صرح ممرد

تتلاطم أمواجُ الحياة ولا تهدَأ، تضرِب بلا رحمة ولا شفقة، تتلاحق أهوالها تباعًا، ويزيد من حِدَّة قساوتها صخبُ العواصف وأهوالُ الريح الشديدة، وتأبى إلا أن تكون في ظلمة ليلٍ حالك بَهيم، تُمسك سماؤه نجومها وكواكبها، فيزداد المنظر رعبًا وتيهًا..

  • التصنيفات: الشعر والأدب -

تتلاطم أمواجُ الحياة ولا تهدَأ، تضرِب بلا رحمة ولا شفقة، تتلاحق أهوالها تباعًا، ويزيد من حِدَّة قساوتها صخبُ العواصف وأهوالُ الريح الشديدة، وتأبى إلا أن تكون في ظلمة ليلٍ حالك بَهيم، تُمسك سماؤه نجومها وكواكبها، فيزداد المنظر رعبًا وتيهًا، حتى إذا استيأس عابرو الحياة النجاة، وظنوا أنهم هالكين لا محالةَ، أرسل الله إليهم بصيص أمل يلوح في الأفق البعيد يظهر من منارة قد شُيدت لأمثال هؤلاء؛ ليكشف عنهم غياهب الظلمات، فيستبشروا خيرًا بقرب الشاطئ المستقر الهادئ، وترسو سفنُهم المتعبة المثقلة بالهموم عليه، فيهتدي بها التائه ويسترشد الضال، ويأوي إليها كلُّ طريد مرهق، ويسلو بها كل غريب مستوحش، فتكون منارة الهدى للضالين والملاذ الآمن للخائفين.

 

ما أحوجنا لصرحٍ كهذا يقصده التائهون المتعبون والمنبوذون المغبونون؛ لتزهر حياتهم ويلتفتوا إلى غاياتهم المنشودة بقلب شجاع وفكر متزن، لدعوة الناس إلى الحق، وإصلاح الأمة إلى ما فيه خيرها ورشادها.

 

ولن تتَّقد في فكره هذه الرؤى إلا كل شخص علَت هِمَّتُه وسمَت، فانطلق ساعيًا لتحقيقها غير آبهٍ للمعوقات ولا للمثبِّطات التي يتعرَّض لها، ويستوي في ذلك العالم والمتعلم، والخامل المغمور والعَلَم المشهور، فكل من يرى أنه يُمكنه أن يقدم شيئًا لأُمته مهما صغر أو قلَّ، أو مهما زاد وارتفع، فهم كالنجوم يَهتدي بها الحيارى ويسترشدون.

 

من هؤلاء المغمورين كان هناك بنَّاء عرَف قيمة حياته ونفسه التي بين جنبيه، فآل إلا أن يسخرها خدمة لهدف سامٍ، عاش حياته كلها بنَّاء يبني البيوت ويُشيِّد القصور والجسور، وقد كان حريصًا في عمله مجدًّا متقنًا حتى بلغت شهرته الآفاق، إلا أن غصة في حلقه ما فتئت تنغص عليه معيشته؛ فلا هو رضي بما يعمل، ولا وجد فيه راحته.

 

فقد استولى عليه الهم والغم خاصةً، وقد رأى أن أيامه تنصرم من بين يديه وهو لم يقدِّم لحياته الأخرى، صار يرفض ما يقدَّم إليه من أعمال حتى وإن أجزلوا له العطايا والْمِنَح، فهذا يترجاه أن يبني له بُرجًا ما بُنِي مثله في العالمين، يُفاخر بها قومه وبني جنسه من البشر، وذاك يطلب منه أن يشيد له قصرًا منيفًا يبقى ما بقي الدهر يُخلِّد اسم صاحبه، ويبقى ما بقيت الدنيا وأهلها، وسيَمنحه من المال ما يريد، لكنه رفض طلباتهم، وضنَّ بسنين عمره أن يُضيعها هباءً، وأبى العمل معهم؛ لأنه ما كان طالبًا لعز دنيوي ولا لخلود وشهرة زائفة، وإن اغتنى من ذلك.

