فلسفة الغذاء
التأذي بالشبع ليس أقل من التأذي بالجوع؛ حتى قال بعض الحكماء: "التأذي بالأكل مثل التأذي بالجوع أو أشد"
- التصنيفات: فقه الأطعمة والأشربة -
الطعام ضروري للإنسان، فلا يمكنه الحفاظ على حياته بدونه، والتقليل الشديد منه قد يُصيب بدنه بالهُزال وصحته بالعِلل، إلا أن العلاقة بين الطعام والصحة ليست علاقة طردية على كل حال؛ أعني أنها لا تزيد بزيادته، ولا تنقص بنقصه بصورة ثابتة، بل إن الاتساع في الطعام يمثل كارثة للصحة الفردية، ومضارَّ لاقتصاد المجتمع.
ومن هنا سأحاول تحديد بعض الجوانب في فلسفة الغذاء، غابت عن كثير من الناس، فبِتْنا نعاني من كثير من متاعب الأبدان، وعِلَلِ الأجسام، وضياع الأموال؛ بسبب غلبة العادات الغذائية الخاطئة، وتقديمها على الحقائق العلمية والشرعية المتعلقة بالغذاء.
الفائدة واللذة:
شاء الله تعالى ألَّا تكون حاجتنا إلى الطعام مجردة من العواطف الجميلة والأحاسيس اللطيفة، فربط به إحساسنا باللذة بمذاقات الطعام وروائحه وألوانه المتنوعة؛ سواء فيما نلتقطه من ثمار، أو نطبخه من إدام، وهذا يعني وجود رباط نفسي حميم بين الإنسان وغذائه، الذي يشكل مصدر طاقة لجسمه، وسببَ نموٍّ لأعضائه.
إلا أن الله تعالى يختبر عباده بالنعم حين يعطيها لهم، وحين يحرمهم منها، فيختبر بالقلة والندرة هل يصبر صاحبها، وبالكثرة والسعة هل يشكر صاحبها، ويضبط استعماله للنعمة بالطريقة والكمية التي تؤدي بها وظيفتها، دون تجاوز لهذه الوظيفة.
وقد شاء الله أن يجعل لوضع النعم في غير محلها واستعمالها استعمالًا خطأ نتيجةً سلبية ملحوظة، ولكن على التراخي غالبًا؛ بمعنى أن استعمال الناس للنعم في غير محلها يؤدي إلى عَطَبٍ وفساد في الأبدان والأشياء بطريق التراكم، وخلال الزمن.
وهذا ما يحدث في الطعام حين يصبح هدفًا في حد ذاته، فيأكل الإنسان وهو جائع، ويأكل وهو شبعان، ويدخل الطعام الجديد قبل هضم القديم، ولا يفرق في الإقبال بِنَهَمٍ على الطعام بين ليل ونهار، ويتسع في الأنواع والألوان؛ ظنًّا منه أن هذا يجلب له الصحة والعافية، إلا أن الذي يحصل هو أنه يُراكم العلل في البدن، ويصيب أعضاء الهضم بشيخوخة مبكرة؛ نظرًا لأن للمعدة وبقية الجهاز الهضمي طاقة وقدرة محددة على العمل، لا ينبغي أن نتجاوزها.
ويبدو أن المسألة هنا صراع بين اللذة التي تتحكم فيها العاطفة، والفائدة التي يدركها العقل، ولا ينبغي أن يكون النصر في هذه المعركة للعاطفة دائمًا، وإلا أوردت الإنسان المهالكَ، وتسبَّبت له في هَرَمٍ مبكر، ونلاحظ في الشريعة الغرَّاء أنها أجازت التوسع في الطعام أيام التشريق من عيد الأضحى، ووصفتها على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بأنها «أيام أكل وشرب» [رواه مسلم]، وهذا يعني أن القاعدة ليست في الاتساع، وإنما الاقتصاد: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، ولهذا كان التأذي بالشبع ليس أقل من التأذي بالجوع؛ حتى قال بعض الحكماء: "التأذي بالأكل مثل التأذي بالجوع أو أشد"، وهذه حقيقة يثبتها الواقع؛ إذ إن ما تُخلِّفه أمراض التُّخمة والإسراف في الطعام من ضحايا أكثر مما تخلفه المجاعات، إلا أن تأثير المجاعات جماعيٌّ وملحوظ، وأما تأثير الإسراف في الطعام، فليس ظاهرًا على هذا النحو.
