الخنساء شذوذ الأمومة
على كثرة سِيَرِ الشاعرات العربيات على مدى تاريخ الأدب، لم نجد امرأة أعجبَ من "تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد السلمي"، الشهيرة بالخنساء..
- التصنيفات: الشعر والأدب - تراجم العلماء -
على كثرة سِيَرِ الشاعرات العربيات على مدى تاريخ الأدب، لم نجد امرأة أعجبَ من "تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد السلمي"، الشهيرة بالخنساء، والخَنَسُ هو تأخر الأنف إلى الرأس وارتفاعه عن الشَّفَةِ، وقيل: هو قريب من الفَطَسِ؛ وهو لصوق القصبة بالوَجْنَةِ وضخم الأرنبة، أما مبعث العجب فكثير؛ فرغم وفاتها في أول عصر عثمان بن عفان عام 24 هجرية، بخلاف بين المؤرخين، فإنها فلم تَقُلْ شعرًا في إسلامها؛ فهي شاعرة جاهلية خالصة بتعبير بنت الشاطئ في كتابها (الخنساء)، وقد أقرَّ ذلك ابن قتيبة قال: "وهي جاهلية، كانت تقول الشعر في زمن النابغة"؛ [الشعر والشعراء]، ولم نعثر على شعر قالته في إسلامها، إلا ثلاثة أبيات ذكرها الجاحظ في (المحاسن والأضداد)، حين طلب منها الخليفة عمر أن تتوقف عن البكاء، ثم طلب أن تنشده ما قالته في صخر قديمًا فقالت: "أَمَا أني لا أنشدك ما قلت قبل اليوم، ولكني أنشدك ما قلتُه الساعة، فقالت:
سقى جَدَثًا أعراقُ غَمْرَةَ دونه
وبيشة ديماتُ الربيع ووابلُهُ
وكنتُ أُعِير الدمعَ قبلك من بكَى
فأنت على من مات قبلك شاغلُه
وأرعيهم سمعي إذا ذكروا الأسى
وفي الصدرِ مني زفرةٌ لا تزايلُه
فقال عمر: دعوها؛ فإنها لا تزال حزينة أبدًا"،ولم تقل الخنساء شعرًا في زوجها، ولم تتألم لفراقه وزواجها من زوج آخر، على كثرة ما أودعته ديوانها الذي حوى نحو مائة قصيدة ومقطوعة.
فجيعة بلا رثاء:
وربما كان المدهش حقًّا أنها لم ترثِ أولادها، وقد شهِدوا القادسية في العام السادس عشر للهجرة فاستُشهد الأربعة، فلم تتحرك عاطفتها مطلقًا نحوهم؛ مما دفع باحثًا إلى الشك في الأمر كله، فقد ذكر الباحث طه عمرين بمنتدى الحوار بمجلة العربي العدد 549 شكَّه في رواية وفاة أولادها الأربعة، مؤكدًا أن الخنساء لها ولدٌ قد ارتد عن الإسلام المعروف بأبي شجرة، وعاش إلى ما بعد القادسية، ما استطاع أن يقرب من المدينة حتى توفي عمر، وكان يقول: "ما رأيت أحدًا أهيب من عمر"، وأن هناك خنساءَ أخرى هي التي فقدت أولادها؛ وذلك لأنه حسب الوصية الشهيرة أنها قالت لهم في وداعها: "والله إنكم لَبَنُو رجلٍ واحد"، وينهي الكاتب مقاله قائلًا: "لن أقول إنني أتحدى أحدًا ليُثبِتَ عكس ما ذكرته، لكنني أتمنى من أي أحد من القراء أو الكُتَّاب أن يكذِّبني، فيذكر مصدرًا قديمًا تحدث عن استشهاد أولادٍ أربعةٍ للخنساء السلمية".