 

طال عليه الأمد بحثًا عن مراده، وخشِي أن يرتحل من هذه الدنيا ولم يقدِّم عملًا يشفع له يوم القيامة.

 

سَأضربُ في طولِ البلادِ وعرْضِها   ***   أنـالُ مـرادي أو أمـــوتُ غريبًا 

فــإن تـلِفـت نفـسِــي فللــه درُّهــا   ***   وإن سلِمت كان الرجوعُ قريبًا 

 

وبينما هو غارق في همه باحثًا عما يُطيِّب نفسه، إذ به يصل إلى ربوة بصحراء لا أثر لحياة فيها؛ يشيد عليها شاب وحيد بِنَاءً، أثار الأمر تساؤله: ما الذي يفعله في أرض خلاة كهذه؟ وما قصده من البناء؟ كان قد اقترب منه لَما ازدادت التساؤلات تَطِنُّ في رأسه، واستحيى أن يخرجها لعدم معرفته بالشاب، ألقى عليه التحية، ثم بقي إلى جانبه.

 

فبادره الشاب: سيدي الفاضل أرى أنك تتساءل عن عملي، ولا ألومك فكل من يمرُّ بي يستغرب وما يفتأ يسخر ويستهزئ مني، فرد عليه البنَّاء: معاذ الله أن أسخر أو أستهزئ، أما وقد ذكرت أنني أتساءل، فإني مستغرب، فإن شئت أفصحت لي، فرك الشاب يديه من الملاط، وقال: إنَّها كما ترى بيداء لا أثر لحياة فيها، وإن مما يؤرِّقني ألا يجد العابرون فيها ما يسترشدون به ويتزوَّدون به في وعثاء سفرهم، والتائهون كُثُر، وأنوي تشييد بناء يكون هاديًا للتائهين في هذه الفلاة التي ضاع فيها خلقٌ كثير، ولم يجدوا من يَدلهم على الطريق، هي كالمنارة التي تستدل بها السفن في الليالي الحالكة، فتستبشر بقرب الشاطئ، وإن لم أكن أعدهم بالشاطئ، فإني أعد التائهين بأن يجدوا ملاذًا آمنًا وصرحًا هانئًا لكل من كوتهم وأحرقتْهم مفازةُ الحياة، وإني ما وجدت إلا الاستهزاء من معارفي والنفرة مني، وقد أحجموا على مساعدتي بعد أن أدركوا أن المشروع ما هو مشروع تجاري، ولا يُدر على أحد مالًا، بل على كل من يعينني أن يبذل الجهد والمهج والمال لنحقِّق ما نصبو إليه، وأنه إذا عظُم المطلوب قلَّ المساعد، وإني يا هذا أرى أن هذه الأيام آخر عهد لي بها، فما عادت لي طاقة تحمُّل، ولا أجد بادرة أمل في الأفق، وأكاد أنهار وتنهار معي كل آمالي، فما أشقى حياة المرء إن اقتصرت على أهدافه الشخصية، وما أتعسه إن امتدت غاياته لإسعاد غيره وهو كَلُّ اليدين وصفر الجيبين.

 

ومَا للمرءِ خيرٌ في حياةٍ إذا *** ما عُدَّ من سَقَطِ المتاعِ

 

قال له البنَّاء: أبشر يا هذا، سيكفيك الله المستهزئين، وسأشد أزرك ما دمتَ مخلصًا في مقصدك، فمنك طموح الشباب وطاقته واتِّقاد فكره، ومني خبرة السنين وجهد الساعد، فأنت ترنو إلى السماء فلك ذلك، وغيرك من المستهزئين رضوا بالدني الزائل.

 

فيَحنُّ ذاك لأرضِه بتسَفُّلٍ *** ويحنُّ ذا لسمائِه بتصَعُّد

 

وإني أرجو من الله أن يرتفع هذا البناء، ويحقِّق ما تصبو إليه، فكم تاه خلق كثير في هذه الفيافي، وكم انزلقت بهم رمالها إلى وهاد سحيقة لا نجاة منها، ولعل الله قد ادخر لي هذا العمل كخاتمة حسنة لأيامي.

