مفهوم العرض والشرف

ومما يدل دلالة عظيمة على تفخيم الشريعة لأمر الأعراض أنها جعلت الموت فى سبيل الدفاع عن الأعراض شهادة يلقى بها المسلم ربه ملحقا بالشهداء محفوفا بكرامة الله .

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
 
الحمد لله ربِّ العالمين ، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً ، وأشهد أن لا إلٰه إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً .
أمَّا بعد
فالعرض والشرف كلمتان متلازمتان ، ومعنيان ساميان مترابطان ، يكمِّل أحدهما الآخر ، ويعتبر الأوَّل سُلَّماً للآخر .
فإذا حُفظ العرض تمَّ الشرف ، وإذا ثُلِم العرض ضاع الشرف ، فلايُتصوَّر وجود الشرف مع فقدان العرض .
والعرض هو: موضع المدح والذمِّ من الإنسان سواء فى نفسه أوسلفه.(النهاية لابن الأثير )
فما يُمدح به المرؤ من صفات الجمال ، ومن شمائل الخير فهو داخل فى العرض ، ومايُذمُّ به أويعاب داخل فى العرض ، سواء كان المدح قاصرا على ذاته أومتعديا إلى آبائه الأقدمين ، فكل ماينسب إلى المرء من خير أوشرفى نفسه أو فى آبائه فهو مدح أوقدح فى العرض .
وأما الشَّرف فهو الحسب بالآباء , ويقال رجل شريف أى له آباء متقدمون فى الشرف (لسان العرب )
فالتقت الكلمتان فى أن موضع الذم والمدح فى الآباء من العرض ، وأنَّ الحسب بالآباء من الشرف , ولا يكون المرؤ حسيبا وفى عرضه مايُطعن به أويُعاب عليه .
ولقد جاءت شريعة الإسلام الغرَّاء بحفظ الأعراض وصيانتها من كل يُدنِّسها ، فجعلت حفظ الأعراض أحد مقاصد الشريعة بل أدخلها بعضهم مكان حفظ النسل فى الضروريات الخمس التى ينبغى أن تُحفظ .
ولقد وضعت الشريعة سياجات مانعة لحفظ الأعراض ،ولحمايتها من أن يعرض لها أحد بما يُشينها .
فمن هذه السياجات
1-تحريمها للزنا والتَّشديد فى عقوبة مرتكبيه .
فقد شدَّدت الشريعة فى شأن الزنا ، وأمرت بالعقوبة الشديدة لمن يقعون فيه ، قال تعالى
{ الزَّانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } [ النور (2)] .
2-وضعت الشريعة سياجات مانعة من الوقوع فى الزنا مثل :
أ-الأمر بالإستئذان (
{يٰأيها الذين ءامنوا لاتدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتُسلِّموا على أهلها} ) النور27
وأمرت الصغار الذين لم يبلغوا الحلم أن يستأذنوا فى ثلاثة أوقات ، قال الله تعالى (
{يٰأيها الذين ءامنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم} ) [النور58]
ب-عدم النظر داخل البيوت حتى لاتقع الأبصار على العورات (إنما جعل الإستئذان من أجل النظر)أخرجه البخارى من حديث سهل بن سعدالساعدى .
ج-أباحت الشريعة لصاحب البيت إذا رأى رجلا ينظر داخل بيته دون استئذان أن يفقأ عينه ، قال رسول الله ﷺ(
«من اطَّلع فى بيت قوم بغير إذنهم فقد حلَّ لهم أن يفقأوا عينه» ) [رواه مسلم]
د-نهى النبىﷺالمُستأذِن أن يقف قُبالة الباب وإنما عن يمين أو شمال ، قال ﷺلمن وقف قبالة الباب ( هكذا عنك أو هكذا) رواه أبوداود فى سننه .
