دَعَامِيصُ الْجَنَّةِ

خالد سعد النجار

وهذا القول هو أصح الأقوال في أهل الفترة ونحوهم ممن لم تبلغهم الدعوة الإلهية، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم وجماعة من السلف والخلف-رحمة الله عليهم جميعًا.

  • التصنيفات: الحديث وعلومه -

{بسم الله الرحمن الرحيم }

أخرج مسلم عَنْ أَبِي حَسَّانَ، قَالَ: «قُلْتُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّهُ قَدْ مَاتَ لِيَ ابْنَانِ، فَمَا أَنْتَ مُحَدِّثِي عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِحَدِيثٍ تُطَيِّبُ بِهِ أَنْفُسَنَا عَنْ مَوْتَانَا؟ قَالَ: نَعَمْ، (صِغَارُهُمْ دَعَامِيصُ الْجَنَّةِ يَتَلَقَّى أَحَدُهُمْ أَبَاهُ - أَوْ قَالَ أَبَوَيْهِ -، فَيَأْخُذُ بِثَوْبِهِ - أَوْ قَالَ بِيَدِهِ -، كَمَا آخُذُ أَنَا بِصَنِفَةِ ثَوْبِكَ هَذَا، فَلَا يَتَنَاهَى - أَوْ قَالَ فَلَا يَنْتَهِي - حَتَّى يُدْخِلَهُ اللهُ وَأَبَاهُ الْجَنَّةَ)»

 

** (دعاميص) واحد دعموص أي صغار أهلها، وأصل الدعموص دويبة تكون في الماء لا تفارقه، أي أن هذا الصغير في الجنة لا يفارقها.

والدعموص أيضا: الدخال في الأمور: أي أنهم سياحون في الجنة دخالون في منازلها لا يمنعون من موضع، كما أن الصبيان في الدنيا لا يمنعون من الدخول على الحرم ولا يحجب منهم أحد.

** ( «يَتَلَقَّى أَحَدُهُمْ أَبَاهُ فَيَأْخُذُ بِثَوْبِهِ» ) يعنى يتعلق به كما يتعلق الإنسان بثياب من يلازمه، وإلا فالخلق في الموقف عراة (فلا ينتهي) أي لا يتركه (حتى يدخله الله وإياه الجنة) فيه أن أطفال المسلمين في الجنة.

** وقد روي شعبة عن معاوية بن قرة بن إياس المزني عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن رجلا من الأنصار مات له ابن صغير فوجد عليه، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أما يسرك أن لا تأتي بابا من أبواب الجنة إلا وجدته يستفتح لك) فقالوا: يا رسول الله أله خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال: (بل للمسلمين عامة) وهذا حديث ثابت صحيح

وفي رواية: (أما ترضى أن لا تأتي بابا من أبواب الجنة إلا جاء يسعى يفتحه لك) فقالوا: يا رسول الله أله وحده أم لنا كلنا؟ قال: (بل لكم كلكم).

** وعن أبي سعيد الخدري أن النساء قلن: يا رسول الله غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا من نفسك موعدا نأتيك فيه، فواعدهن ميعادا، فأتاهن فوعظهن، فقال لهن فيما يقول: (ما منكن امرأة تقدم ثلاثا إلا كانوا لها حجابا من النار) فقالت امرأة: واثنين يا رسول الله، فإنه قد مات له اثنان؟ قال عليه السلام: (واثنان). هذا حديث متفق على صحته أخرجاه جميعا.

** وعن أنس -رضي الله عنه-  قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: « (ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يَبْلُغُوا الْحِنْثَ [أي الاحتلام] إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم)» وفي رواية: «(إِلاَّ غَفَرَ الله لَهُمَا بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ)»

وفيه أن المسلم تكفر خطاياه وتغفر له ذنوبه بالصبر على مصيبته، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة).

** وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أولاد المسلمين في جبل تكفلهم سارة [سميت به لأنها كانت لبراعة جمالها تسرّ من رآها] وإبراهيم فإذا كان يوم القيامة دفعوهم إلى آبائهم. [رواه مُسَدَّد موقوفًا]

** وعن علي -رضي الله عنه-  في قول الله عز وجل {{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ}} قال: "هم أطفال المسلمين".

