تاريخنا والغزو التنصيري والعلماني
عبد الحليم عويس
تتَّضح لنا خيوط الهجمة التنصيرية والعلمانية على التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، والهدف الأساسي الذي تسعى إليه هذه الهجمة هي فك الارتباط الروحي والوجداني والعقلي الذي يربطنا بهذا التاريخ، ولا سيما فترة الاجتماع التشريعي فيه
- التصنيفات: الغزو الفكري -
دأبت الدوائر الكنيسية والغربية بصفة عامة على الاشتغال بتاريخنا وحضارتنا بطريقة مكثفة، ولو حصرنا عدد المشتغلين بالتاريخ الإسلامي وتراث الإسلام من هؤلاء، لوجدناهم أعدادًا غفيرة، وقد تتلمذ على أيديهم من المسلمين كثيرون، كما تتلمذ على أيديهم بعض النصارى العرب الذين خانوا حضارتهم العربية والإسلامية، ولم يكونوا في مستوى النضج الحضاري الذي مثله الشاعر اللبناني (بشارة الخوري)، أو السياسي الوطني المصري (مكرم عبيد) الذي كان يقول: (أنا مسلم وطنًا مسيحي دينًا)، وكان من أسوأ هؤلاء وأجرأهم على الدعوة للتغريب والتنصير الكاتب (سلامة موسى) والمؤرخان (جورجي زيدان) و(فيليب حتِّي)، ثم تلميذهما (لويس عوض)!
وقد تعاون المستشرقون والمستغربون معًا على تشويه تاريخنا، ولهم في ذلك خطوط فكرية ثابتة، نستطيع أن نلمَّ بأهمها على النحو التالي:
1) التركيز على فترات الخلاف بين المسلمين وتوسيع دائرة الحديث عنها، والإغضاء بالتالي عن المساحات الأخرى الكبيرة المتألقة.
2) القول بأن فترة الالتزام بالإسلام لا تعدو أن تكون فترة العصر الراشد.
3) إثارة العنصريات وتعميقها بين العرب والبربر والأتراك والفرس، بهدف إضعاف روح الإخاء الإسلامي بين المسلمين، وهم يتذرَّعون لذلك بإحياء النزعات والخلافات بين هذه العناصر الإسلامية.
4) محاولة إبراز كلمات (العروبة) و(العرب) و(الفكر العربي) و(الحضارة العربية)، بغرض إثارة الشعوب الأخرى التي أسهمت في صنع الحضارة الإسلامية، وتأليبها ضد العرب.
5) إبراز دور الأقليات غير المسلمة وتحريكها ضد الأمة، والزعم بأنها أقلية ظلمت وانتهكت حقوقها.
6) كراهية كل الدول والجماعات التي أنقذت المسلمين ووقفت ضد الزَّحْف الصليبي؛ مثل: المماليك والأيوبيين والعثمانيين، ويفوز العثمانيون بالنصيب الأوفر من حقد هؤلاء لاعتبارات كثيرة.
7) محاولة إرجاع ما يوجد من صور النهضة في الحياة الإسلامية إلى الاحتلال الأوروبي، مثل: الحملة الفرنسية على مصر، وبعثات محمد علي إلى أوروبا.
8) تمجيد كل الذين خانوا الإسلام وحاربوه مثل مصطفى كمال أتاتورك في تركيا، وأكبر شاه في الهند، وغيرهما، وفي المقابل الانتقاص من قدر المجاهدين والمصلحين، وتلفيق التُّهم ضدهم.
9) التشكيك في التراث الحضاري للمسلمين بدعوى أن الحضارة الإسلامية منقولة على الحضارة الهيلينية، وأن المسلمين بالتالي لم يكونوا إلا نَقَلةً ومترجمين لفلسفة تلك الحضارة، ولم يكن لهم إبداع فكري ولا ابتكار حضاري.
10) تشويه منصب الخلافة الإسلامية ورميه بأبشع الصفات، وإعلان حرب دائمة عليه حتى بعد زواله، أليس عجبًا أن تكون اتفاقية كرزون المبرمة ضمن مؤتمر لوزان (24 يوليو 1924) متضمنة في بندها الأول: (إلغاء الخلافة الإسلامية نهائيًّا من تركيا)، وفي بندها الثاني أن تقطع تركيا كل الصلة بالإسلام، أليس هذا التدخل في الشؤون الداخلية شيئًا سافر العداء لا يشبه إلا تدخُّل أمريكا أمام أعيننا في شؤون بلد عربي وإرغامه على إلغاء تطبيق الشريعة، وتهديد الآخرين الذين يفكرون في السير في هذا الطريق.