ولا شك أن دوافع الكاتب للشك كثيرةٌ؛ لأن هناك ثلاث شاعرات لُقِّبْنَ بالخنساء؛ منهن أخت زهير بن أبي سُلمى؛ كما ذكر ذلك الآمدي في (المؤتلف والمختلف)، وهناك أربع صحابيات حملن نفس الاسم ذكرهن ابن حجر في (الإصابة)، وربما اختلط الأمر على كُتَّابِ السِّيَرِ، وما نراه في الأغاني يظل مدهشًا، حين نجد سردًا لِما يدور في أعماق البيوت، ولا ندري من نقله لنا، ثم يتعجب البعض مما يراه العامة، فها هو دُرَيْدُ بن الصِّمَّةِ يراها ترعى بعيرًا لها وقد خففت ثيابها، فخَلبَتْهُ وشغلته، فذهب لأبيها خاطبًا، ويذكر (صاحب الأغاني) روايتين؛ أما الأولى: فمشهورة معروفة حين فضَّلت ابن عمها عليه، أما الثانية: "فقالت لأبيها: أنْظِرْني حتى أشاور نفسي، ثم بعثت خلف دريد وليدةً، فقالت لها: انظري دريدًا إذا بال، فإن وجدتِ بوله قد خرق الأرض، ففيه بقيَّة، وإن وجدته قد ساح على وجهها فلا فضلَ فيه، فاتَّبعته وليدتها، ثم عادت إليها، فقالت: وجدت بوله قد ساح على وجه الأرض، فأمسكت، وعاود دريد أباها فعاودها، فقالت له هذه المقالة المذكورة، ثم أنشأت تقول:
أتخطبني هُبلتَ على دريدٍ
وقد أطردت سيد آل بدرِ
معاذ الله يَنْكِحُني[1] حَبَرْكَى
يُقال أبوه من جُشَمَ بن بكرِ
ويرد عليها دريد بشعرٍ قوي، فلا ترد ثانية، وتقول: لا أجمع عليه أن أردَّه وأهجوَه".
بهذه الشخصية الحاضرة الخارجة عن أعراف مجتمعها وتقاليده، يأتي ذكر الخنساء، قادرة باهرة عالمة بأحوال المجتمع وطبائعه.
أهجرها الشعر أم هجرته؟
لماذا قصرت الخنساء رثاءها على أخويها، ولم ترثِ أولادها؟ بل لماذا لم تنشد شعرها بعد إسلامها؟ ولماذا لم ترثِ زوجها وابنتها، بل لم ترثِ شهداءها الأربعة؟ أمر مدهش حقًّا، وقد حاول الكثيرون تبرير ذلك تبريراتٍ لا تُقْنِعُ عقلًا ولا تنفي أصلًا، فقيل: إن المرأة التي استُشهد أولادها هي الخنساء النخعية، وأورد صاحب (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ص: 173) أن الشعبي قال: "كانت امرأة من النخع لها بنون أربعة شهدوا القادسية، فقالت لبنيها: إنكم أسلمتم فلم تبدِّلوا، وهاجرتم فلم تثوبوا، ولم تَنْبُ بكم البلاد، ولم تقحمكم السنة، ثم جئتم بأمكم عجوز كبيرة، فوضعتموها بين يدي أهل فارس، إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنتُ أباكم ولا فضحت خالكم، انطلقوا فاشهدوا أول القتال وآخره، فأقْبَلوا يشتدُّون، فلما غابوا عنها، رفعت يديها إلى السماء وهي تقول: اللهم ادفع عن بَنِيَّ، فرجعوا إليها وقد أحسنوا القتال ما كُلِمَ منهم رجلٌ كَلْمًا، فرأيتهم بعد ذلك يأخذون ألفين ألفين من العطاء، ثم يأتون أمهم فيلقونه في حجرها، فترده عليهم وتقسمه فيهم على ما يصلحهم ويرضيهم"؛ [ج: 2، ص: 414]، وهو يكاد يكون ما جاء في (الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء)؛ ألَّفه أبو الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي، وحققه د. محمد كمال الدين عز الدين علي، في أربعة أجزاء، صادرة عن عالم الكتب ببيروت؛ يقول: "وحضَّ المغيرة الناس، وقال: إن الكلام عند القتال فشل، فالزموا الصمت، ولا يزولن أحد منكم عن مركزه، فإذا حركت رايتي فاحملوا... فقالت امرأة من بني أسد لبنيها وهم أربعة: يا بَنِيَّ، والله ما نَبَتْ بكم دارٌ، ولا أفحمتكم سَنَةٌ، ولقد أسلمتم طائعين، وهاجرتم راغبين، وجئتم بأمكم عجوزًا كبيرة، فوضعتموها بين يدي أهل فارس، فقاتلوا عن دينكم وأمكم، فوالله إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، فاشهدوا أشدَّ القتال، فحملوا، فقالت: اللهم احفظ فيَّ بني"، وروى الشعبي أن هذه المرأة كانت من النخع، وذكر حديثها بنحو ما تقدم إلى قولها: "كما أنكم بنو امرأة واحدة"، وزاد ها هنا: "ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، انطلقوا فاشهدوا أول القتال وآخره، فأقبلوا يشتدون، فلما غابوا عنها رفعت يديها إلى السماء، وهي تقول: اللهم ادفع عن بَنِيَّ، فرجعوا إليها، وقد أحسنوا القتال، فما كُلِمَ رجل منهم كَلْمًا، قال الشعبي: فرأيتهم بعد ذلك يأخذون ألفين ألفين من العطاء، فيأتون أمهم، فيلقونه في حجرها، فترده عليهم وتقسمه فيهم على ما يصلحهم"، أما ما شك فيه الباحث طه عمرين، فقد أورده كثيرون، وذكر "البغدادي" في (خزانة الأدب) أنها "هي أم العَبَّاس بن مرداس وهي أم إخْوته الثَّلَاثَة، وكلهم شاعر، ولم تلد الخنساء إلا شَاعِرًا" (وحتى ابنتها أيضًا شاعرة)، وهناك تداخل شديد في نسبة أبناء الخنساء وعددهم، حتى يقطع الجاحظ في (رسائله) بنسبة العباس بن مرداس إلى أم زنجية، وهو ما فصَّله د. يحيى الجبوري محقق ديوان العباس بن مرداس، الصادر عن مؤسسة الرسالة، عام 1991م: "ومن ولدها أبو شجرة السلمي"، وتورد المصادر المتعددة قصة إسلامه ثم رِدَّته، ثم إسلامه، "حين أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطلب إليه صدقة، فقال له عمر: ومن أنت؟ قال: أنا أبو شجرة السلمي، فقال له عمر: أي عُدَيَّ (تصغير عَدُو) نفسه، ألست القائل حين ارتددتَ:
ورويتُ رمحي من كتيبة خالد
وإني لأرجو بعدها أن أعمرا
وعارضتها شهباء تخطر بالقنا
ترى البيض في حافاتها والستورا
ثم انحنى عليه عمر بالدرة، وهو يعدو أمامه حتى فاته هربًا، وهو يقول:
قد ضنَّ عنا أبو حفص بنائله *** وكل مختبط يومًا له ورقُ
