زمن الشيلات!!

هل هناك من يهتم بقلبه، ويحرص على ألَّا يَرِدَ عليه إلا ما كان حقًّا؟

  • التصنيفات: أعمال القلوب -

عندما يتناول أحدنا طعامًا، فإنه يختار أفضل الطعام ليتغذى به، ويترك ما يضرُّ منه بدنه، وعندما يختار من اللباس، فهو يأخذ أجمله وأجْوَدَه؛ كيلا يتأذى جسده مما قد يسبِّب له نوعًا من الحساسية.

 

لكن هل هناك من يهتم بقلبه، ويحرص على ألَّا يَرِدَ عليه إلا ما كان حقًّا؟

فالقلب قد يُصَبُّ فيه ما يفسده من خلال السمع؛ فالقلب مضغة صغيرة، لكنه ملكٌ للأعضاء جميعًا، إن صلُحت وطهُرت، صلحت باقي الأعضاء، وإن فسدت هذه المضغة، فسدت الأعضاء.

 

انتشرت في الآونة الأخيرة ما يسمى بالشيلات؛ فبعضهم اتخذها حاديًا يحدو به في هذه الحياة في كل مناسبة من مناسباته في الحَلِّ والتَّرحال، في الأفراح والأتراح، بل في كل مقطع من مقاطع وسائل التواصل، لا يكاد يمر يومٌ إلا وتمر على الأذان، فتلطخها وتصدُّها عن السماع الإيماني، فأصبحت بعض البيوت صاخبة، وافتقدت ما كانت عليه من السَّكِينةِ بسبب هذا السماع الشيطاني.

 

وعلى مَن يشتبه عليه حرمتها أو حِلُّها أن ينظر كيف تأثيرها على القلوب، وكيف أبعدتها عن سماع القرآن إدراكًا وفهمًا، وتدبُّرًا واستجابة؛ قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]؛ قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى: "فإن من لازم على هذين الأمرين - أي: الاستماع والإنصات - حين يُتلى كتاب الله، فإنه ينال خيرًا كثيرًا وعلمًا غزيرًا، وإيمانًا مستمرًّا متجددًا، وهدًى متزايدًا، وبصيرة في دينه، ولهذا رتَّب الله حصول الرحمة عليهما، فدلَّ ذلك على أن من تُلِيَ عليه الكتاب، فلم يستمع له وينصت، أنه محروم الحظِّ من الرحمة، قد فاته خير كثير".

 

فكم من الخير فاتنا؟

ومن جميل ما ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في "مدارج السالكين" في منزلة السماع قوله: "فالسماع أصل العقل، وأساس الإيمان الذي انبنى عليه، وهو رائده وجليسه ووزيره، ولكن الشأن كل الشأن في المسموع".

 

ثم نبَّه رحمه الله كيف أن السماع يؤثر في القلوب، ويحركها حبًّا وبغضًا، أو هربًا وطلبًا، فهو كالحادي يحدو بكل أحدٍ إلى وطنه ومألفه.

 

وذكر أن أفضل السماع الذي مدحه الله في كتابه، وأمر به، وأثنى على أصحابه، وذمَّ المعرضين عنه - هو سماع آياته المتلوَّة التي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا السماع أساس الإيمان الذي عليه بناؤه، وهو سماع إدراك بحاسة الأذن، وسماع عقل وفهم، وسماع إجابة وقبول، والثلاثة كلها في القرآن.

 

قال رحمه الله: "وكل سماع في القرآن مدح الله أصحابه، وأثنى عليهم، وأمر به أولياءه - فهو هذا السماع؛ وهو سماع الآيات لا سماع الأبيات، وسماع القرآن لا سماع الشيطان، وسماع كلام رب الأرض والسماء، لا سماع قصائد الشعراء، وسماع الأنبياء والمرسلين لا سماع المغنين والمطربين".

 

يا تُرَى هل هذا السماع سيؤثر في قلبي، أو يغير من حياتي؟

نعم، هذا السماع كالغيث الذي ينزل على أرضٍ جرداءَ قاحلةٍ فتنبت وتزهر وتثمر؛ ومما دلنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدعاء: «اللهم اجعل القرآن الكريم ربيع قلبي، ونور صدري، وجِلاءَ حزني، وذَهاب همِّي».

 

بل ذكر ابن القيم في المدارج في فضل هذا السماع كنوزًا عظيمة فقال: "فلن تُعدَمَ من هذا السماع إرشادًا لحُجَّةٍ، وتبصرة لعِبْرَةٍ، وتذكرة لمعرفة، وفكرة في آية، ودلالة على رشد، وردًّا عن ضلالة، وإرشادًا من غيٍّ، وبصيرة من عمًى، وأمرًا بمصلحة، ونهيًا عن مضرة ومفسدة، وهداية إلى نور، وإخراجًا من ظلمة، وزجرًا عن هوًى، وحثًّا على تُقًى، وجلاء لبصيرة، وحياة لقلب، وغذاءً ودواءً وشفاء، وعصمة ونجاة وكشف شبهة، وإيضاحَ برهان، وتحقيقَ حق، وإبطال باطل".

 

كم حرمنا أنفسنا من هذه الكنوز!

تجلس المرأة في بيتها وتعمل، وتجيء وتذهب، وتغفل عن الاستماع لسورة من سور القرآن، وتدبر آياتها، ويذهب الرجل في سيارته، ويقف وقد انتظر طويلًا، ويغفل عن أن يستمع لسورة من القرآن بتدبر.

 

ولذا يشكو بعضنا من الصخب في البيوت وقلة السكينة والبركة، وما هذا إلا لأننا استبدلنا الذي هو أدنى بالذي هو خير، فعاثت الشياطين في البيوتات، بعد أن عُمرت بالشيلات، نسأل الله السلامة والعافية.