فوائد من العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير

فهد بن عبد العزيز الشويرخ

فقد كان للشيخ العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي المتوفى سنة ( 1393هجرية) عناية بتفسير القرآن الكريم, حيث كان له درس في المسجد النبوي, أتمّ فيه تفسير القرآن كاملاً, ثم شرع في تفسيره مرة ثانية

  • التصنيفات: القرآن وعلومه -

{بسم الله الرحمن الرحيم }

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد : فقد كان للشيخ العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي المتوفى سنة ( 1393هجرية) عناية بتفسير القرآن الكريم, حيث كان له درس في المسجد النبوي, أتمّ فيه تفسير القرآن كاملاً, ثم شرع في تفسيره مرة ثانية, وتوفي ولم يتم الثانية, وقد كانت تلك الدروس تسجل في أشرطة صوتية, وجد منها القليل لا يمثل إلا أجزاء من القرآن لا تتجاوز الأربعة, وقد قام فضيلة الشيخ الدكتور خالد بن عثمان السبت, أثابه الله, بتفريغ ما وجد من أشرطة, وإخراجها مكتوبة مقروءة, وسماه: " العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير " وهذه بعض الفوائد منه, أسأل الله الكريم أن ينفعني وجميع المسلمين بها.

العليم الحكيم:

قال الله عز وجل: { قالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32] في اسميه: ( الحكيم, العليم ) أكبر مدعاة للعباد أن يطيعوه ويتبعوا تشريعه, لأنه بحكمته يعلمون أنه لا يأمرهم إلا بما فيه الخير, ولا ينهاهم إلا عما فيه الشر, فلا يوقع لهم أمراً إلا في موقعه, ولا يضعه إلا في موضعه, وبإحاطة علمه: يعلمون أنه ليس هنالك غلط في ذلك الفعل, ولا عاقبة تنكشف عن غير ما أراد, بل هو في غاية الإحاطة والإحكام, وإذا كان من يأمرك عليم لا يخفى عليه شيء, حكيم في غاية الإحكام, لا يأمرك إلا بما فيه الخير, ولا ينهاك إلا عما فيه الشر, فإنه يحق لك أن تطيع وتمتثل.

القرآن الكريم كثير الخيرات والبركات:

يقول الله جل وعلا: ( {وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ) [الأنعام:155] قوله: ( مبارك ) معناه: أن هذا الكتاب مبارك, أي: كثير البركات, والخيرات, فمن تعلمه وعمل به غمرته الخيرات في الدنيا والآخرة, لأن ما سماه الله مباركاً فهو كثير الخيرات والبركات قطعاً, وكان بعض علماء التفسير يقول: اشتغلنا بالقرآن فغمرتنا البركات والخيرات في الدنيا, تصديقاً لقوله: ( {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} ) [الأنعام:92] ونرجو أن يكون لنا مثل ذلك في الدنيا, وهذا الكتاب المبارك لا ييسر الله للعمل به إلا الناس الطيبين المباركين.

من غرائب القرآن وعجائبه:

قوله في هذه الكريمة: ( {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} ) وإتباعه لذلك بقوله: ( {فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} ) [الفرقان:50] من غرائب هذا القرآن وعجائبه. وتطبيقه الآن على أكثر من في المعمورة, ينفون أن المطر نازل بحكمة خبير عليم...فينطبق عليهم قوله: ( {فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} ) وقد ثبت في صحيح مسلم عن  النبي صلى الله عليه وسلم «أن النبي صلى الله عليه وسلم كلمهم صبيحة ليلة كان فيها مطر, وقال لهم: ( هل سمعتم ماذا قال ربكم البارحة ؟ ) قالوا: وماذا قال؟ قال: (أصبح مؤمن عبادي مؤمن بي كافر بالكوكب, وأصبح من عبادي كافر بي مؤمن بالكوكب. أما من قال مُطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب, وأما من قال: مُطرنا بنوء كذا, فهو كافر بي مؤمن بالكوكب» 

وأكفر منه بالله من قال: مطرنا ببخار كذا, وكذا, لا بفعل الله وإرادته, فعلى المؤمن أن يعتقد أن المطر أنزله حكيم خبير, وأنه ماء ينزله من حيث شاء.

أمطار القرآن:

القلب الطيب إذا نزلت عليه أمطار القرآن: زواجره ونواهيه ومواعظه وحلاله وحرامه أثمر ذلك القرآن في ذلك القلب ثمرات أحسن من ثمرات الأرض الطيبة إذا نزل عليها المطر, فأثمر الإيمان بالله, والتطهر من أدناس المعاصي والكفر, وامتثال أمر الله واجتناب نواهيه, وكل خصلة حسنة يثمرها مطر القرآن في قلب المؤمن, كالخشية من الله, والتوبة عند الزلات, والإنابة إليه, والسخاء, والشجاعة, والرضا بقضاء الله, وعدم الشح, إلى غير ذلك من خصال الإسلام الكريمة الجميلة.