[راجع الكامل (ص: 220، 221)، طبع أوروبا، وتاريخ الطبري (ص: 1905 – 1908) من القسم الأول، والشعر والشعراء]، وقد ذكر البغدادي القصة كاملة، أن الخنساء نصحت أولادها الأربعة قبل القادسية، وأنهم استُشهدوا جميعًا، فقالت حين بلغها موتهم: "قَالَت: الْحَمد لله الَّذِي شرفني بِقَتْلِهِم، وَأَرْجُو من رَبِّي أَن يجمعني بهم فِي مُسْتَقرِّ رحمته، فَكَانَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يُعْطِيهَا أرزاق أَوْلَادهَا الْأَرْبَعَة لكل وَاحِد مِنْهُم مائَة دِرْهَم حَتَّى قُبِض"، وقد توفي البغدادي عام 1093ه، ولكن نفس القصة بتفاصيلها نجدها أيضًا في (الاستيعاب)، وابن عبدالبر توفي عام 463ه، وقد وردت القصة في كثير من الكتب القديمة، وفي الغالب منسوبة للزُّبَيْر بن بكار، وهو كما يقول عنه صاحب (سير أعلام النبلاء): "العلَّامة الحافظ النسَّابة، قاضي مكة وعالمها، مولده في سنة اثنتين وسبعين ومائة"، ورواية ابن بكار واضحٌ فيها التَّزيُّد بلا شك، فقد أورد أشعارًا لكل واحد من أولادها، وهم يستعدون للقتال، كما قرأناه في (الاستيعاب) ونخلص من ذلك أن المصادر القديمة تذكر الواقعة بتفاصيلها في كتب متعددة؛ منها: الوافي بالوفيَات للصفي، والاستيعاب ج: 4، وخزانة الأدب ج: 1، وشرح مقامات الحريري للشريش، والإصابة ج: 8، ومعاهدة التنصيص ج: 1، وتؤكد أن العباس كان رابع أربعة رجال لها، وأن عمر بن الخطاب ظل يُعْطِيهَا أرزاق أَوْلَادهَا الْأَرْبَعَة، نرجع أخيرًا للشذوذ الغريب في هذه الأم التي ذاب قلبها على أخ لها من الأب، ولم يتحرك لأولادها ولزوجها، حتى في لحظة زواج ابنتها، نجد موقف غاية في الغرابة، وهو مثبت في كتب كثيرة منها (تاريخ دمشق لابن عساكر)، يقول: "عن علقمة بن جرير السلمي، قال: جئت معاوية بن أبي سفيان، فقال: يا علقمة، هل كانت عندكم طريفة خبر أو أعجوبة؟ قال: قلت: قد كان، أفأحدِّثك؟ قال: ذاك أردت، فقلت له: أقبلت قبل مخرجي إليك أسوق شارفًا لي أريد أن أنحرها عند الحي، فأدركني الليل بين أبيات بني الشريد، فإذا عمرة بنت مرداس بن أبي عامر عروسًا، وأمها الخنساء ابنة عمرو بن الشريد، فقلت لهم: انحروا هذا الجزور، فاستعينوا بها على بعض ما أنتم به، وجلست معهم، فلما هُيِّئت أذن له، فدخلنا عليها، فإذا جارية وضيئة على الأدمة، وإذا أمها الخنساء جالسة متلففة بكساء أحمر قد هرمت، وإذا هي تلحظ الجارية لحظًا شديدًا، فقال القوم: بالله يا عمرو، ألا تحرشت بها؟ فإنها الآن تعرف بعض ما أنت فيه، فقامت الجارية تريد شيئًا فوطئت على قدمها وطأة أوجعتها، فقالت وهي مغيظة: حس إليك يا حمقاء، والله كأنما تطئين أمة ورهاء تغني، فقالت الخنساء: أنا والله كنت أكرم منك عرسًا وأطيب ورسًا وذلك زماني، إذ كنت فتاة أعجب الفتيان، أشرب اللبن غضًّا قارصًا، ومحضًا خالصًا، لا أنهش اللحم، ولا أذيب الشحم، ولا أرعى البهم، كالمهرة الصنيع، لا مضاغة، ولا عند مضيع، عقيلة الجواري الحسان الحور، وذلك في شبيبتي قبل شيبي، وعليَّ درع من ثوب، فعجب معاوية من الحديث".
