الجود والإيثار عند حاتم الطائى

لكن ياحاتم ألا تأتيك أيام لا تجد فيها شيئا تقرى به الضيف ؟
يقول حاتم : بلى
فماذا تفعل حينها ؟
وإن لم أجد لنزيلى قرى *** قطعت له بعض أطرافيه

  • التصنيفات: الآداب والأخلاق -
 
 
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه .
أمابعد :
فتعالوا بنا نغذَّ السير إلى مضارب طئ لنرى حاتما ونتعلم من كرمه, فقد كان السابقون يتعلمون الأدب كما تتعلمون العلم ، فتعالوا نراقبه عن كثب لنرى ماذا يفعل ليحوز الضيف إلى خيامه .
لقد تركناه فى اللقاء الماضى وهو يذكر لولده يدا كانت عنده ، وجميلا قد طوَّقته به كلبة كانت تدل الضيفان عليه ، وقد تتعجبون وتقولون : إنَّ الكلبة وإن دلَّت الضيفان عليه ، إلا أنَّها لاتلبث أن تخيفهم وتروِّعهم بعوائها ، فما جمعته أولا قد تضيعه آخرا ، ولكم الحق فيما ذهبتم إليه وأنا مثلكم قد عنَّ لى مثل ما عنّ لكم لكن انظروا ، لكأنَّ حاتماً قد أحس بما جال فى خاطرنا فهاهو يصب الطمأنينة على قلوبنا صبا اسمعوا إليه ماذا يقول ، إنَّه يقول :
فإنى جبان الكلب بيتى موطَّأ **** إذا ماالنفس شحَّ ضميرها
فكلبه جبان لا ينبح الضيفان حينما يتهيأون للدخول ، وإنَّما ينبح البعيد ليدلَّه على مكان حاتم .
وهاهو الضيف قد أتى فتعالوا لندخل معه ، لنرى خيمة الكرم وفسطاط الجود ، إنَّ أول مايأخذ بصرنا هو ذلكم البِشر الذى يعلوا وجه حاتم ، ألا ترون وجهه مستنيرا كأنَّه قد ظفر بما لا يُستطاع الوصول إليه ، وحقا هو يعتقد ذلك هاهو يخاطب زوجته قائلا :
سلى البائس المقرور يا أم مالك *** إذا ما أتانى بين نارى ومجزرى
أأبسط وجهى إنه أول القرى ***وأبذل معروفى له دون منكرى
انظروا إليه إنَّه يضاحك أضيافه ويلاطفهم ويمازحهم ، وهذا لعمرى كرم يفوق كرم العطاء ، إنه كرم اللقاء الذى يفيض بالبشر والسرور
أضاحك ضيفى قبل إنزال رحله ***ويخصب عندى والمحل جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ***ولكنما وجه الكريم خصيب .
إنَّه يتودد للضيفان ن ويتقرَّب إليهم ، وكأنهم هم أصحاب البيت وهو الضيف ، بل أخشى أن أكون مبالغاً إذا قلت أنه يفعل معهم من التملَّق والتودد مالايفعله إلا العبيد مع سادتهم ، انصتوا إنه ينظر إلينا ويُحد النظر ، تراه سمعنا ، صهٍ حتى نتبين ، هاهو يدير الكلام فى فمه ، إنَّه يقول :
وإنى لعبد الضيف مادام ثاويا *** ومافىَّ إلا تلك من شيمة العبد
لقد سمعنا فهلم ننظر ولانتكلم ، هاهى قدوره منصوبة على أثافيها ، ترىٰ هل نصبتها زوجته وعبيده فور علمهم بقدومنا أم أنها منصوبة هكذا سلفا لم تغادر ؟ ربما نسوها من أثر إطعام من كان قبلنا ، لكنه يقول :
قدورى بصحراء منصوبة *** وماينبح الكلب أضيافيه
إذن هى لاتغادر مكانها هذا ، وكيف ستغادر والضيوف لايغادر ضيف منهم إلا ويأتى ضيف آخر ، ومايلفت النظر أكثر هو هذه النار التى تبدوا للناظرين ، وليس دون رؤيتها حجاب ، إنه يوقدها فى مكان ظاهر لتجذب أنظار السائرين بالصحراء فى ظلمة الليل البهيم .
وليس على نارى حجاب يكنها ***لمستوبص ليلا ولكن أنيرها
هاهو حاتم بعد أن لقينا بالبشر والترحاب وفدانا بالأهل والأحباب ،يقوم إلى كرائم ماله لينظر أكثرها لحما وأطيبها شحما لينحر ويطعم ، لكن تراه يفعل ذلك لأن الزمان زمان خصب ونماء ، وهل لو كان أحد من العرب مكانه أما كان سيفعل مايفعل حاتم ، يقول حاتم :
ألم تعلمى أنى إذا الضيف نابنى *** وعز القرى أقرى السديف المسرهدا
والسديف المسرهد هو لحم السنام المقطع , وهو أطيب اللحم ، فهو إذا عز القرى فأصبح نادرا لا وجود له ، فحاتم حينها يقرى ضيفه بأطايب اللحم ، وكان أحبابى من أهل اليمن يقولون لى : أطيب اللحم مابعُد عن الأرض .
لكن ياحاتم ألا تأتيك أيام لا تجد فيها شيئا تقرى به الضيف ؟
يقول حاتم : بلى
فماذا تفعل حينها ؟
وإن لم أجد لنزيلى قرى *** قطعت له بعض أطرافيه
واعجبا لك يا حاتم ، وكل أمرك عجب .