دواء الحزن والأذى:

قال الله عز وجل:{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}[الأنعام:33]

قال بعض العلماء: هذا الذي يحزنه من كلامهم قولهم له: " أنت شاعر, ساحر, مجنون, هذا الذي جئت به أسأطير الأولين, لا نقبل دينك " هذا الذي يؤذيه ويضيق به صدره, ويحزنه, وقد بين له الله جل وعلا في آخر سورة الحجر علاج هذا الداء من هذا الذي يقولونه له فيحزنه, وبين له أنه إذا أحزنه ذلك القول الذي يقولون أنه يُبادر إلى الصلاة, فإن الصلاة يعينه الله بها ويُذهب عنه ذلك الحزن, كما قال: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ } ) [البقرة:45]  

وقال له في آخر سورة الحجر: ( {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} ) [الحجر:97] فرتب على ضيق صدره بما يقولون _ بالفاء_ قوله: ( {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} ) [الحجر:98] فعرفنا أن التسبيح, والصلاة, والإنابة إلى الله هو دواء ذلك الحزن والأذى, الذي يناله منهم, ولذا كان صلى الله عليه وسلم كما في حديث نعيم بن عمار كان إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة.

أعمي البصيرة:

( فمن أبصر ) يعني: ببصيرة قلبه, لأن الأبصار النافع هو الإبصار ببصيرة القلب كما يأتي في قوله: ( {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} ) [الحج:46]ومن أراد أن يقرب عنده معنى هذه الآية الكريمة ( {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} ) [الحج:46] فلينظر إلى رجلين في وسط الشارع, أحدهما صحيح العينين, تام البصر جداً, إلا أنه مفقود العقل بتاتاً, والثاني أعمى, مكفوف لا يبصر شيئاً, إلا أنه كامل العقل تامه. فتجد صحيح العينين قوي النظر حديده, الذي يفقد العقل يضرب رأسه في الجدار, ويسقط في البئر, ويسقط في النار, ويسقط على الحية, فهو لا يرى شيئاً, وبصره الحديد لا ينتفع به, وتجد ذلك الأعمى وعصاه أمامه, يروغ من هنا ومن هنا, كأنه يرى كل ما يضره وما ينفعه, وبهذا تعلموا مدى قوله: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)

العقل الصحيح, وبحوث العقل:

العقل نور روحاني تدرك به النفس العلوم الضرورية والنظرية, ومحله القلب, كما نص عليه الكتاب والسنة, لا الدماغ كما يزعمه الفلاسفة.

وبحوث العقل بحوث فلسفية لا طائل تحتها.

والعقل الصحيح هو الذي يعقِل صاحبه عن الوقوع فيما لا ينبغي, كما قال جل وعلا عن الكفار: (  {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} ) [الملك:10] أما العقل الذي لا يزجر عما لا ينبغي فهو عقل دنيوي يعيش به صاحبه, وليس هو العقل بمعنى الكلمة.

علم الله الإيمان والإخلاص في قلب الإنسان تكون له فوائد عظيمة:

قوله: {إن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا } [الأنفال:70] يدل ُّ على أن محل نظر الله من عبده إنما هو القلوب, كما جاء بذلك الحديث, لأن القلب هو الذي ينظر الله إليه فيعلم فيه الخير والشر, ولذا قال: {إن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا } والله جل وعلا عالم بما في الضمائر وما يخطر في القلوب {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] وقد بين القرآن العظيم في مواضع منه أن علم الله الإيمان والإخلاص في قلب الإنسان تكون له فوائد عظيمة, من تلك الفوائد: ما ذكرناه هنا في أُخريات الأنفال في قوله: {إن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} ومنها قوله في سورة الفتح{لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:18]

....وهذه الآيات ينبغي لنا أن نعتبر بها فنطهر قلوبنا, ويكون ربنا يعلم منها الخير, ولا يعلم منها الشر, لأن ذلك يسبب لنا نتائج عظيمة, كصلاح الدنيا والآخرة.

ركني علم الاقتصاد:

قال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ[الأنفال:36]

هذه الآية الكريمة أشارت إلى ركن من ركني ما يسمى ( الاقتصاد ), لأن القرآن العظيم تنزيل رب العالمين, يوضح الله به أصول جميع الأشياء التي يحتاج إليها البشر, والنبي صلى الله عليه وسلم يبسط ذلك ويبينه, وهذا الذي يعبر الناس عنه اليوم في عرفهم بــ ( الاقتصاد ) أشارت هذه الآية الكريمة إلى أحد ركنيه, وإيضاح ذلك أن ما يسمى بـــ ( الاقتصاد ) أن جميع مسائله المتشبعة راجعة في الحقيقية إلى أصلين لا ثالث لهما:

أحد هذين الأصلين: هو حسن النظر في اكتساب المال, ومعرفة الوجوه التي يحصل بها ذلك.

والثاني منهما: حسن النظر في صرف المال في مصارفه.

ولا بد لأحدهما من الآخر, فالاقتصاد إذن عمل مزدوج لا يصح أحد ركنيه دون الآخر, لأن الذي لا يقدر على اكتساب المال, ولا يعرف طرقه التي يكتسبه بها لا يكون صاحب اقتصاد, وكذلك الذي يعرف طرقه وهو ماهر في تحصيله, إذا كان لا يعرف صرفه بالحكمة فإنه لا يجديه شيئاً, لأن الإناء المخروق لو جعلت فيه البحر لما ملأه, فلا بد من حسن النظر في الاكتساب أولاً, ثم حسن النظر في الصرف ثانياً. وهذه الآية الكريمة من سورة الأنفال أشارت إلى أحد الركنين, وهو حسن النظر في الصرف في المصرف

                             كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