11) تشويه تاريخنا الحديث بطريقة مزرية، وقد ذكرنا أن الدولة العثمانية باعتبارها البلد الذي قام بالدور الأساسي في حماية المسلمين في القرون الخمسة الأخيرة، قد فازت بأكبر نصيب من هذا الهجوم التنصيري.
12) وقد وصل الأمر بهذا الغزو الثقافي المشين أن اعتبر الوجود الإسلامي التركي الذي حمى الشاطئ المغربي كله ضد الغزو الإسباني الزاحف بعد سقوط غرناطة، وأدخل الرعب في قلوب الأوروبيين، وجعلهم يقفون في موقف الدفاع لأربعة قرون.
أقول: لقد اعتبر هؤلاء المنقذين الأتراك (استعمارًا) واحتلالًا، واعتبروا الحركات العلمية للصليبية الدولية ومحافل الماسونية - التي باعت فلسطين - حركات تحريرية ثورية!
واعتبار الأتراك مستعمرين أمرٌ ترفضه طبيعة الأخوة الإسلامية، ولئن كان بعض الولاة الأتراك قد أخطؤوا في حق العرب، فإن كثيرًا من (الحكام العرب) الذين حكموا بعد الترك قد أجرموا في حق شعوبهم، وقد كان الولاة في جملتهم أفضل كثيرًا من الذين حكمونا في عصور استقلالنا العظيمة! ومع ذلك - وبالإضافة إلى الأخوة الإسلامية - فنحن نتساءل:
هل كانت تركيا دولة استعمارية؟
ولكي نجيب علميًّا على هذا السؤال، لا بد لنا من أن نتفق على معنى (استعمار)، الاستعمار تاريخيًّا: حالة معينة من التطور الاقتصادي، تقف في قمة التطور الرأسمالي، فهل كانت الدولة العثمانية واقعة في هذه القمة؟ بالطبع لا، لقد كانت أفقر من بعض البلاد التي يقال أنها خاضعة لها، والعلاقة الرسمية الوحيدة التي كانت تربط مصر مثلًا بتركيا هي الخطبة للسلطان، وحق السلطان في تعيين الوالي، الوالي الذي لا يملِك من الأمر شيئًا، والذي كان المماليك والعلماء والعامة يَملِكون عزله في أي وقت، ودون إبداء الأسباب، وقبل الغزوة الفرنسية استقل مملوك فعلًا بمصر (علي بك الكبير)، ولولا خيانة زوج ابنته له لَما استطاع العثمانيون مواجهته، بل إن المماليك ظنوا أن الغزوة الفرنسية كانت بتدبير من السلطان العثماني، وواجهوا مندوبه البائس في مصر باتهامهم هذا، فهل جاء نابليون الغازي لتحرير مصر من الأتراك المستعمرين؟ أليس هذا القول من اللعب بالألفاظ أو اللعب بعقولنا؟ ومن كان يحكم مصر في ذلك الوقت.
وهكذا يمضي الخط التنصيري والتغريبي حاملًا مِعول الهدم في تاريخنا، فهذا (دومينيك سورديل) صاحب كتاب (الإسلام)[1]، يعالج تاريخنا وكأنه يعالج حركة وثنية غامضة، ويقول عن الرسول: (إننا لا نعرف الكثير عن شخصية محمد قبل تبشيره بالإسلام، ولا نعرف بالتأكيد إلا تاريخ هجرته من مكة إلى المدينة)، مع أن حياة الرسول قبل البعثة أوضح حياة بالنسبة لكل العظماء والأنبياء.
وحياته في مكة تكاد تعرف يومًا بيوم، ويستمر (دومينيك) في تشويه حروب النبي وفي تشويه تاريخنا كله.
وفي كتاب آخر يحمل الاسم نفسه، وقد ألفه (هنري ماسيه)، تتتابع الأخطاء نفسها عن حياة النبي وتطور الحياة الإسلامية، والنظر إلى محمد على أنه ليس نبيًّا، وعلى أن القرآن الكريم من صناعته[2]، وأما (م-س- ترتون) صاحب كتاب (أهل الذمة في الإسلام)[3] ، فقد عمد إلى تشويه التسامح الإسلامي، فيصور (الأقباط) في مصر والشام على أنهم مضطهدون طيلة العصر العباسي وما تلاه، وهو يجعل المسلمين دائمًا سبب أية فتنة طائفية تقع، مع أنه لم يملك إلا الاعتراف بطغيان الأقلية الصليبية، واستبدادها وفي كثير من الأحايين.
