بين الدين والإلحاد (2)

نسترجع ما كنا قد أسسناه في المقال السابق من أن الدين يوسع نطاق الوجود الإنساني، فلا يختزله بمادية لا تاريخ لها، ولا يسجنه في المعمل كما يسجن الحجر والبكتيريا تحت مقصلة العلم التجريبي

  • التصنيفات: الإلحاد -

نسترجع ما كنا قد أسسناه في المقال السابق من أن الدين يوسع نطاق الوجود الإنساني، فلا يختزله بمادية لا تاريخ لها، ولا يسجنه في المعمل كما يسجن الحجر والبكتيريا تحت مقصلة العلم التجريبي، وقلنا أن أول المصادر التي يستند إليها الدين هي مصدر الفطرة ؛ الفطرة في إمكانية المعرفة، الفطرة في معرفة الأخلاق "فلقد دخل الإنسان التاريخ برأس مالٍ أخلاقي مبدئي هائل، لم يرثه من آبائه المزعومين من الحيوانات"(1).
ثم بعد الفطرة يقرر الإسلام أهمية العقل للإنسان وأنه مناط التكليف مع إمكانية تحسسه للحقيقة واستيعاب وجودها وإن كان لا يستطيع تعيينها في كل حالة؛ لأن هذا خارج قدرته.
ثم ننتهي لجبر هذا النقص في العقل الإنساني بتسليمه للوحي لوعيه بقصور نفسه= فتكتمل الصورة على أنسق ما يكون.

ونأتي هنا لنفحص وجهة النظر الدينية من خلال السؤال المنهجي الأول (أيهما أقدر على إعطاء معنى للوجود الإنساني وتوجيه سلوكه، النظرة الدينية أم النظرة الإلحادية؟) ، فهل يلزم الدين ما يلزم النظرة الإلحادية من حيث القدرة على إعطاء المعنى للوجود وتشكيل رؤية للعالم يستظل بها الإنسان محتمياً أمام قوة أسئلته الوجودية؟

من خلال التحليل السابق يتضح بشكل جلي أن من أهم محاسن الدين هو قدرته على تأسيس رؤية متناسقة مع الطبيعة الإنسانية دون أن يواجه تلك المعضلة التي يوجهها الإلحاد؛ فالدين لا يحطّ من قدر الإنسان وعقله ويجعل طلبه للحقيقة هامشيا ً كما يقضي به التطور، بل الدين مبناه الأساسي على رقي الإنسان وعلو مكانة عقله وأهمية طلبه للحقيقة، والدين لا يحبس الإنسان في كوة ضيّقة داخل المعمل، بل ينظر له ككيان قادر على استشعار الحقيقة والبحث عنها، و ككيان واعٍ بقصور نفسه فيتجه تسليما للوحي لتكتمل تلك الصورة من الجمال والإبداع الإلهي. وليكون القصور دافعاً لاستكمال طبيعته الكامنة واستثارة تقديره لأهمية الحقيقة، فإنه لولا القصور المذكور لكان الإنسان شيئاً آخر لا ندري ما هو أو لكان إلهاً.

الدين وأهميته في تأسيس المعنى للوجود على المستوى التاريخي.
ويضاف إلى هذه المحاججة في إنتاج المعنى بين الدين والإلحاد أنه على مر التاريخ" لم يسبق أن انتظم الوجود البشري دون بلورة رؤية دينية أو ميتافيزيقية ينهض عليها ذلك الوجود؛ الأمر الذي يبين أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش في الوجود دون أن يستفهم عن معناه و يفكر في مدلوله".(2)

وكمثال على هذا الانتظام يطرح عالم الأنثروبولوجي لويس مورجان وصف عجيب للعشائر القديمة فقد كانوا:

- يحرمون العلاقات الجنسية خارج نطاق الزواج.
- العضو الجديد كان يُقبل عن طريق احتفال ديني.
- حسن معاملة أسرى الحرب واحترام إنسانيتهم.(3)

وفي هذا المثال وفي غيره الكثير تتضح الجناية الأنثروبولوجية التي تنعت الإنسان الأول بأنه إنسان بدائي قريب للحيوانات من الناحية السلوكية، لا يعي وجوده ولا ينظم مملكته وفق معايير دينية وأخلاقية كبيرة، وطبعاً هذه العلاقات التي تبين الحق من الباطل في الزواج ومعاملة الأسرى تستند إلى أصل ديني ناظم لهذا الوجود.

مثال تطبيقي على عدم إمكانية تأسيس المعنى للوجود بمعزل عن الدين (الفلاسفة الطبيعيون).