الوعاء:
وصف النبي صلى الله عليه وسلم البطن بأنها "وعاء"، إلا أنها ليست شرَّ وعاء إلا إذا ملأها صاحبها، وتحامل عليها بالإكثار من الطعام؛ فقال عليه الصلاة والسلام: «ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدم لُقيمات يُقِمْنَ صُلْبه»؛ [رواه الترمذي وصححه]، فالمشكلة هنا ليست في الوعاء ذاته، ولكن في التعامل الجائر معه، وتحميله من الطعام ما يطغى على مهمات أخرى، يتناغم فيها هذا الوعاء مع أجزاء الجسم الأخرى، كما يقوم بمهمة أخرى كذلك غير استقبال الطعام.
أما المهمة الأخرى للبطن، فهي أنها وعاء للماء - أو الشراب عمومًا - مما تزيد ضروريته للأحياء على ضرورية الطعام، كما أن حركة التنفس لا تتم بيُسْرٍ ما دامت المعدة ممتلئة؛ أي: إن التناغم بين أعضاء الجسم في أداء وظائفها يختل، وتضيق مجاري الأنفاس بسبب التخمة من الطعام؛ ولهذا جاء في بقية هذا الحديث الشريف ما يفيد تقسيم البطن ثلاثة أثلاث بين الطعام والشراب والنَّفَس؛ فقال عليه الصلاة والسلام: «فإن كان لا بد فاعلًا، فثُلُثٌ لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنَفَسه».
إن عدم الانضباط فيما نملك (تناول الطعام) ينتج عنه خلل فيما لا نملك (الصحة)، وتلك محنة من محن الحياة، وجدير بالمسلم أن يجعل من ضبط النفس على مقياس الشريعة الغراء عنوانًا له في كل شيء؛ عنوانًا في ترك المعاصي مهما تَكُنْ مُغريةً، وعنوانًا في أداء الفرائض مهما تكن مكلفة، وعنوانًا على ترك التوسع في المباح مهما يكن سهلًا متاحًا.
نأكل لنعيش:
وتلك حكمة أخرى لازمة لضبط تعاملنا مع الغذاء؛ بحيث يحقق الفائدة التي خلقه الله لأجلها، ولا يتحول إلى خطر داهم يهدد صحتنا وحياتنا كلها، وأصل المسألة هي أننا نمكث سنوات محددة في هذه الحياة؛ طالت أو قصرت، وليس الأهم هو عدد هذه السنوات؛ لأن تحديدها بيد الله تعالى وحده، والمهم هو ألَّا تكون هذه السنوات المحدودة سنوات معاناة وأمراض وأسقام، وجزء كبير من هذا الأمر جعله الله تعالى في يد الإنسان، ويتلخص سِرُّه في أمرين:
الأول: الاعتدال في الطعام والشراب.
الثاني: عدم الاستسلام للخوف من فقد موجود، ولا للقلق في تحصيل مفقود، والإيمان بأن الأمور لها أسباب، وأنها تجري بمقادير الله سبحانه.
ويُعين على فهم هذا كله أن ندرك وظائف الأشياء، ومنها وظيفة الغذاء التي تتلخص في حفظ الحياة، وخدمة قضية بقاء الإنسان في هذه الحياة معافًى سليمًا من أمراض الجوع والقلة، فإذا وضعنا هذا إلى جانب مهمة الإنسان في الوجود، وهي العمل على نشر ألوان الفضل والخير في أرض الله، باسم الله تعالى، ووفقًا لمنهجه الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، ظهر أننا نأكل لنعيش، وأننا لا نعيش لنأكل.