ويأتي (كارادوقو) الفرنسي صاحب كتاب (مفكرو الإسلام)[4] ، ليسير على الدرب نفسه ويصف الخلفاء بما ليس فيهم، فالمنصور العباسي كان منجمًا، و(أم الرشيد) قامت بوضع السم للهادي أخي الرشيد حتى يخلو الأمر لابنها، ويصور الخليفة هارون الرشيد - شأنه في ذلك شأن جورجي زيدان وغيره - بالصورة نفسها التي صورتها ألف ليلة وليلة وكتاب الأغاني للأصفهاني، بل إنه ليكابر ويغالط ويقول أن روايات ألف ليلة ذات طابع تاريخي، مع وضوح طابعها الأسطوري، وهو يتمادى في تخبُّطه، فيرى أن (هرورا) سياف الرشيد كان يقطع الناس إربًا لأقل هفوة، ويرى أن البرامكة قد نكبهم الرشيد ظلمًا، وربما أن هناك زواجًا اسميًّا تَم بين (العباسة أخت الرشيد) وبين جعفر البرمكي، وهي الأسطورة التي نسج حولها أوهامه (جورجي زيدان)، وحتى (المأمون) جعله (كارادوقو) محبًّا لعادات الفرس السامانيين، وأما صلاح الدين الأيوبي، فكان عند (كارادوقو) مرائيًا نفعيًّا يتظاهر بأنه سني غيور، والويل "لمحمد الفاتح"؛ لأنه بطل إسلامي وفاتح عظيم، ولهذا يعتبره كارادقو - لهذا السبب - متقلب الخلق عنيفًا جافًّا!
وبالإضافة إلى هذا الحشد الغريب من الافتراءات، يضيف كارادوقو [5] (صراحة) أخرى حول المؤرخين العرب المسلمين المعتمدين لديهم؛ أي: لدى المستشرقين، فيقول: إن مؤرخي الشرق الإسلامي لا يتمتعون بالشهرة في الغرب، والمؤرخون الذي عرفوا في الغرب ليسوا مسلمين، إن المؤرخين المعروفين لديهم هم (جوجثين، ابن العميد الملقب بالمسكين - (ت 1273م)، والشماس القبطي بطرس الراهب، وبطريك الإسكندرية المشهور (يوتخيوس)، واليعقوبي ابن الصبري، أما عشرات المؤرخين الموثقين المسلمين بدءًا من مؤرخي السيرة والمغازي، ومرورًا بالطبري وابن الأثير، حتى المقريزي وابن كثير وابن خلدون، وغيرهم، فهم غير معروفين في الغرب).
ولهذا فإن كارادوقو نفسه لم يقدِّم من بين مؤرخي الشرق الإسلامي المعاصرين إلا (جورجي زيدان)، ذلك المعول الهدام في تاريخنا، والذي ثبت ولاؤه المطلق للمحافل الماسونية وللتوجيهات الاستشراقية، والذي قام بتحريفات فاحشة في تاريخنا في تلك السلسلة التي سماها (روايات تاريخ الإسلام)، وتاريخ الإسلام منها براء!
والحق أن كل ما كتبه المؤلف من مدح (لجورجي زيدان)، يؤكد المنهج الذي أشرت إليه سابقًا، وهو المنهج الذي يمدح المفسدين (كهولاكو وأكبر)، ويذم المصلحين كصلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح، ولكننا لا نغفل هنا لمحة للمؤلف تضم إلى لمحاته (الصريحة) السابقة، وهي لمحة تؤكد رأينا في جورجي زيدان، إنه يأسف لموت (زيدان)، ويشير إلى أن المستشرقين فقدوه منذ زمن قليل، فكأنه يعتبره - وهو عربي - مستشرقًا، وهذا ما نميل إليه!
لقد كان - بحق - كارل بروكلمان (ولد في ألمانيا عام 1868) - واحدًا من المفكرين الذين بذلوا جهدًا كبيرًا في مجال التاريخ الإسلامي والأدب العربي، فكتاباه (تاريخ الشعوب الإسلامية) و(تاريخ الأدب العربي)، من أهم الكتب التي ألفها المستشرقون ومن أحظاها لدى القارئ العربي، ولكن بروكلمان على الرغم من هذا، لم يستطع التخلص من المناخ نفسه الذي يفرض (الفكرة السائدة عن الإسلام) على المستشرقين.
فبروكلمان في تاريخ الشعوب الإسلامية يعتبر الحجر الأسود وثنًا يعبده المسلمون[6]، وهو يقول أن النبي اعترف بثلاثة آلهة في الكعبة في سنواته الأولى[7]، ويتهم النبي بأن صلته بالوحي كانت صلة ظنية احتمالية [8]!