البكَّاءة تودِّع الحياة:
يقول صاحب الأغاني: "قال حسان بن ثابت: جئت نابغة بني ذبيان، فوجدت الخنساء بنت عمرو حين قامت من عنده، فأنشدته، فقال: إنك لشاعر، وإن أخت بني سليم لبكَّاءة"، هذه البكاءة لماذا لم تبكِ أولادها؟ إننا أمام شخصية قوية مسيطرة واثقة بذاتها، انظر لها حين يقول لها النابغة مشيرًا إلى حسان بن ثابت؛ كما روى ابن قتيبة في (الشعر والشعراء)، إذ قال للخنساء: "أنشديه، فأنشدته، فقال: والله ما رأيت ذات مثانة أشعر منكِ، فقالت له الخنساء: والله ولا ذا خصيين"، ولكنها ترفض زوجًا عظيمًا كدريد بن الصمة، وتتزوج من رجل مِتلاف، يُذهِب ماله، فتذهب لأخيها صخر فيشاطرها ماله، ويعطيها خيره، ويتكرر الأمر عدة مرات، لقد خُدعت في زوجها، فكرِهت عيشتها، وزهدت في تعلُّقها بأبنائها، وظلت بائسة يائسة في حياتها، لولا تدخل صخر بكرمٍ لا مثيل له، ثم يُقتَل صخر، فتبكيه كما لم تبكِ أحدًا قبله ولا بعده، لقد حزنت بلا شك لموت معاوية، لكن لوعتها في صخر لا تُقدَّر، ويموت زوجها، وترثيه ابنتها عمرة بنت مرداس:
والفيض فينا شهاب يُستضاء به *** إنا كذلك فينا يوجد الشُّهُبُ
كذلك رثى ابنها عباس أخاه سراقة:
أعينُ ألا أبكي أبا الهيثمِ
وأذري الدموع ولا تسأمي
وأثني عليه بآلائه
بقول امرئٍ موجع مؤلمِ
يبدو أن الخنساء حين ودَّعت أخويها، ودعت معهما الحياة، لقد تساوت قيمتا الموت والحياة لديها، ولذلك لم يعد للشعر قيمته بعدما مات صخر، ولم يعد للشعر سبيلًا، وقد فقدت أجمل ما لاقته في حياتها، وانظر لها وهي تأتي لعائشة عليها السلام، وهي "حليقة الرأس تدُبُّ على عصًا"، لقد ظلت ترثي أخاها حتى عَمِيَتْ، وقصتها مع عائشة رضي الله عنها تشهد بذلك، فقد دخلت على عائشة، وعليها صدار من شعر، قالت لها عائشة رضي الله عنها: "يا خنساء، إن هذا لقبيح، قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما لبست هذا، قالت: إن له قصة، قالت: فأخبريني، قالت: زوَّجني أبي رجلًا، وكان سيدًا مِعطاء، فذهب ماله، فقال لي: إلى من يا خنساء؟ قلت: إلى أخي صخر، فأتيناه، فقسم ماله شطرين، فأعطانا خيرهما، فجعل زوجي أيضًا يعطي ويحمل، حتى نفد ماله، فقال: إلى من؟ فقلت: إلى أخي صخر، فأتيناه، فقسم ماله شطرين، فأعطانا خيرهما، فقالت امرأته: أما ترضى أن تعطيَها النصف حتى تعطيَها أفضل النصيبين؟ فأنشأ يقول:
والله لا أمنحها شرارها
وهي حَصَان قد كفتني عارها
ولو هلكتُ مزَّقت خِمارها
وجعلت من شعر صِدارَها
فذلك الذي دعاني إلى أن لبست هذا حين هلك"، وقد سبق وقالت بوضوح في رثاء معاوية: فآليت آسى على هالكٍ = وأسأل باكية ما لها؟
وفي صخر تقول:
إنَّ نفْسِي بعد صخرٍ
بالرَّدَى معترفه
وبها من صَخْرٍ شيءٌ
ليس يُحكَى بالصِّفَه
وفيه أيضًا تقول:
حلفت بالبيت وزوَّاره
إذ يُعمِلون العيس نحو الجِمار
لا أجزع الدهر على هالكٍ
بعدك ما حنَّت هوادي العِشار
هذه مشاعر امرأة باعت حياتها بأبنائها وأزواجها وشِعرِها وشَعرها؛ ولذا ظلت عمرها الطويل تبكي بلا انقطاع؛ ولذا فهذا الشذوذ أصله أن تقوم الأخوة مقامًا أعلى من البُنُوَّة.
[1] الحبركي: الغليظ الطويل الظهر القصير الرجلين، والأنثى منه حبركاة، وقد ورد هذا البيت في (اللسان) هكذا: ولست بمرضع ثديي حبركى = قصير الشِّبْرِ من جُشَمَ بن بكرِ؛ [راجع الأغاني وتعليقات المحقق].
_________________________________
الكاتب: إبراهيم محمد حمزة