الزكاة وأثرها فى تحقيق التوازن المجتمعى
المعتز بالله الكامل محمد علي
ألفيت أكثر من ترى يتصدَّق
لكنه فضل المليك عليهم
هذا عليه موسَّع ومضيَّق
- التصنيفات: فقه الزكاة -
الحمد لله رب العالمين ، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ، أرسله ربه بين يدى الساعة هادياً ومبشرا ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً .
أما بعد
فقد اقتضت حكمة الله عزوجل تقسيم خلقه إلى أغنياء وفقراء ، هذا موسَّعٌ عليه فى الرزق ، وهذا مضيق عليه , قال صالح بن عبد القدوس :
والناس فى طلب المعاش وإنما
بالجد يرزق منهم من يُرزَق
لو يرزقون الناس حسب عقولهم
ألفيت أكثر من ترى يتصدَّق
لكنه فضل المليك عليهم
هذا عليه موسَّع ومضيَّق
فالله عزوجل قد فاوت بين خلقه فى الرزق ليبلوَ الأغنياء ، كيف سيفعلون فى أموالهم ، هل سيأسى الغنى إذا رأى فقيراً يتلوَّى من الجوع ، يُلصق كبده بالأرض من المسغبة ، لا يجد ثمن دواء لمرض أقعده عن السَّعى على من يعول ، ولا يملك ما يعطيه لطبيب يكشف له سبب ألمه ، أم أن الغنى سينطلق وكأنَّ شيئا لا يعنيه ، يهزُّ كتفيه ، وينظر فى عطفيه ، وكأنه لم ير شيئا ذا بال .
إن الغنى حينما يفعل ذلك ينحدر إلى مرتبة أحطَّ من مرتبة البهائم العجماوات ، ذلك أن البهائم فيها من الرحمة ما يجعلها تحنوا على بعضها ، ولقد بيَّن النبى ﷺ ذلك فقال فيما رواه البخارى ومسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : «جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً ، وأنزل فى الأرض جزءاً واحداً ، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق ، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه» .
فقد بين النبى ﷺ أن الله أودع فى قلوب البهائم ما يجعلها تخشى من إصابة أولادها بالأذى ، فكيف ببنى آدم إذا رأيناهم لا يتأثرون بمناظر البؤس والحرمان ، ولا يسعون فى إزالة كرب المكروبين ، وآلام المتألمين ، إنهم ولا شك أحط رتبة من البهائم .
إنَّ المؤمن الحق ، بل الإنسان الحق أياًّ كان دينه لا يستطيع أن يرى مناظر البؤس والحرمان ثم لا يتأثر قلبه ، ولا تدمع عينه ، وحين يفعل ذلك يكون قد خلع ربقة الآدمية من عنقه ، وانحط إلى دركة أقل من دركات البهائم .
تذكر النوار زوجة حاتم الطائى شيئا من حال حاتم فتقول :
أصابتنا سنة اقشعرت لها الأرض ، واغبرَّ لها أفق السماء ، وراحت الإبل حدباً حدابير ، وضنَّت المراضع عن أولادها فما تبضُّ بقطرة ، وجلفت السنة المال ، وأيقنا أنه الهلاك ، فوالله إنى لفى ليلة صنَّبر ، بعيدة مابين الطرفين ، إذ تضاغى الأصبية من الجوع ، عبدالله وعدى وسفانة ، فقام حاتم إلى الصبيين ، وقمت إلى الصبيَّة ، فوالله ماسكنوا إلا بعد هدأة من الليل ، ثم ناموا ونمت أنا معه ، وأقبل يعللنى بالحديث ، فعرفت مايريد فتناومت ، فلما تهورت النجوم إذا شئ قد رفع كسر البيت فقال : من هذا ؟ فولى ثم عاد ، فقال : من هذا ؟ فولى ثم عاد آخر الليل ، فقال : من هذا ؟ فقالت : جارتك فلانة ، أتيتك من عند صبية يتعاوون عواء الذئاب من الجوع ، فما وجدت معولا إلا عليك اباعدى ، فقال : والله لأشبعنهم ، فقلت من أين ؟ قال : لاعليك ، فقال : أعجليهم فقد أشبعك الله وإياهم ، فأقبلت المرأة تحمل ابنين ويمشى جانبها أربعة ، كأنها نعامة حولها رئالها ، فقام إلى فرسه فوجأ لبتها بمديته ، فخر ،ثم كشطه ، ودفع المدية إلى المرأة فقال : شأنك الآن ، فاجتمعنا على اللحم ، فقال : سوأة ، تأكلون دون الصرم ؟ ثم جعل يأتيهم بيتا بيتا ، ويقول : هبوا أيها القوم ، عليكم بالنار ، فاجتمعوا ، والتفع بثوبه ناحية ينظر إلينا لا والله ماذاق منه مزعة ، وإنه لأحوج إليه منا ، فأصبحنا وما على الأرض من الفرس إلا عظم ، أو حافر .
