الجود والإيثار عند حاتم الطائي
حاتم كان ينفق كل ما تصل إليه يده، ولا يبالى بلوم اللائمين، ولا بعذل العاذلين، ذلك أنه قد اتخذ لنفسه طريقًا رضيه، وسلكه برغبة صادقة، وبقلب مطمئن لا يلتفت إلى الوراء، ولا يرجع القهقرى.
- التصنيفات: التاريخ والقصص - قصص الأمم السابقة -
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعد:
فهذه هي المقالة الأولى بعد المقدِّمة من سلسلة أخلاق العرب، وقد أردت أن تكون هذه المقالة عن الجود والإيثار عند العرب قبل الإسلام، لكنني عدت إلى نفسي فقلت لها أيصلح لمن يريد أن يتكلَّم عن الجود والكرم عند العرب ألاَّ يذكر حاتمًا الطائي، ذلكم الرجل الذى غدى مضرب المثل في الجود والكرم.
لقد ضرب العرب المثل بأربعة فاقوا غيرهم في أخلاق وصلوا فيها إلى الذروة، وأصبحوا كأنهم المثل الكامل الذي ينبغي أن يحتذى بهم غيرهم، وهؤلاء الأربعة هم الذين ذكرهم أبو تمَّام حينما مدح المعتصم، أو ولده أحمد فقال:
إقدامُ عمرٍو في سماحة حاتم *** في حلم أحنف في ذكاء إياس
فهؤلاء أربعة قد ضرب بهم العرب المثل في هذه الأخلاق الأربعة، فضربوا المثل بعمرو بن معد يكرب في الشجاعة، وضربوا المثل بحاتم طيء في الكرم، وبالأحنف بن قيس في الحلم، وبإياس بن معاوية القاضي في الذكاء.
ولهذا البيت قصة فقد ذكر الأدباء أن أبا تمَّام لمَّا أنشد هذا البيت، قام الكندىُّ الفيلسوف المعروف فقال: ما زدت على أن شبهت أمير المؤمنين بصعاليك العرب، فسكت أبو تمَّام هنيهة، ثم قال على البديهة:
لا تُنكروا ضربي له من دونه *** مثلًا شرودًا في النَّدى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره *** مثلًا من المشكاة والنِّبراس
ولم يكن قد أعدَّهما قبل ذلك، فقالوا إنَّ الخليفة قال لأبى تمَّام: سلني ما شئت، فقال أبو تمَّام: أسألك إمرة كذا، فقال له الكندي: أعطه ما سأل فإنَّ مِثله لا يعيش، فقيل له: وكيف عرفت ذلك؟ قال: إنَّ عقله ينحت من جسمه، أي إنَّ عقله يتغذَّى على جسمه، فسيضوي جسده سريعًا ثمَّ يموت، فقالوا: إنَّ أبا تمَّام لم يُعمِّر طويلًا.
نعود إلى حاتم الطَّائي فنقول:
إنَّ حاتمًا هو حاتم بن عبدالله بن سعد بن الحشرج، كان سيدًا من سادات طيِّءٍ، وكان من أجودهم وأكرمهم إن لم يكن أكرمهم وأجودهم.
يذكر أدباؤنا عن حاتم الطائي أمورًا قد يراها البعض مغالاة في الحبِّ لهذه الشخصية العظيمة، وقد يقبلها آخرون، لكنها في النّهاية قد ذُكرت في ترجمته، وما نحن إلا ناقلون لما قرأناه.
فمن هذا الباب ما ذكروه في مولده أن أمه لما حملت به، أتاها آتٍ في المنام فقال لها: تحملين بولد كريم يقال له حاتم، أم تحملين بعشرة أغلمة كالناس، أسود في الباس، ليسوا بأوغال ولا أنكاس؟ قالت بل بولدٍ كريم يقال له حاتم، فحملت بحاتم الطائي.
ويذكرون عن أمه أنه كان اسمها عنبة وكانت كريمة، حتى أنها كانت تنفق كل شيءٍ يصل إلى يديها حتى لامها أهلها، وعتبوا عليها، وحبسوها في بيتها سنة، وقتَّروا عليها في النَّفقة، فلما مضى حول كامل أخرجوها، وهم يظنُّون أنَّها قد ذاقت الجوع وأنَّ ذلك سيدفعها إلى أن تغُلَّ يدها إلى عنقها، وستمتنع عن الكرم، فدفعوا إليها بصِرمة من الإبل، فمرَّت بها امرأةُ من هوازن فسألتها، فقالت لها أم حاتم: خذي هذه النُّوق فإنِّي قد جرَّبت الجوع.
فهؤلاء قد ظنوا أنَّها حينما يعضها الجوع بنابه ستنسى الفقراء، لكنها تذكرت أيام الجوع فحنَّت للجوعى الذين ذكروها بحالها في أيام الجوع.
فهذه المرأة هي أم حاتم، وهي التي ربَّت حاتم، وعنها أخذ الكرم، فهو خرِّيج مدرستها.
يذكرون في طفولة حاتم أنهم كانوا يدفعون له طعامه فيخرج به، فإذا وجد أحدًا أكله معه، وإذا لم يجد أكيلا يأكله معه ألقاه وعاد دون أن يأكل.