هاهو طعامه قد نضج وجاء الغلمان يحملونه ليضعوه بين يدى أضيافه ، لكنه لايأكل كما يأكل الآخرون ، إنه يبدو كأنه يستحى من شئ ، مالك يا حاتم ، أأصابك شئ ؟
وإنى لأستحيى صحابى أن يروا*** مكان يدى فى جانب الزاد أقرعا
أقصر كفى أن تنال أكُفَّهم ***إذا نحن أهوينا وحاجتنا معا
إذن هو ذاك ، إنه يؤثر أضيافه بالزاد ، ربما يكون حديث عهد بالطعام ، هو هذا .
همس صاحبى إلى وأشار بسبابته إلى فمه كأنه يسكتنى ، أو ربما يلفت نظرى إلى شئ ، إنه يشير إلى زوجة حاتم ، هاهى تقدُم ناحيتنا وكأنَّها تريد أن تقول شيئا ، فلنستمع إليها ربما تقول شيئا جديدا لم نره فى رحلتنا هذه ، ماذا وراءك ياسيدتى ؟ تقول النوار:
أصابتنا سنة اقشعرت لها الأرض ، واغبرَّ لها أفق السماء ، وراحت الإبل حدباً حدابير ، وضنَّت المراضع عن أولادها فما تبضُّ بقطرة ، وجلفت السنة المال ، وأيقنا أنه الهلاك ، فوالله إنى لفى ليلة صنَّبر ، بعيدة مابين الطرفين ، إذ تضاغى الأصبية من الجوع ، عبدالله وعدى وسفانة ، فقام حاتم إلى الصبيين ، وقمت إلى الصبيَّة ، فوالله ماسكنوا إلا بعد هدأة من الليل ، ثم ناموا ونمت أنا معه ، وأقبل يعللنى بالحديث ، فعرفت مايريد فتناومت ، فلما تهورت النجوم إذا شئ قد رفع كسر البيت فقال : من هذا ؟ فولى ثم عاد ، فقال : من هذا ؟ فولى ثم عاد آخر الليل ، فقال : من هذا ؟ فقالت : جارتك فلانة ، أتيتك من عند صبية يتعاوون عواء الذئاب من الجوع ، فما وجدت معولا إلا عليك اباعدى ، فقال : والله لأشبعنهم ، فقلت من أين ؟ قال : لاعليك ، فقال : أعجليهم فقد أشبعك الله وإياهم ، فأقبلت المرأة تحمل ابنين ويمشى جانبها أربعة ، كأنها نعامة حولها رئالها ، فقام إلى فرسه فوجأ لبتها بمديته ، فخر ،ثم كشطه ، ودفع المدية إلى المرأة فقال : شأنك الآن ، فاجتمعنا على اللحم ، فقال : سوأة ، تأكلون دون الصرم ؟ ثم جعل يأتيهم بيتا بيتا ، ويقول : هبوا أيها القوم ، عليكم بالنار ، فاجتمعوا ، والتفع بثوبه ناحية ينظر إلينا لا والله ماذاق منه مزعة ، وإنه لأحوج إليه منا ، فأصبحنا وما على الأرض من الفرس إلا عظم ، أو حافر .
صدقت يانوار قد كنا نعجب من أمر حاتم ، ونقول إن مايروى عنه ضرب من الخيال ، أو هو أحاديث خرافة ، فاليوم لو قيل لنا فى كرم حاتم مالا تستسيغه العقول لقبلناه بعد ما سمعنا منك ما سمعنا ، ثم تقدمنا إلى حاتم واستأذنَّاه فى العودة إلى ديارنا ، فأذن لنا على كره منه ، وعدنا إلى ديارنا مأخوذين بما رأينا وسمعنا ، وصارت مجالسنا بعد ذلك كلها مجالس كرم لاتعقد لإطعام الطعام ، وإنما للحديث عن كرم حاتم ، ولم يطل بنا المقام فى ديارنا إذ أن روعة شخصية حاتم قد جذبتنا ، فعدنا مسرعين نركب جناح الشوق ، ويحدونا حادى الحب إلى هذا الرجل الكريم والسيد المفضال ، وأنخنا المطايا عند بابه فلم نر كلبا ولاقدرا ولم نسمع لأحد ركزا ، فأخذنا ماقرب ومابعُد ، وسألنا عن حاتم أين هو ؟ فقالوا : مات ، فسألنا عن قبره ، فدللنا عليه ، وكان معنا رجل سئ الخلق يقال له : أبو الخيبرى ، جعل يركض قبر حاتم برجله ويقول : ياحاتم أقرنا ، فقلنا ماذا تبتغى من عظام قد رمت ؟ فقال : إن طيئا تزعم أن حاتما لايمر به أحد إلا قراه ، ثم ضرب الليل الكون بجناحه فأخذتنا سنة من النَّوم فأيقظنا صياح أبى الخيبرى يقول : وارحلتاه ، فجعنى حاتم بناقتى ، قلنا : وكيف ذلك ؟ قال أتانى فى المنام فعقر ناقتى بسيفه ، فالتفتنا فإذا ناقته تكوِّس عقيرا ، فقمنا إليها فنحرناها وطعمنا ، وبتنا نأكل ثم سرنا فما راعنا إلا رجل يركب بعيرا ويقود بعيرا ، وهو يقول : أيكم أبوالخيبرى فأشرنا إليه فدفع إليه الناقة ، وقال أنا عدى بن حاتم أتانى أبى فزعم أنه قراكم بناقتك فشأنك والبعير ، ودفع إليه البعيرومضى .
ماذا نقول ياحاتم : كرم بعد الموت ، لانملك إلا أن نقول كما قال رسول الله لابنتك : لو كان أبوك إسلاميا لترحمنا عليه ، حقا ياحاتم لوكنت إسلاميا لترحمنا عليك .
كتبه
المعتز بالله الكامل