الكثير من الدراسات بل وكتب التأريخ لحقبة فلاسفة الطبيعة يجزمون بأن طاليس وإنكسيمندريس وإنكسيمانس أسسوا فلسفتهم بناءً على نظرة طبيعية مادية ليس لها علاقة بالدين ومن ضمن قال ذلك المؤرخ يوسف كرم في كتابه (تاريخ الفلسفة اليونانية) وكذا زكي نجيب محمود وأحمد أمين في كتابهما (قصة الفلسفة اليونانية) ومن الغربيين: هيجل وراسل وهايدغر وغيرهم ممن اعتقدوا أن العقل اليوناني أسس تفكيره دون سند مسبق من دين أو اتصال بحضارة أخرى.!

ولتفنيد هذه النظرة التي تدعي إمكانية تأسيس رؤية للعالم دون سند ديني يطرح الدكتور الطيب بوعزة قراءة نقدية في غاية الأهمية فيها تأويل جديد بوصل هذه الفلسفة مع ما قبلها بحيث تنطلق فلسفته من المثيولوجيا الدينية، حيث قد لاحظ كثير من الباحثين القرابة بين المبدأ الطاليسي والفكر الديني اليوناني، فعند أيتيوس نجد توكيداً على القرابة بين التصور الطاليسي للماء و التصور الميثولوجي الأوقيانوس_والأقيانوس هو إشارة للمحيط وإشارة إلى إله يوناني وطبعا _.(4)

وأما مفهوم الأبيرون عند إنكسمندريس حيث يقول عن هذا المبدأ:

"إلى الأصل الذي ولدت منه تعود الأشياء, حسب الضرورة؛ لأنه يجب أن يعوض بعضها بعضاً عن ظلمه تبعاً لتعاقب الزمن.

هذه المقولة تحمل مفاهيماً أخلاقية ودينية من أمثال (ظلم وتعويض) ومفهوم العودة كل هذه المفاهيم تؤكد الطبيعة الإلهية للأبيرون لأن الإله هو الذي يعوض ويُعيد."(5)

أكتفي بهذا القدر، ومن خلال هذه الأطروحة التي قدمها الدكتور الطيب بوعزة يتضح لنا أن فلاسفة ما يسمى بالطبيعيين لم يستطيعوا التخلي عن الأصل الديني_ بغض النظر عن صحة هذا الدين من عدمه_ لتكوين نظرتهم للحياة والوجود؛ مما يعزز وجهة نظرنا في هذا المقام: أنه لا يمكن أن ينفك الإنسان عن البحث الديني مادام يبحث عن أصل وجوده ومعناه، وما دام يبحث عن سبب تميزه بين هذه الكائنات وعن غايته في هذا الكون الشاسع البديع.

وأخيراً
نستطيع القول أن الدين أقدر على تأسيس الرؤية وإنتاج المعنى من حيث:
1. نظرته المتسقة مع طبيعة الإنسان روحاً وجسداً ونفساً، ومن خلالها وسع نطاق مصادر المعرفة له لتتسق مع الفطرة والعقل والوحي.
2. من خلال التأكيد التاريخي على أن الإنسانية الأولى لم تكن بربرية بل كانت تحمل أنظمة دينية واجتماعية في غاية الجمال، وممكن أن نختصرها بالمقولة الشهيرة المنسوبة بلوتارك: لقد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور.. ومدن بلا مدارس.. ولكن لم توجد أبدا مدن بلا معابد.
3. تبيان عدم قدرة ما يسمى بالفلاسفة الطبيعيين من إنتاج رؤية للوجود دون النهل من المنبع الديني الموجود في ثقافتهم وثقافات الحضارات الأخرى.

وبهذا يتجاوز الدين _والدين الإسلامي خصوصاً_ العقم الإلحادي الذي يحاول في البداية البحث عن المعنى ثم ينتهي بقتل مفهوم المعنى نفسه، ويكون أقدر على تأسيس رؤية متسقة بين الكون والوجود تنتظم فيها العلاقة بين كتاب الله الكوني وكتابه الشرعي.

وفي المقال القادم سنتجه لفحص السؤال المنهجي الثاني الذي طرحته في المقال الأول:
أهمية الغاية للإنسان وأي النظرتين أقدر على إنتاجها بما يكفل ديمومة مغزى السعي البشري؟


________________________________
هوامش المقال
1- علي عزت بيجوفتشن الإسلام بين الشرق والغرب، ص 219.
2- الدين من المنظور الفلسفي الغربي – الفلسفة الوضعية أنموذجا , مجلة التسامح، العدد 26 ربيع 1430 هـ .
3- علي عزت بيجوفتشن الإسلام بين الشرق والغرب، ص 219-220
4- أنظر:الفلسفة اليونانية ما قبل سقراطية،، الفلسفة الملطية ولحظة التأسيس، للدكتور الطيب بوعزة، نماء ص390.
5-المصدر السابق، ص479.