أولاد المشركين

** عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: « (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُشَرِّكَانِهِ) فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ؟ قَالَ: (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ)» [مسلم]

** وقال طائفة من المفسِّرين والمتكلمين أنهم في الجنة، واحتجُّوا بحديث سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ لِأَصْحَابِهِ: (هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا؟) قَالَ: فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُصَّ، وَإِنَّهُ قَالَ ذَاتَ غَدَاةٍ: (إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ فذكر الحديث، وفيه فَأَتَيْنَا عَلَى رَوْضَةٍ مُعْتَمَّةٍ، فِيهَا مِنْ كُلِّ لَوْنِ الرَّبِيعِ، وَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَيِ الرَّوْضَةِ رَجُلٌ طَوِيلٌ، لاَ أَكَادُ أَرَى رَأْسَهُ طُولًا فِي السَّمَاءِ، وَإِذَا حَوْلَ الرَّجُلِ مِنْ أَكْثَرِ وِلْدَانٍ رَأَيْتُهُمْ قَطُّ) إلى أن قال: (وَأَمَّا الرَّجُلُ الطَّوِيلُ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَمَّا الوِلْدَانُ الَّذِينَ حَوْلَهُ فَكُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الفِطْرَةِ) قَالَ: فَقَالَ بَعْضُ المُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَوْلاَدُ المُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَأَوْلاَدُ المُشْرِكِينَ)» [البخاري ومسلم]

** وعن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال «(أولاد المشركين خدم أهل الجنة)» [أخرجه: أبو داود الطيالسي، والبزار، وأبو يعلى، وضعفه الحافظ في الفتح، وابن القيم في طريق الهجرتين]

** قال ابن قدامة في المغني: ولا يصلى على أطفال المشركين، لأن لهم حكم آبائهم، إلا من حكمنا بإسلامه، مثل أن يسلم أحد أبويه، أو يموت، أو يسبى منفرداً من أبويه، أو من أحدهما، فإنه يصلى عليه. انتهى

و** في فتاوى الرملي الشافعي: فالصحيح أن أطفال المشركين محكوم بإسلامهم في الأحكام الأخروية، وبكفرهم في الأحكام الدنيوية. انتهى.

** ومن العلماء من توقف فيهم، وهو منقول عن الحمَّادَينِ [حماد بن زيد، وحماد بن سلمة]، وابن المبارك، وإسحاق بن راهويه، ونقله البيهقي في الاعتقاد عن الشافعي.

قال ابن عبد البر: هو مقتضى صنيع مالك، وهذا ما صرح به أصحابه، وحجتهم حديث: (الله أعلم بما كانوا عاملين)، أيضا لتعارض الأدلة في ذلك وعدم وضوح وبيان شيء منها في نظرهم.

قال الشيخ ابن باز رحمه الله: إذا مات غير المكلف بين والدين كافرين فحكمه حكمهما في أحكام الدنيا، فلا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، أما في الآخرة فأمره إلى الله سبحانه، وقد صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه لما سئل عن أولاد المشركين قال: (الله أعلم بما كانوا عاملين)

وهذا القول هو أصح الأقوال في أهل الفترة ونحوهم ممن لم تبلغهم الدعوة الإلهية، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم وجماعة من السلف والخلف-رحمة الله عليهم جميعًا.

وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن علم الله سبحانه فيهم يظهر يوم القيامة، وأنهم يمتحنون كما يمتحن أهل الفترة ونحوهم، فإن أجابوا إلى ما يطلب منهم دخلوا الجنة، وإن عصوا دخلوا النار، وقد صحت الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في امتحان أهل الفترة يوم القيامة، وهم الذين لم تبلغهم دعوة الرسل ومن كان في حكمهم كأطفال المشركين، لقول الله «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا»  [النساء:15] انتهى

قال بعض أهل العلم: وقد يتردد الإنسان في الترجيح ومن أسباب هذا التردد أن حديث الامتحان لم يثبت بطريق يعتمد عليه بسند واحد صحيح، إنما هو في الحقيقة مجموع طرق يمكن أن يقال: إنها حسنة، ويشد بعضها بعضا، وحديث الامتحان رواه الإمام أحمد وأبو يعلى وغيرهما بطرق مختلفة وبألفاظ مختلفة ولكنها متقاربة، أنه يأتي يوم القيامة أربعة يحاجون الله -عز وجل- وهم رجل -في بعض الروايات- أصم، ورجل أبكم، ورجل أحمق، ورجل صاحب فترة، وفي بعض الروايات أنه مولود صغير والأحمق مكانه المجنون أو المعتوه والثالث أنه صاحب فترة والرابع أنه رجل هرم.

يأتي هؤلاء فيقول الطفل الصغير: يا رب إنني صغير ولم أسمع ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-.

ويقول الكبير: يا رب قد بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا لا أعقل ولم أفهم شيئا.

ويقول المجنون أو المعتوه: يا رب بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- والأطفال يقذفونني بالحجارة لا أعقل شيئا. والأصم والأبكم كذلك.

وصاحب الفترة يقول: يا رب ما سمعت بنبي قط، وما وصلت إليّ رسالة رسول قط، فهؤلاء الأربعة يمتحنهم الله في عرصات القيامة، بأن يوقد النار أو يخرج لهم لسان من النار، ويقول لهم: ادخلوها، فإن دخلوها كانت بردا وسلاما عليهم، وإن عصوا وأبوا ألقوا فيها.