جوامع الغذاء:
من آداب الدعاء التي اعتاد العلماء إيرادها: أن يحرص المسلم على الأدعية الجامعة التي تشتمل على ألوان كثيرة من الخير في لفظ قليل؛ مثل قوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]، ولعل قياس الغذاء على الدعاء يجعلنا نركز على جوامع الغذاء، وهي تلك الأغذية التي يجتمع فيها كثير من الفائدة، ولا تصيب الأجسام بالأعطاب، ومن فضل الله أنها متاحة ومتيسرة في أكثر البلاد؛ مثل: التمر، وعسل النحل، والألبان، والفاكهة، وغيرها.
وجوامع الغذاء أكثر فائدة للجسم من أن تجتمع على موائدنا ألوان كثيرة من الطعام في الوجبة الواحدة، وهو أمر استوردناه من عادات الأمم الأخرى، وأضرَّ بأجسامنا أكثر مما نفعها؛ إذ كانت عادة أجدادنا القريبين، فضلًا عن هَدي سلف الأمة الأول - عدمَ الاستكثار من الطعام أولًا، وقلة ألوان الطعام على المائدة ثانيًا.
إن المائدة البسيطة لمن يقدر على شراء ما يشاء من الطعام هي دليل على وعيه وفهمه لمهمة الطعام، وأما من يستكثر من الألوان والأصناف على مائدته، فهو فقير في الثقافة الغذائية والصحية والشرعية، وعليه أن يعيد النظر في نظرته إلى الحياة وغايته منها.
وقبل مئات كثيرة من السنين، فهم هذه المسألة واحد من الشخصيات التاريخية العظيمة؛ وهو أمير المرابطين يوسف بن تاشفين (400 - 500هـ) رحمه الله، فكان يأكل خبز الشعير ولحوم الإبل ويشرب ألبانها فقط، فعاش سليمًا معافًى، وتفرغ للأعمال العظيمة التي ظل يسجلها بقوة وفُتُوَّةٍ حتى وفاته، وهو ابن مائة عام.
تكاليف باهظة أخرى:
ورد عن بعض أهل العلم قوله: "الشبع داعية إلى البَشَمِ - التخمة - والبشم داعية إلى السقم، والسقم داعية إلى الموت، ولو سُئل أهل القبور: ما كان شأن موتكم؟ لقال أكثرهم: الشبع".
هذه مقولة ناطقة بجانب من الكُلفة الباهظة التي يدفعها الإنسان؛ نتيجة للإفراط في تناول الطعام، فتسرق اللذة المجردة والعادة السيئة منه صحتَهُ، وتُورِده حِياضَ الموت مُنْهَكَ القُوى عليل البدن، وترتبط بذلك نفقات باهظة طلبًا للشفاء والعلاج من شيء جعل الله حبله بيدنا، ولعل حسبة صغيرة توضح ضخامة ما ينفقه العالم على الطب، وأكثر عِلَلِهِ ناجمٌ عن نظامنا الغذائي العليل.
تُضاف إلى هذا مضرة أخرى متصلة بعدم فهمنا لفلسفة الغذاء في ديننا، وهي ما يرتبط به من تبذير يؤدي بالإنسان إلى أن يُلقيَ في القمامة جبالًا من الطعام، تكفي لإطعام فقراء العالم، وهي مظلمة كبيرة سيأتي الفقير ليسأل الغني عنها يوم القيامة، وما من عاقل في هذا العالم إلا ويحرص على قليل الطعام وكثيره أن يكون مصيره القُمامة، ورحِم الله الداعية المعمر الشيخ عبدالمعز عبدالستار (1914 - 2011) الذي حكت ابنته عنه أنه كان إذا وجد حبة أرز في الأرض التقطها وأكلها بعد أن يزيل عنها الأذى، ويقول: سخر الله لها السماوات والأرض، ثم تتركونها هكذا لتُلقى في القمامة!!
وأخيرًا رَوَوا عن الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور قوله: "والله ما أنا بشَرِهٍ، وما لي في الاستكثار من الطعام حاجة؛ لأنه يُثقل الجسم، ويشغل عن النوائب، وأقل شيء فيه كثرة اختلافي إلى الخلاء، فأرى ما أكره، وأسمع ما لا أحب".
____________________
د. نبيل فولي محمد