برُّ الصحابة رضي الله عنهم بآبائهم
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
عن عطاء بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه، قال: "كنتُ جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة، فقالت: يا رسول الله، إني أُمِّي لم تحجَّ قَطُّ، أفأحجُّ عنها؟ قال: ((نَعَم، حجِّي عنها))"؛ [أخرجه مسلم].
- التصنيفات: قصص الصحابة -
{بسم الله الرحمن الرحيم }
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين....أمَّا بعدُ: فقد كان صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام يرون أن بِرَّ الوالدين وخصوصًا البِرَّ بالأمهات من أفضل الأعمال؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لرجل: "إني لا أعلمُ عملًا أقرَب إلى الله عز وجل من برِّ الوالدة"؛ [أخرجه البخاري في الأدب المفرد]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما "أنه قال لرجل: أحَيٌّ والدُاكَ؟ قلت: عندي أُمِّي، قال: لو ألَنْتَ لها الكلامَ، وأطعَمْتَها الطعامَ لتدخُلَنَّ الجنَّة ما اجتنبت الكبائر"؛ [أخرجه البخاري في الأدب المفرد].
ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يحرصون على البِرِّ بوالديهم، ويخصُّون الأُمَّ بمزيد عناية؛ لعظيم حقِّها، فقد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم رؤيا، ورؤيا الأنبياء حَقٌّ أن أحد الصحابة في الجنة بسبب بِرِّه بأُمِّه؛ فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نمْتُ فرأيتني في الجنة، فسمعتُ صوت قارئ يقرأ، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا حارثة بن النعمان))، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كذلك البِرُّ، كذلك البِرُّ))، وكان أبَرَّ الناس بأُمَّه؛ [أخرجه أحمد].
ومن مواقفهم في البِرِّ بوالديهم:
البِرُّ بهما ولو كانا مشركين:
فعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: قدمت أُمِّي وهي مشركةٌ، فاستفتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أمِّي قدمت وهي راغبة، أفأصِلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ))؛ [متفق عليه]
الحرص على دعوتهما إلى الإسلام:
عن أبي هريرة رضي الله عنه "جئتُ فقلت: يا رسولَ الله، إني كنتُ أدعو أُمِّي إلى الإسلام، فتأبى عليَّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادْعُ اللهَ أن يهدي أُمَّ أبي هريرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أبي هريرة))، فخرجتُ مستبشرًا بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جئت، قالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"؛ [أخرجه مسلم].
البر بهما مع الثبات على الدين
قال سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه: "أُنزلت فيَّ هذه الآية: ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ﴾ [لقمان: 15]، قال: كنتُ رجلًا برًّا بأُمِّي، فلما أسلمتُ قالت: يا سعدُ، ما هذا الذي أراك قد أحدثت؟! لتدعَنَّ دينَكَ هذا أو لا آكُلُ ولا أشربُ حتى أموت، فتُعيَّرُ بي فيُقالُ: يا قاتل أُمِّه، فقلتُ: لا تفعلي يا أمه، فإني لا أدَعُ ديني هذا لشيء، فمكثَتْ يومًا وليلة لم تأكل، فأصبحت قد جهدت، فمكثَتْ يومًا آخر وليلة لم تأكل، فأصبحت قد جهدت، فمكثَتْ يومًا وليلة أخرى لم تأكل، فأصبحت قد اشتدَّ جهدها، فلما رأيتُ ذلك قلتُ: يا أمه، تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسًا نفسًا، ما تركت ديني هذا لشيء، فإن شئت فكلي وإن شئت لا تأكلي، فأكلتْ"؛ [قال ابن كثير: أخرجه الطبراني في كتاب العشرة].
ترك حج التطوُّع لصحبة الأُمِّ:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "والذي نفس أبي هريرة بيده، لولا الجهادُ في سبيل الله والحجُّ وبِرُّ أُمِّي لأحببْتُ أن أموتَ وأنا مملوك)[أخرجه البخاري ومسلم] زاد مسلم في رواية: قال: يعني الزهري: وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحجُّ حتى ماتَتْ أُمُّه؛ لصحبتها، قال الإمام النووي رحمه الله: المراد به حج التطوُّع؛ لأنه قد كان حج حجةَ الإسلام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فقدَّم بِرَّ الأُمِّ على حج التطوُّع؛ لأن بِرَّها فرضٌ، فقُدِّم على التطوُّع.
الصيام عنهما الصيام الواجب عليهما:
وعن عطاء بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه، قال: "كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة، فقالت: يا رسول الله، إن أُمِّي كان عليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ قال: ((صومي عنها))"؛ [أخرجه مسلم].