ه-حذَّر النبى ﷺمن الحمو وهو قريب الزوج الذى لاينتبه إليه الجيران أو ينظرون إليه نظرة ارتياب فقال لما سئل : أفرأيت الحمو؟ قال :(
«الحمو الموت» ) [رواه البخارى] .
و-حذر النبى ﷺمن الدخول على النساء عموما وعلى المغيَّبة خصوصا فقال : (
«إيَّاكم والدخول على النساء» ) وقال ( «لا يدخلن رجل على مغيَّبة إلا ومعه غيره)» [أخرجه مسلم] .
و-أمر الله عزوجل بغض البصر فقال تعالى (
{قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } ) وقال ( {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} ) [النور30-31] .
3-حرَّمت الشريعة فعل قوم لوط ووضعت لذلك عقوبة رادعة لمن تسوِّل له نفسه الوقوع فى هذه الجريمة النَّكراء ، قال ﷺ(
«من عمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» ) [ أخرجه أبوداود والترمذى] .
4-حرَّمت القذف وجعلته من أكبر الكبائر ومن الموبقات ، ورتَّبت على فعله عقوبات شديدة ، قال تعالى (
{والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولٰئك هم الفاسقون} ) [النور4]
ولم يكن موقف الشريعة قاصراً فى حفظ العرض على منع الزنا وسد الطرق الموصلة إليه ، بل ترقَّت الشريعة إلى أمور أخرى يحفظ المرؤ بها عرضه من أن يعرض له متهوِّك لايعرف قيمة الكلمة التى يتلفظ بها لسانه ، فجعلت الشريعة مايدفعه الإنسان من مال أوعَرَض فى مقابل حماية عرضه داخلا فى باب الصدقات ، ويُثاب المرؤ عليه مثل ثواب المتصدِّق الذى يُنفق ماله ابتغاء وجه الله ، قال ﷺ«ما وقى به المرؤ عرضه كتب له به صدقة» [رواه الدارقطنى] .
ولعل هذا هو الملمح الذى نظر إليه عمر رضى الله عنه حين اشترى أعراض المسلمين من الحطيئة ، فقد كان الحطيئة ( جرْول بن أوس) رجلا هجَّاءً ،وكان يُطلق لسانه فى أعراض الناس ، فطلبه عمر فأُتى به فألقاه فى بئر ، وهم بأن يقطع لسانه فقال الحطيئة :
ماذا تَقولُ لِأَفراخٍ بِذي مَرَخٍ
حُمرِ الحَواصِلِ لا ماءٌ وَلا شَجَرُ
أَلقَيتَ كاسِبَهُم في قَعرِ مُظلِمَةٍ
فَاِغفِر عَلَيكَ سَلامُ اللَهِ يا عُمَرُ
أَنتَ الأَمينُ الَّذي مِن بَعدِ صاحِبِهِ
أَلقَت إِلَيكَ مَقاليدَ النُهى البَشَرُ
لَم يوثِروكَ بِها إِذ قَدَّموكَ لَها
لَكِن لِأَنفُسِهِم كانَت بِكَ الخِيَرُ
فبكى عمر رضى الله عنه ، وعفا عنه ، وقيل إنه أعطاه مبلغا من المال لئلا يقع فى أعراض المسلمين ،فقالوا اشترى عمر من الحطيئة أعراض المسلمين .
ومما يدل دلالة عظيمة على تفخيم الشريعة لأمر الأعراض أنها جعلت الموت فى سبيل الدفاع عن الأعراض شهادة يلقى بها المسلم ربه ملحقا بالشهداء محفوفا بكرامة الله .
ألا فليعلم الناس أن الشريعة الإسلامية هى أعظم شريعة حافظت على الأعراض ، ووضعت التدابير العظمى لحمايتها ، ألا فليعلم الذين يتخوضون فى أعراض الناس أن الشريعة لهم بالمرصاد ، وأن عين الله تراقبهم ، وأنهم لايخفون عمن لايخفى عليه شئ فى الأرض ولافى السماء ، فليتقوا الله فى أعراض المسلمين ، وليعلموا أن من تخوَّض فى أعراض المسلمين سلَّط الله عليه من يتخوَّض فى عرضه،هذه بتلك ، وما ربك بظلاَّم للعبيد .
كتبه
المعتز بالله الكامل