أرأيتم
ألم أقل لكم إن الإنسان الحق أياًّ كان دينه يأسى لما يصيب إخوانه ، ويحزن لما أصابهم من فاقة ومسغبة ، ويسعى فى إدخال السرور عليهم .
ها هو حاتم الطائى ، لم يُدرك الإسلام ، ولم تتنعم عينه برؤية خير الأنام ، ولم تتشنف أذنه بسماع أطيب الكلام ، لكنها الإنسانية ، الإنسانية وفقط ، التى جعلت حاتما يسعى لرسم البسمة على الوجوه الحزينة ، وإزالة الجوع عن الأبدان المعذبة ، إنها الإنسانية ، ماحلَّت قلباً إلا ملأته بالرحمة ، وما خلا منها قلب إلا غدا خراباً تنعق فيه البوم ، وتصيح فيه الغربان .
إن الإسلام قد عنى بالمجتمع الإنسانى ، وعلاج مشكلاته وأدوائه ، وذلك لأنه دين إنسانى ، جاء بتكريم الإنسان ، ففيه تتعانق المعانى الروحية والمعانى الإنسانية جنباً إلى جنب .
والإسلام لا يتصور الإنسان فرداً منقطعا فى فلاة ، أو منعزلا فى كهف أو دير ، بل يتصوَّره دائما فى مجتمع يتأثر به ويؤثر فيه، ويعطيه كما يأخذ منه، لهذا خاطب الله عزوجل بالتكاليف الجماعة المؤمنة ،لا الفرد المؤمن{يأيها الذين ءامنوا } وكانت مناجاة المؤمن فى صلاته {إياك نعبد وإياك نستعين} .
وإذا كان الإسلام قد عنى بالمجتمع كله ، فقد عنى عناية خاصة بالفئات الضعيفة ، كالفقراء واليتامى والمساكين ، وذلك لأن كل واحد من هذه الأصناف يشكوا ضعفا فى ناحية ، فاليتيم ضعفه من فقد الأب ، والمسكين ضعفه من فقد المال ، وإذا كانت بعض المجتمعات تهمل هذه الفئات الضعيفة ، ولا تلقى لها بالاً ، ولا تكاد تعترف لها بحق ، لأنها لا تُرجى ولا تُخشى ، وليس بيدها مقاليد السلطان ، فإن رسول الإسلام ﷺ قد نبَّه على قيمة هذه الفئات ومكانها فى المجتمع ، فهى عدة النصر فى الحرب ، وصانعة الإنتاج فى السِّلم ، فبجهادها وإخلاصها يتنزَّل نصر الله على الأمَّة كلها ، وبجهودها وكدحها فى سبيل الإنتاج يتوفر الرزق لها .
وإلى هذه الحقيقة يشير حديث النبى ﷺ لسعد بن أبى وقاص فيما رواه الإمام البخارى«هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم».
ومن هنا حرص الإسلام على أن تكون هذه الفئات مستريحة فى حياتها ، مطمئنة إلى أنَّ معيشتها مكفولة ، بحيث يجب أن يوفَّر لكل فرد فيها مايضمن له عيشة كريمة ، وجعل لذلك فريضة معينة ، بل ركنا من أركان الإسلام ، لا يقوم الإسلام إلا به ، هذا الركن الأساسى هو الزكاة .
وقد فرضت الزكاة فى السنة الثانية للهجرة ، وقد قيل إنها فرضت فى مكة لكن تحديد أنصبائها ومقاديرها إنما كان بالمدينة بعد فرض الصيام ، وقد بيَّن النبى ﷺ فرضية الزكاة فى أحاديث كثيرة منها حديث ابن عمر المتفق عليه أن النبى ﷺ قال «بنى الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت لمن استطاع غليه سبيلا » .
فأعلن رسول الله فى هذا الحديث أركان الإسلام فبدأها بالشهادتين ، وثنى بالصلاة ، وثلث بالزكاة ، وفى ذلك بيان عظيم لأهميتها .