ويرى أن القرآن قد انبثق عن اليهودية والنصرانية، وكيَّفه محمد تكييفًا خاصًّا وفقًا لحاجات شعبه الدينية [9]. ويرى أن الرسول أرضى اليهود بتشريع صيام رمضان[10]، ويتهم خالد بن الوليد بقتله مالك بن نويرة من أجل زوجته وَفق الرواية الكاذبة التي أشاعها بعضهم [11]، ويرى أن ثراء عثمان غفر له عند الرسول النقص في كفاءته الشخصية [12]، ويصف المغيرة بن شعبة بأنه انتهازي لا ذمة له ولا زمام[13]، ولفظ في قضية العباسة أخت الرشيد وفق المنهج المنحرف نفسه[14].
ونتابع صفحات هذا الجوستاف لوبون صاحب كتاب (حضارة العرب)، عاش يؤمن بأن غير الأوروبي في مستوى "القرد" مهما تعلَّم، وتحصل على الدكتوراه في الحقوق والأدب[15]، وأرنولد توينبي يعتبر عودة الإسلام لقيادة الحضارة من الأخطار الضخمة، وتمنى ألا يحدث ذلك [16].
بيد أن (فيليب حتِّي) يعتبر من أكثر من احتشدت كتبهم بالافتراءات في نطاق التاريخ الإسلامي، مع محاولة أن يظهر بروح علمية منصفة، وتقديمه كثيرًا من كلمات المدح للحضارة الإسلامية.
ومشكلة فيليب حتِّي (ونحن نقدمه نموذجًا للمستغربين من العرب النصارى) أنه لبناني الأصل ينتمي أصلًا لحضارتنا، وقد تفيَّأ ظلالها، لكن بعد أن تخرج من الجامعة الأمريكية ببيروت سنة 1908، ذهب إلى أمريكا؛ حيث حصل على الدكتوراه (1915)، وعاش في أمريكا بعد ذلك متدرجًا في الوظائف الجامعية، وحصل على الجنسية الأمريكية، وأصبح مستشارًا في معاهد الاستشراق وأجهزة الاستخبارات، ورئيسًا لقسم اللغات الشرقية، ومن خلال كتبه (أصول الدولة الإسلامية) و(سوريا والسوريون)، و(تاريخ العرب) و(الموجز) و(المطول)، و(أصول الشعب الدرزي وديانته)، و(تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين) - استطاع أن يبث كثيرًا من الأفكار المزيفة حول تاريخنا، ولم يكن أمينًا في تقديم حضارتنا للأوربيين.
إن (حِتِّي) ينفي كل معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم ما عدا القرآن، ويقول أن القرآن لم يعترف إلا بهذه المعجزة الوحيدة[17]، مع أن القرآن والحديث أكَّدا وجود معجزات أخرى للرسول؛ كانشقاق القمر، والإسراء والمعراج، ونبع الماء من بين أصابعه ومعجزة الغار، وسراقة، وفي النظريات السياسية الإسلامية.
ويتكلم عن سياسة عمر في إدارة الدولة، فيرى أن عمر وضع الدستور الفكري الاشتراكي الذي جعل للعروبة سموًّا، وللمؤمن العجمي درجة أسمى من غير المؤمن العربي.
وأقل ما يرد به على هذا الادعاء سلوك عمر نفسه، وتهديد أحد الصحابة له بتقويمه بالسيف لو وجدوا فيه اعوجاجًا، فهل هذا يتناسب مع الحكم العسكري الاشتراكي؟ فضلًا عن أن استعمال كلمة (اشتراكية) المعاصرة إسقاط فاسد على تركيبة حضارية مختلفة تمامًا لها أصولها ونُظمها المتكاملة.
ويعْزو (حتِّي) الحماسة البريئة في الفتوحات إلى الدافع الاقتصادي[18]، وهذا أمر منتظر من (حتِّي) الذي أراد بإرادته أن ينتمي إلى حضارة مادية، فهو لن يستطيع فَهم الدوافع الروحية، أما الجزية فقيمتها المادية تنفي هذا، وقد كان المسلمون يردونها حين يَعجِزون عن الدفاع عن أهل الذمة، وقد رد على هذه الشبهات (توماس أرنولد) في كتابه (الدعوة إلى الإسلام).
