من حكم الفرس (1)

خالد سعد النجار

ما الذي جعل رجلاً -كالإمام الشوكاني- ينتصر للحق ويناضل في سبيله, ويلقى ما يلقى فيموت هو, ويبقى ذكره في الآخرين!

  • التصنيفات: الشعر والأدب -

{بسم الله الرحمن الرحيم }
 

روى الدينوري في المجالسة وجواهر العلم، عن ابْنُ قُتَيْبَةَ؛ قَالَ:

قَالَ بَعْضُ حُكَمَاءِ الْفُرْسِ:

(لِلْعَادَةِ سُلْطَانٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ)، (وَمَا اسْتُنْبِطَ الصَّوَابُ بِمِثْلِ الْمُشَاوَرَةِ)، (وَلا حُصِّنَتِ النِّعَمُ بِمِثْلِ الْمُوَاسَاةِ)، (وَلا اكْتُسِبَتِ الْبَغْضَاءُ بِمِثْلِ الْكِبْرِ(

 

(لِلْعَادَةِ سُلْطَانٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ)

** على العموم لا يستطيع التفلت من سلطان العادة إلا من أخذ الله بيده. ألا ترى إلى موسى عليه السلام كيف خاف من عصاه لما رآها في صورة الحية، لولا تثبيت الله تعالى له. وهل كان خوفه ذاك إلا من نتائج حكم العادة؟

** وبقدر ما تقوى الإرادة، يضعف سلطان العادة، حيث يتم هجر كثير من العادات السيئة.

** قال تعالى: { {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} ) [آل عمران:139]، قال أهل العلم: ليس ذلك من خلال الأمنيات، والرغبات، وإنما من خلال السنن التغيرية، التي شرعها الله وأرادها، وفطر الناس عليها، وزودهم بآلياتها، بكل ما تقتضيه من الإعداد الروحي والمادي، ليكون الإنسان هو وسيلة التغيير وهدفه، في آنٍ واحد.

** تأمل نجاح تجربة تحريم الخمر عهد الصحابة مع تدرجها لوأد سلطان العادة مع ما امتزج بها من رسوخ الإيمان وفقه الانقياد، وبالمقارنة فشل نفس التجربة وأمثالها من تعاطي التدخين في أزمنتنا المعاصرة مع تعدد فتاوى التحريم وإجماع أهل الطب وإلزام الشركات بتصوير كوارثه الصحية على كل علبه سجائر ولا يفوتنا العبارة الشهيرة «التدخين ضار جدا بالصحة».

** يقول الشيخ سلمان العودة:

إن الشجاعة معنى كبير, وسر خطير, وقد أصبحنا نعشقها ونفرح بمن يتحلى بها, إنها هي من أسباب كون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يستطيعون تحطيم سلطان العادة, وطاغوت العرف, ويَتَحَدَون أقوامهم وأممهم، ويصبرون ويصابرون على رغم من قلة الناصر والمعين, وكثرة المعاند والمخالف, وعلى رغم التلبيس والتدليس.

فما الذي جعل رجلاً نبيا كموسى عليه السلام يقف أمام طاغية متألهٍ متجبر كفرعون! ويقول له: { {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} } [الإسراء:102].

ما هو الذي جعل رجلاً نبياً مختاراً -كإبراهيم عليه الصلاة والسلام- يحطم الأصنام وهو يعد فتىً في مقتبل العمر! ثم يقول لقومه وعلى رأسهم النمرود الطاغية الأكبر: { {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} } [الأنبياء:67].

ما الذي جعل رجلاً -كمحمد صلى الله عليه وسلم- يجمع قومه، وفيهم أبو لهب وأبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف والملأ من المستكبرين، ثم يقف بين أيديهم منذراً محذراً (إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا).

ثم ما الذي جعل المجددين يستطيعون أن يصبروا على عملهم، ويجاهدوا ويعلنوها صريحة قوية مدوية؟! لماذا وقف عمر بن عبد العزيز وتحدى كل الأمور المعتادة في بني أمية، الذين كان واحداً منهم وينتسب إليهم, وكانوا يخشون أن يغير ملكهم, أو عادتهم وميراثهم, فيقف عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- نصيراً للحق مدافعاً عنه, قائماً على الظلم, محارباً له, راداً للحقوق إلى أهلها, لا يأمر بخير إلا فعله, وكاد الأمر أن يتم؛ لولا السم.

ما الذي جعل رجلاً -كالإمام أحمد بن حنبل- يقف فيقارع الظالمين في مسألة خلق القرآن! ويصبر على عقيدته التي ورثها عن الأنبياء والمرسلين, ويصابر عليها, ويرضى بالسجن والجلد، والتعذيب والمطاردة والتضييق والحرمان من التدريس، من التعليم، من المحاضرات، من الإفتاء ومن غير ذلك, حتى أذن الله تعالى له بالفرج وكتب له الذكر الحسن، حتى أنه -رحمه الله- كان يستاء من ذلك ويكره الشهرة أشد الكراهية.

ما الذي جعل رجلا -كالإمام ابن حزم- يقف ويتحدى من حوله, ويصبر ويصابر! فإذا قيل له: يا رجل تَحَفَّظ ولا تتعجل! أنشأ يقول:

قالوا: تحفظ فإن الناس قد كثرت أقوالهم وأقاويل الورى محن

فقلت: هل عيبهم لي غير أني لا أدين بالدجل

إذ في دجلهم فتنوا وإنني مولع بالحق لست إلى سواه أنحو ولا في نصره أهن

دعهم يعضوا على صم الحصى كمداً من مات من غيظه منهم له كفن

ما الذي جعل رجلاً -كالإمام ابن تيمية رحمه الله- يصبر ويجهر بكلمة الحق، ويتحمل الأذى في سبيلها! فيسجن لمرات ويؤذى بل ويضرب أحياناً في الشارع، وهو إلى ذلك كله مجاهر معلن لا ينثني للرياح أبداً.

ما الذي جعل رجلاً -كالإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب- يقوم في بيئة قد انتشر فيها الشرك بألوانه, والبدع والخرافات, والكهنة, والسحرة وغير ذلك, وألوان المخالفات! فيقوم جاهراً بكلمة الحق، مجاهراً صابراً في ذات الله عز وجل، حتى نصره الله تعالى، وأصبح ما جاء به الإمام محمد بن عبد الوهاب من الحق هو الظاهر، كما قال الله عز وجل: { {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} } [الصف:14].

ما الذي جعل رجلاً -كالإمام الشوكاني- ينتصر للحق ويناضل في سبيله, ويلقى ما يلقى فيموت هو, ويبقى ذكره في الآخرين!

وهكذا .. إن الشجاعة قوة في القلب, تجعل صاحبها لا يستوحش من الطريق, ولا ينفر من الوحدة, ولا يتخلى عن الحق مهما كلفته التضحيات, ولا ينافق ولا يجامل أو يحابي أو يداهن في دين الله عز وجل, إنه لا مكان في التاريخ للجبناء والمرتزقة والمطبلين أبداً, فإن الناس يركلونهم ويركضونهم، ويبقى الحق هو الذي تعشقه النفوس، وتتطلع إليه القلوب, وقد قال الله عز وجل { {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} } [الصافات:171-173].

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]