وقد حذر النبى ﷺ من منعها فقال فيما رواه البخارى عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته ، مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان ، يطوقه يوم القيامة ، ثم يأخذ بلهزمتيه ( يعنى شدقيه ) ثم يقول : أنا مالك ، أنا كنزك ، ثم تلا النبى صلى الله عليه وسلم الآية» {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة}
وروى مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدى حقها إلا جعلت له يوم القيامة صفائح ، ثم أحمى عليها فى نار جهنم ، فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره ، فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله ، إما إلى الجنة وإما إلى النار » ....الحديث.
ولم تقف السنة النبوية عند العقوبة الأخروية لمانع الزكاة ، وإنما هددت بالعقوبة الدنيوية القدرية والشرعية كل من يبخل بحق الله وحق الفقير فى ماله ، فقال صلى الله عليه وسلم : ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين رواه الطبرانى فى الأوسط .
والسنين : جمع سنة وهى المجاعة والقحط .
وفى حديث آخر يقول النبى ﷺ : «ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ، ولولا البهائم لم يمطروا» [رواه ابن ماجة والبزار من حديث ابن عمر رضى الله عنهما] [] .
وأما العقوبة الشرعية فقد قال ﷺ فى الزكاة ( «من أعطاها مؤتجرا فله أجره ، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله ، عزمة من عزمات ربنا ، لايحل لآل محمد منها شئ» ) [رواه الإمام أحمد والنسائى من حديث معاوية بن حيدة رضى الله عنه] .
ولم يقف الإسلام عند عقوبة مانع الزكاة بالغرامة المالية ، أو بغيرها من العقوبات التعزيرية ، بل أوجب إعلان الحرب على مانعى الزكاة ، إذا كانوا ذوى شوكة ، قال ﷺ : ( «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله » ) [رواه البخارى ومسلم عن ابن عمر] .
وللزكاة أهداف سامية إضافة إلى كونها ركنا من أركان الإسلام ، وقربة يتقرب بها المسلم إلى ربه سبحانه وتعالى ،
هذه الأهداف بعضها خاص بالمعطى وبعضها خاص بالآخذ ،وبعضها عام للمجتمع .
فمن أهداف الزكاة بالنسبة للمعطى أنها تطهر المزكى من الشح الذى أحضرته الأنفس ، وابتلى به الإنسان ، فقد شاء الله عزوجل أن يغرس فى الإنسان مجموعة من الدوافع النفسية والغرائز تسوقه سوقا إلى السعى فى الأرض وعمارتها ، منها حب التملك وحب البقاء ، وكان من أثر هذه الغرائز شح الإنسان بما فى يده ، ( {وكان الإنسان قتورا} ) [الإسراء 1] 00
فالزكاة تطهر صاحبها من خبث البخل المهلك ، وإنما طهارته بقدر بذله ، وفرحه بإخراجه .
والزكاة كما تحقق معنى التطهير للنفس ، تحقق التحرير لها من ذل العبودية للمال ، والتعلق بالدينار والدرهم ، فإن الإسلام يحرص على أن يكون الإنسان عبدا لله وحده ، متحررا من الخضوع لأى شئ سواه .
والزكاة تدريب على الإنفاق والبذل ، فللعادة أثرها العميق فى توجيه سلوك الإنسان ، والمسلم الذى يتعود الإنفاق والبذل يصبح الإنفاق عنده صفة أصيلة من صفاته ، وخلقا عريقا من أخلاقه .
والزكاة شكر لنعمة الله
فالزكاة توقظ فى نفس معطيها معنى الشكر لله ، والإعتراف بفضله وإحسانه ، فإن لله عزوجل – كما قال الإمام الغزالى رحمه الله – نعمة على عبده فى نفسه وماله ، فالعبادات البدنية شكر لنعمة البدن ، والمالية شكر لنعمة المال ، وما أخس من ينظر إلى الفقير وقد ضيق عليه الرزق وأحوج إليه ، ثم لا تسمح نفسه بشكر نعمة الله على إعفائه من السؤال ، وإحواج غيره إليه بربع العشر أو العشر من ماله . الإحياء ج1ص193
والزكاة علاج للقلب من حب الدنيا
فإن الإستغراق فى حب الدنيا يقطع القلب عن حب الله والسير إليه ، فاقتضت حكمة الله عزوجل تكليف مالك المال بإخراج جزء منه كسرا لشدة الميل إلى المال ، ومنعا من انصراف النفس بالكلية إليه ، وتنبيها على أن السعادة لاتحصل بانشغال النفس بطلب المال ، وإنما تحصل بإسعاد الآخرين ، ورسم البسمة على وجوههم .