ولَمَّا كنَّا لا نستطيع - في هذه العجالة - مناقشة (حتِّي) في كل آرائه؛ لأن المناقشة الصحيحة لها تستوجب صفحات طويلة، بينما المناقشات العابرة تضر بالقضية، فنحن بالتالي سنشير إلى بعض أغاليطه، ونعتقد أن أكثرها من الوضوح بحيث يدرك حقيقته جمهور المسلمين، فضلًا عن المختصين.
• يرى (حتِّي) أن المشكلة الأولى لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه كانت في التخلص من منافسيه في الوظيفة الكبرى (الخلافة)، وعلى رأسهم طلحة والزبير اللذان كانا يمثلان الحزب الملكي، وقد انضمت عائشة إلى صفوف المتمردين ضد علي في البصرة[19].
ونحن في هذا المقام نُحيل القارئ إلى ما كُتب في هذا الموضوع في الطبري وابن الأثير، وأبي بكر بن العربي (صاحب العواصم من القواصم)، والذهبي (صاحب طبقات الحفاظ)، والدكتور إبراهيم شحطوط في (أباطيل يجب أن تُمحى من التاريخ)، فهذه الدراسات وغيرها كثير قد عرضت لهذه القضية بحياد وموضوعية يستحقان التنويه.
ولم تكن الدولة الأموية لتمر دون تعرُّض سواء في شخص معاوية رضي الله عنه أم في خلفائه، وقد زعم (حتِّي) أن عبدالملك بن مروان قد ابتنى في بيت المقدس مسجد الصخرة، وكان غرضه أن يحول إليها أفواج الحجاج من مكة التي استقر فيها منافسه ابن الزبير[20].
وأظن أن هذا الادعاء يكشف جرأة (حتِّي) بطريقة مزرية، فعبدالملك بن مروان فقيه عابد ناسك (كما وصفه ابن حجر والكتبي، وابن الأثير وابن كثير)، وقد احتج بقضائه الإمام مالك في الموطأ، فكيف يتسق هذا مع هذا الكفر الذي يرميه به - بلا سند - المؤرخ حتِّي؟!
وهم يتهم عبدالملك وابنه الوليد وهشامًا بتناول الخمور[21]، معتمدًا على (الأغاني) الذي لم يقصد به صاحبه أن يكون كتابًا تاريخيًّا، لكن (حتِّي) وأمثاله يصرون بالقوة على أن يكون الأغاني وألف ليلة وليلة هي المصادر التاريخية التي يتكؤون عليها، فأي منهجية هذه تُرى؟!
وفي حديثه عن الدولة العباسية ينتهي إلى السقطات نفسها التي انتهى إليها غيره من المستشرقين؛ مثل قصة العباسة وعلاقتها بنكبة البرامكة [22]، وهَلُمَّ جرًّا.
وهكذا تتَّضح لنا خيوط الهجمة التنصيرية والعلمانية على التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، والهدف الأساسي الذي تسعى إليه هذه الهجمة هي فك الارتباط الروحي والوجداني والعقلي الذي يربطنا بهذا التاريخ، ولا سيما فترة الاجتماع التشريعي فيه، وهي فترة الرسالة والراشدية، ومتى ما تَمَّ هذا، فإن تجريدنا من بقية صور انتمائنا للإسلام تصبح أمرًا سهلًا ميسورًا، وهذا هو هدفهم الكبير!
[1] المنشورات العربية بيروت (ترجمة خليل الجر).
[2] نشر محمد جواد مغنية الترجمة د/ مصطفى الرافعي.
[3] نشر دار المعارف بمصر ترجمة د/ حسين حبش.
[4] ترجمة علي زعيتر نشر بيروت (الدار المتحدة للنشر).
[5] انظر في الكتاب السابق صفحات : 13،14،15،19،24،38،47،72،83،84،88، وما بعدها.
[6] افتراءات فيليب حتى وكارل بروكلمان.
[7] المرجع السابق 95.
[8] المرجع السابق 100.
[9] المرجع السابق 104.
[10] المرجع السابق 105.
[11] المرجع السابق 115.
[12] المرجع السابق 120.
[13] المرجع السابق 123.
[14] المرجع السابق 121.
[15] انظر نظريته تلك في كتابه (السنن النفسية لتطور الأمم وفلسفة التاريخ).
[16] انظر الصفحة الأخيرة من كتابه (الإسلام والغرب والمستقبل).
[17] تاريخ العرب المطول، 1 /177؛ (نقلًا عن افتراءات فيليب حتِّي، عبدالكريم باز، ص45).
[18] المصدر السابق 52، 55.
[19] المرجع السابق، 61.
[20] المرجع السابق، 76.
[21] المرجع السابق 78.
[22] السابق، ص86.