الصدقة عنهما في حياتهما:
وعن عطاء بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه، قال: "كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة، فقالت: يا رسول الله، إنِّي تصدَّقْتُ على أُمِّي بجارية، وإنها ماتت قال: ((وجب أجرُك، وردَّها عليك الميراث))"؛ [أخرجه مسلم].
الصدقة عنهما بعد موتهما:
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "إن سعد بن عبادة رضي الله عنه تُوفِّيت أُمُّه وهو غائب، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أُمِّي تُوفِّيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها شيء إن تصدَّقْتُ به عنها؟ قال: ((نعم))، قال: فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عليها"؛ [أخرجه البخاري].
الحجُّ والعمرة عنهما:
عن عطاء بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه، قال: "كنتُ جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة، فقالت: يا رسول الله، إني أُمِّي لم تحجَّ قَطُّ، أفأحجُّ عنها؟ قال: ((نَعَم، حجِّي عنها))"؛ [أخرجه مسلم].
وعن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه أنه أتى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: "يا رسول الله، إن أبي شيخٌ كبيرٌ، لا يستطيع الحَجَّ ولا العمرة ولا الظعن، قال: ((حُجَّ عن أبيك واعتمر))"؛ [أخرجه البخاري مسلم].
وعن الفضل بن عباس رضي الله عنهما قال: إن امرأة قالت: "يا رسول الله، إن أبي شيخٌ كبيرٌ، قد أدركته فريضة الله في الحج، وهو شيخ كبير، لا يستطيع أن يستوي على ظهر البعير، قال: ((حجِّي عن أبيك))"؛ [متفق عليه].
الدعاء لهما:
عن مولى أم هاني بنت أبي طالب "أنه ركب مع أبي هريرة إلى أرضه بالعقيق، فإذا دخل أرضه صاح بأعلى صوته: عليك السلام ورحمة الله وبركاته يا أمتاه، تقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يقول: رحمك الله كما ربَّيتني صغيرًا، فتقول: يا بني، وأنت جزاك الله خيرًا، ورضي عنك كما بررتني كبيرًا"؛ [أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وقال العلامة الألباني: حسن الإسناد].
قضاء النذر عنهما:
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: إن سعد بن عبادة استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذرٍ كان على أُمِّه، توفيتْ قبل أن تقضيَه، فقال: ((اقْضِه عنها))؛ [متفق عليه].
بِرُّهما بعد وفاتهما:
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، قال: "لما حضر قتال أُحُد، دعاني أبي من الليل، فقال: إني أراني إلا مقتولًا في أول مَنْ يُقتَل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني والله ما أدَعُ أحدًا؛ يعني: أعزَّ عليَّ منك بعد نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن عليَّ دَيْنًا، فاقْضِ عنِّي ديني، واستوصِ بأخواتك خيرًا، فأصبحنا، فكان أول قتيل، فدفنتُه مع آخر في قبر، ثم لم تَطِبْ نفسي أن أتركَه مع آخر في قبر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضَعَتْه غير أُذنه"؛ [أخرجه البخاري].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي قصة والد جابر من الفوائد: الإرشاد إلى بِرِّ الأولاد بالآباء خصوصًا بعد الوفاة.
وعن عبدالله بن دينار، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما "أن رجلًا من الأعراب لقيَه بطريق مكة، فسلَّم عليه عبدالله، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامةً كانت على رأسه، فقلنا له: أصلَحَكَ الله، إنهم الأعراب، وهم يرضون باليسير، فقال عبدالله بن عمر: إن أبا هذا كان وُدًّا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإني سمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أبَرَّ البِرِّ صِلةُ الرجل أهلَ وُدِّ أبيه))"؛ [أخرجه مسلم].
قال الإمام النووي رحمه الله: وفي هذا فضل صلة أصدقاء الأب، والإحسان إليهم، وإكرامهم، وهو متضمَّن لبِرِّ الأب وإكرامه؛ لكونه بسببه، ويلتحق به أصدقاء الأُمِّ والأجداد.
فينبغي بر الوالدين والاعتناء بأمرهما، والقيام بمصالحهما وخدمتهما، وقضاء دينهما، والنفقة عليهما إذا كانا محتاجين، وأن يجاهد الإنسان نفسه في ذلك؛ فالصحابي الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، قال له الرسول عليه الصلاة والسلام: ((أحيٌّ والداك؟))، قال: نَعَمْ قال: ((ففيهما جاهد))
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