إن المال فى نظر الإسلام نعمة وخير ، لكنه خير يبتلى به الإنسان ، كما يبتلى بالشر ، قال تعالى {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء 35]
والسعيد من اعتبر نفسه أمينا على المال ، ومستخلفا فيه ، فأنفقه حيث أمره الله ، قال تعالى {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} [الحديد 6]
والزكاة مجلبة للمحبة
فالزكاة تربط بين الغنى والفقير برباط متين ، سداه المحبة ، ولحمته الإخاء ،فإن الناس إذا علموا فى الإنسان رغبته فى نفعهم ، وسعيه فى جلب الخير لهم ، أحبوه ، ومالت قلوبهم إليه ، ففى الأثر (جبلت القلوب على حب من أحسن إليها )رواه أبو نعيم فى الحلية .
والزكاة تطهير للمال
فإنَّ تعلق حق الغير بالمال يجعله ملوثا ، لا يطهر إلا بإخراجها منه ، وفى مثل هذا المعنى يقول بعض السلف (الحجر المغصوب فى الدار رهن بخرابها ) وكذلك الدرهم الذى استحقه الفقير فى المال رهن بتلويثه كله ، ولهذا يقول ﷺ «إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره» رواه ابن خزيمة .
والزكاة نماء للمال
فالزكاة وإن كانت فى ظاهرها تنقص المال ، إلا أن هذا القدر القليل الذى يدفعه الغنى يعود عليه أضعافا من حيث يدرى أو لايدرى .
فإن المؤمن يعلم أن الله عزوجل بيده خزائن السموات والأرض ، وهو مالك كل شئ ، وقد وعد الله عزوجل المنفقين بالخلف ، فقال سبحانه : ( {وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه وهو خير الرازقين } ) [سبأ39]
ثم إن الجزء الذى يؤخذ من مال المسلم فى كل حول يكون دافعا له لتثمير ماله ، ليعوض النقص الذى نتج عن أداء الزكاة ، وهذا التثمير يعود على رب المال بأضعاف ما أُخذ منه .
وأما بالنسبة للآخذ
فإن الزكاة تحرر آخذها من ذل الحاجة
إن الإسلام يريد للناس أن يحيوا حياة طيبة ، ينعموا فيها بالعيش الرغد ، ويحسوا بالسعادة تغمر جوانحهم ، والشعور بنعمة الله يملأ عليهم أنفسهم وحياتهم .
إن الإسلام يحب للناس أن يسعدوا بالغنى ، ويكره لهم أن يشقوا بالفقر ، وتشتد كراهيته للفقر إذا كان ناشئا عن سوء توزيع الثروة وتظالم المجتمع ، وبغى بعضه على بعض .
وليس أدل على حب الإسلام للغنى وكراهيته للفقر من أن الله تعالى امتن على رسوله بالغنى ، فقال سبحانه ( { ووجدك عائلا فأغنى} ) [الضحى 8]
وامتن الله على المسلمين بعد الهجرة فقال ( {فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون } ) [الأنفال 26]
وكان من دعاء النبى ﷺ ( «اللهم إنى أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى» ) رواه مسلم عن ابن مسعود .
ومن هنا فرض الله الزكاة وجعلها من دعائم الإسلام ليحرر الفقير من ذل الحاجة ، وليتفرغ لعبادة ربه ، ويشارك فى نهضة مجتمعه .
والزكاة تطهير لنفس الفقير من الحسد والبغضاء
فإن الإنسان إذا عضته أنياب الفقر ، ودهته داهية الحاجة ، ورأى من حوله ينعمون بالخير ، ولا يمدون له يد العون ، بل يتركونه لمخالب الفقر وأنيابه ، لايسلم هذا الإنسان من البغضاء ، والحقد على المجتمع الظالم ، الذى لم يأس لحزنه ، ولم يسع لإزالة أسباب تعاسته .
إن الحسد والبغضاء داء فتاك ، وآفة قاتلة ، متى ماتفشت فى مجتمع تقطعت فيه أواصر الرحم ، ونزعت منه الرحمة ، وساد التقاطع والتدابر ، بل وانتشر القتل والنهب وسفك الدماء .
لهذا شرعت الزكاة ليحس الفقير بحب الغنى له ، وسعيه فيما ينفعه ، فتحل المحبة فى قلوب الفقراء للساعين فى سعادتهم من الأغنياء ، ويصبحون حرسا لمال الأغنياء لأنه سبب لنعمتهم وسعادتهم .