 

وماهي إلا أن وضع جرابه من على كتفه، واتجه صوب الأرض يتفقد بداية البناء، ولَما تأكَّد من صلابة الأساس، شمَّر على ساعديه، وشرع في البناء غير منتظر، يحمل بيديه الآجُر ويرصفه، ويتأكد من استقامة البناء ومتانته، وكل همه أن يرى البناء شامخًا عاليًا صُلبًا، مقاومًا لكل الظروف؛ ليبقى دالًّا على وجود الحياة في هذه البقعة، مستبشرًا بأن تكون بداية لدُور أخرى، فتستحيل إلى روضة غنَّاء تَمسح على جبين هذه البشرية شقاء التيه والضلال، ويفيئون تحت ظلالها، ويرتوون بمعينها الفرات.

 

ومرت الأيام وارتفع البناء عاليًا شاهقًا شامخًا، وانجذب الناس نحوه، وانبهروا به وبمتانته وصلابته، والتفُّوا حوله، وعرَض بعضهم على الشاب العمل معه، وأشار البعض الآخر بآراء ورؤى مختلفة، فنسِي الشاب الهدف الذي عمل عليه، وأصبحت وسيلته غايته؛ إذ أصبح مع مرور الأيام يتطلب سلعًا خاصة، ورخامًا فاخرًا وطرقًا مبتكرة، لا علم له بها، كل ذلك ليجذب إليه المزيد من عِلية القوم ووُجهائها؛ ليكونوا هم نُزلاءَه، ليرتاحوا فيه وينعموا بخدماته الراقية، صار الشاب يردد: وددتُ لو جعلته صرحًا ممردًا بالقوارير، يَجذب إليه السادة والكبراء والمترفين، أصبح منتجعًا ترفيهيًّا للوُجهاء، لا ملاذًا آمنًا للتائهين، وناصرًا للمضطهدين.

 

ما أغربك أيها الانسان، وما أعجب تصرُّفك! أتصبح بمبدأ وتمسي بنقيضه!

 

فتخوُّف البنَّاء من هوس الشاب الذي طغى عليه، وأفقده رشده وصوابه، وأدرك أن بقاءه صار مستحيلًا، فحمل أغراضه التي لم تكن سوى مسيعة وشاقول، مسيعة يخلط بها الإسمنت، وشاقول ليتأكد من استقامة بنائه، وضعهما على عجلٍ في جرابه وقفل راحلًا، يَجِدُّ الخطوَ ويتعجَّل، وهو على يقين أن ما من أحد سيلاحظ غيابه، ولن يأتي على أحد منهم أن يَثنيه عن قراره.

 

لما ابتعد قليلًا بدرت منه التفاتة غير مقصودة ولا مسبوقة إلى ذلك الصرح الذي أحس أول مرة بغرابته، نظر إليه وكله أسًى، فما هذا الذي كان يسعى لأجله؟ وما هذا الذي أفنى فيه أيامه وبذل جهده؟

 

فقد غابت تلك الروح التي كانت تُرفرف فيه وتنمو وتكبُر مع كل لَبِنةٍ يضعها، ومع كل قطرة عرقٍ تَنزل من جبينه، انغمس في كآبة لا حدَّ لها، وأدرَك ساعتها أن صديقه الذي اعتبره صِنوَه في الجهاد والرؤى تنكَّر له، الذي كان يحس كلما تحادَثا أن رُوحه قد استوطنت جسدين بتوقُّد فكرها ونضالها، وقد تكون امتدادًا لها إن عاجلته المنية.

 

اختلفت المشارب والرؤى والمفاهيم والتفكير، فصار يشعر بالغربة في مكان اعتقد أنه سيكون ملاذًا آمنًا للناس ومنهم هو، فصار مصدرَ قلقٍ وتوتر موحِش مُظلم، ولو زُيِّنَ سقفُه بمصابيح وبثُريَّات مترفة.

_____________________________

الكاتب: الزهرة هراوة