل، وما كان من صواب فمن الله، وما كان من خطأ أو زلل فمنى ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، والله الموفق، وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وفي الختام أسأل الله عز وجل لي ولكم ولجميع المسلمين العلم النافع، والعمل الصالح، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] المُغني لابن قدامة (ج: 7/ 176).
[2] فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام للشيخ ابن عثيمين (ج: 4/ 480).
[3] مختار الصحاح للرازي (ج: 2/ 700).
[4] نهاية اللغة لابن الأثير، مادة (شغر)، (ج: 2/ 226).
[5] الاستذكار لابن عبدالبر (ج: 5/ 465).
[6] التمهيد لابن عبدالبر (ج: 14/ 70).
[7]بداية المجتهد لابن رشد (ج: 3/ 80).
[8] المبسوط للسرخسي (ج: 5/ 105)، بدائع الصنائع للكاساني (ج: 2/ 278).
[9] رواه البخاري (5112)، ومسلم (1415).
[10]رواه مسلم (1415).
[11] رواه البخاري (6960).
[12]رواه مسلم (1416).
[13] رواه مسلم (1417).
[14]زاد المعاد لابن القيم (ج: 5/ 99).
[15] المدونة الكبرى للإمام مالك (ج: 2/ 98).
[16] الأم للإمام الشافعي (ج: 3/ 85).
[17] المغني لابن قدامة (ج: 10/ 42).
[18]الاستذكار لابن عبدالبر (ج: 16/ 203).
[19]المحلى لابن حزم (ج: 12/ 118).
[20]حاشية ابن عابدين "رد المحتار على الدر المختار" (ج: 3/ 105).
[21] إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة لأبي العباس البوصيري (ج: 4/ 104).
[22] الشرح الممتع على زاد المستقنع للشيخ ابن عثيمين (ج: 12/ 172).
[23] رواه أبو داود (2077)، والبيهقي (13918)، وابن حبان (4153)، وأحمد (16902)، وأبو يعلى (7370)، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح أبي داود (1810).
[24] فتاوى اللجنة الدائمة، المجموعة الأولى (ج: 18/ 427).
[25] مجموع فتاوى الشيخ ابن باز (ج: 20/ 280).
[26] فتاوى نور على الدرب للشيخ ابن باز (ج: 21/ 26).
[27] الأم للإمام الشافعي (ج: 5/ 83).
[28] المغني لابن قدامة (ج: 7/ 177).
[29]زاد المعاد لابن القيم (ج: 5/ 99).
[30] مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (ج: 34/ 126).
[31] فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (ج: 10/ 159).
[32] الشرح الممتع على زاد المستقنع للشيخ ابن عثيمين (ج: 12/ 174).
[33] فتاوى نور على الدرب للشيخ ابن عثيمين (ج: 11/ 347).
[34] فتاوى اللجنة الدائمة، المجموعة الأولى (ج: 18/ 427).
[35] المنتقى من فتاوى الشيخ صالح الفوزان، سؤال رقم (363).
_____________________________________________________
الكاتب: عبد رب الصالحين أبو ضيف العتموني