وهذا لم يكن عادة لحاتم في طفولته فقط وإنما ظل على هذه العادة طيلة عمره، فقد قال مخاطبًا زوجته:
إذَا ما صنعتِ الزَّادَ فالتمسي له *** أكيلا فإني لستُ آكلُه وحدِي
فلما رأى جده صنيعه في الطعام أمره أن يلحق بالإبل ووهب له جارية وفرسًا وفلوَّها، فلما أتى الإبل طفق يبغى الناس فلا يجدهم، ويأتي الطريق فلا يجد عليه أحدًا، فبينا هو كذلك، إذ بصر بركبٍ على الطريق فأتاهم، فقالوا يا فتى: هل من قرى؟ فقال: تسألوني عن القرى وقد ترون الإبل، وكان الذين بصر بهم، عبيد بن الأبرص، وبشر بن أبى خازم، والنابغة الذبياني، وكانوا يريدون النعمان، فنحر لهم ثلاثة من الإبل، فقال عبيد: إنما أردنا بالقرى اللبن، وكانت تكفينا بكرة إذا كنت لا بد متكلفًا لنا شيئًا، فقال حاتم: قد عرفت ولكنى رأيت وجوها مختلفة وألوانًا متفرقة فظننت أن البلدان غير واحدة، فأردت أن يذكر كل واحد منكم ما رأى إذا أتى قومه، فقالوا فيه أشعارًا امتدحوه بها، وذكروا فضله، فقال حاتم: أردت أن أحسن إليكم فكان لكم الفضل علىَّ، وأنا أعاهد الله أن أضرب عراقيب إبلي عن آخرها أو تقدموا إليها فتقتسموها، ففعلوا، فأصاب الرجل منهم تسعة وتسعين بعيرًا، ومضوا على سفرهم إلى النعمان.
وسمع جده بما فعل فأتاه يسأل عن الإبل، فقال له: لقد طوَّقتك بها طوق الحمامة مجد الدهر وكرمًا، لا يزال الرجل يحمل بيت شعر أثنى به علينا عوضًا من إبلك، فلما سمع أبوه ذلك قال: والله لا أساكنك أبدًا، فخرج أبوه بأهله وترك حاتمًا ومعه جاريته وفرسه وفلوَّها.
فحاتم كان ينفق كل ما تصل إليه يده، ولا يبالى بلوم اللائمين، ولا بعذل العاذلين، ذلك أنه قد اتخذ لنفسه طريقًا رضيه، وسلكه برغبة صادقة، وبقلب مطمئن لا يلتفت إلى الوراء، ولا يرجع القهقرى.
يذكرون أنه أصبح ذات يوم بعد أن تركه جده، فوجد هجمة من الإبل عند بابه، فساقها إلى قومه، فلما رأوه قالوا: يا حاتم قد وسع الله عليك فاحفظ عليك إبلك ولا تفسدها بالتبذير، فقال: ما لي علىَّ حرام إن لم تنتهبوها بينكم، فاقتسموها جميعًا.
وحاتم كان له طريقة في الكرم يتخذ لها خطوات يؤدى بعضها إلى بعض حتى تصل في النهاية إلى ما يبتغيه من إيصال عطائه إلى الآخرين.
فأول هذه الخطوات:
أنه يغرى غلامه بجر الضيوف إليه، ويمنيه بالجوائز الكبيرة إن أفلح في سحب الضيوف إلى خيمته، فيقول لغلامه:
أوَقد فإنَّ الليلَ ليلَ قر *** والريح يا غلام ريحُ صرٍّ
علَّ يرى نارك من يمرُّ *** إن جلبت ضيفًا فأنت حُرٌّ
فهنا نرى حاتمًا يصل في إغراء الغلام إلى أعلى ما تسموا إليه نفس الغلام، فأي شيءٍ أحب إلى الغلام من الحرية، هذه الجائزة العظيمة يجعلها حاتم ثمنًا لجلب ضيف إلى خيمته، فهذا يدلك على مدى الفرحة التي كانت تنزل على قلبٍ حاتم حينما يرى ضيفًا متوجِّهًا نحوه.
وإذا كان حاتم يغرى غلامه بالجوائز العظيمة ليجلب الضيوف، فهو لا يقف عند هذا الحد بل إنّه ليحفظ جميل من يحسن إليه بجلب الضيوف، أنظر إليه حينما رأى ولده يضرب كلبة، فقال حاتم: لا تفعل فإن لها يدًا عليَّ، قال ولده: وما ذاك؟ قال: إنها تدل الضيفان علىَّ.
أرأيتم إنه يرى للكلبة فضلا عليه ويدا ينبغي أن تُكافأ من أجلها بحسن الصَّنيع، لا أن تُضرب وتهان، (إنها تدل الضيفان علىَّ) إذن هو يرى أن كل من دل الضيفان عليه قد طوَّقه بجميل، وأسدى إليه معروفًا فينبغي أن يُعظم ويصان من أجل إحسانه ومعروفه. وللحديث صلة.
أسأل الله أن ينفعنا جميعًا بما علَّمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا.
__________________________________
الكاتب: المعتز بالله الكامل