والاستدلال على هذه القضية يأتي من وجهين:

1/ الوجه الأول: هو هذا الذي ذكرناه من الطرق والأحاديث والروايات.
2/ الوجه الثاني: أن الامتحان والابتلاء ليس خاصا بهذه الحياة الدنيا، فإن الإنسان يمتحن في البرزخ، ويدل له حديث القبر. وفيه: فيقال له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟

وفي يوم القيامة امتحانات:

ومن ذلك أن الله -سبحانه وتعالى- يتجلى لعباده المؤمنين في صورة غير الصورة التي يعرفون ليمتحنهم بذلك في الموقف المهيب كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح

وقوله تعالى: {{يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ}} [القلم42] .. أي يوم القيامة يشتد الأمر ويصعب هوله, ويأتي الله تعالى لفصل القضاء بين الخلائق، فيكشف عن ساقه الكريمة التي لا يشبهها شيء امتحانا لهم, قال -صلى الله عليه وسلم-: «(يكشف ربنا عن ساقه, فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة, ويبقى مَن كان يسجد في الدنيا؛ رياء وسمعة, فيذهب ليسجد, فيعود ظهره طبقًا واحدًا)» [البخاري ومسلم].

لذلك فمن جاء يوم القيامة وقال: يا رب لم تبلغن الدعوة لم يأتن الرسول .. فإذا جاء هؤلاء واشتكوا إلى ربهم وقالوا: ما أتانا من رسول، وما جاءنا من نذير، فمن حكمة الله وعدله ورحمته التي وسعت كل شيء أنه يمتحنهم، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، فإن الذي يدخل الجنة، أو الذي يدخل النار، سواء كان امتحن في الدنيا أو امتحن في الآخرة، فإنه لن يدخل أحد الدارين إلا بما عمل بإرادته واختياره.

وحديث: (الله أعلم بما كانوا عاملين) لا يتنافى مع القول بالامتحان، ويمكن أن نجعله دليلا على الامتحان لأن الله يعلم ما كانوا عاملين، أي: إن نجحوا وآمنوا ساعة الامتحان يوم القيامة فالله تعالى سيدخلهم الجنة.
وإن كفروا وعصوا الله تعالى سيدخلهم النار.

أما حديث الخليل - عليه السلام - على رواية (أن ذراري المشركين كانوا معه) يحتمل أنهم امتحنوا فنجحوا، أو أن هؤلاء سيكونون على الصورة التي كانوا عليها، أي: أن هؤلاء الذراري الذين امتحنوا فنجحوا سموا أطفال المشركين، نسبة إلى ما كانوا عليه في الدنيا، فلهذا قال: (ذراري المشركين وأطفال المشركين) فأطفال المسلمين دخلوا الجنة لأنهم أطفال المسلمين، وأطفال المشركين كانوا مع الخليل في الجنة؛ لأنهم الذين نجحوا في الامتحان، أي أنهم أطاعوا الله سبحانه وتعالى.

إذاً: لا يمنع أن يوجد منهم من هو في النار.

ومن فقه المسلم انشغاله بأمر نفسه، وما يهمه من أمر دينه، وعدم انشغاله بمسائل الخلاف التي لا ينفعه الانشغال بها، ولا يضره ترك الانشغال بها .

ومسألة أطفال المشركين مما ينبغي على عموم المسلمين ألا يستكثروا من السؤال عنها، وقد صح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "لَا يَزَالُ أَمْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قِوَامًا أَوْ مُقَارِبًا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا فِي الْوِلْدَانِ وَالْقَدَرِ".

[رواه عبد الله بن أحمد في "كتاب السنة" قال ابن حبان في صحيحه] الْوِلْدَانُ: أراد به أطفال المشركين

وفي نيل الأوطار للشوكاني: والحاصل أن مسألة أطفال الكفار باعتبار أمر الآخرة من المعارك الشديدة لاختلاف الأحاديث فيها ولها ذيول مطولة لا يتسع لها المقام، وفي الوقف عن الجزم بأحد الأمرين سلامة من الوقوع في مضيق لم تدع إليه حاجة ولا ألجأت إليه ضرورة، وأما باعتبار أحكام الدنيا، فقد ثبت في صحيح البخاري في باب أهل الدار من كتاب الجهاد: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن أولاد المشركين هل يقتلون مع آبائهم؟ فقال: هم منهم.

قال في الفتح: أي في الحكم في تلك الحالة، وليس المراد إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم، بل المراد إذا لم يمكن الوصول إلى الآباء إلا بوطء الذرية، فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم جاز.

وتُعقب: بأن الآخرة ليستْ دار التكليف، فلا عمل ولا ابتلاء.

وأجيب: بأن ذلك لا يقع إلا بعد الاستقرار في الجنة أو النار، أما في العرصات، فلا مانع من ذلك

وهذا ما رجَّحه ابن القيم، قال: فاعلم أن الذي يدل عليه الأدلة الصحيحة، وتأتلف به النصوص، ومقتضى الحكمة هذا القول، والله أعلم.

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]