أهداف الزكاة وآثارها فى المجتمع
فمن هذه الأهداف أنها تحىى قيمة الضمان الإجتماعى
إن الزكاة جزء من التكافل الإجتماعى فى الإسلام ، ذلك التكافل الذى لم يعرفه الغرب إلا فى حدود ضيقة ، هى دائرة التكافل المعيشى بمساعدة الفئات العاجزة والفقيرة ، وعرفه الإسلام فى دائرة أعمق وأوسع .
إن الذين يؤدون الزكاة هذا العام قد يصبحون فقراء فى العام القادم بنقص ما فى أيديهم عن حاجاتهم الأساسية ، أو حلول كوارث تجعلهم يستدينون فيصبحون من الغارمين ، أو يتعرضون لسفر بعيد فيصبحون من أبناء السبيل ، فيعطون من الزكاة ، فكأنهم حينما أعطوا فى العام الماضى حفظت أموالهم لهم لحين حاجتهم إليها ، وهذه صورة من صور الضمان الإجتماعى .
ومن أهداف الزكاة
إحداث التوازن المجتمعى
فليس هدف الزكاة قاصرا على محاربة الفقر ، ولكن من أهداف الزكاة توسيع قاعدة التملك ، وتكثير عدد الملاك ، وتحويل أكبر عدد من الفقراء المعوزين إلى أغنياء مالكين لما يكفيهم .
ذلك أن من أهداف الزكاة إغناء الفقير قدر المستطاع ، وإخراجه من دائرة الحاجة إلى دائرة الكفاية الدائمة .
ومن هنا يعمل الإسلام على عدالة التوزيع ، وتقارب الملكيات فى المجتمع ، وهو بنظام الزكاة يعمل على إعادة التوازن ، وتقريب المستويات بعضها من بعض ، كما نص على ذلك كتاب الله ، قال تعالى ( {كى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم } ) [الحشر 7]
وإذا كان الإسلام قد أقر التفاوت بين الناس فى المعايش والأرزاق ، لأنه بلا شك نتيجة حتمية لتفاوت الناس فى المواهب والملكات ، فليس معنى ذلك أن يدع الإسلام الغنى يزداد غنى ، والفقير يزداد فقرا ، فتتسع الشقة بين الفريقين ، ويصبح الأغنياء طبقة كتب لها أن تعيش فى أبراج من العاج تتوارث النعيم ، ويمسى الفقراء طبقة كتب عليها أن تموت فى أكواخ من البؤس والحرمان .
بل تدخَّل الإسلام بتشريعه للزكاة لتقريب المسافة بين هؤلاء وأولئك ، فعمل على الحد من طغيان الأغنياء ، والرفع من مستوى الفقراء .
إن أعظم آفة تصيب المجتمع وتهز كيانه هزا ، وتنخر فى عظامه ، أن يوجد الثراء الفاحش إلى جانب الفقر المدقع ، أن يوجد من يملك القناطير المقنطرة ، ومن لا يملك قوت يومه ، أن يوجد من يضع يده على بطنه يشكوا التخمة ، وبجواره من يضع يده على بطنه يشكوا عضة الجوع .
يقول الأديب الكبير مصطفى لطفى المنفلوطى معبرا عن هذه الحالة :
مررت ليلة أمس برجل بائس فرأيته واضعا يده على بطنه كأنما يشكوا ألما ، فرثيت لحاله وسألته : ما باله ؟ فشكا إلى الجوع ، ففثأته عنه ببعض ما قدرت عليه ، ثم تركته وذهبت إلى زيارة صديق لى من أرباب الثراء والنعمة ، فأدهشنى أنى رأيته واضعا يده على بطنه ، وأنه يشكوا من الألم ما يشكوا ذلك البائس الفقير ، فسألته عما به فشكا إلى البطنة ، فقلت يا للعجب لو أعطى ذلك الغنى ذلك الفقير ما فضل عن حاجته من الطعام ما شكا واحد منهما سقما ولا ألما .
وصدق المنفلوطى رحمه الله .
وما دعى إليه هو بعينه ما دعى إليه الإسلام من عدم التفاوت الشاسع بين طبقات المجتمع ، وأقل ما يطمح إليه الإسلام هو أن تختفى الفئة التى لا تجد ما يسد رمقها ويشبع جوعتها ويوارى سوأتها ، ولا يبقى إلا الفئتان المتقاربتان بعد أن ترتفع تلك الفئة لتكون قريبة من أعلى الفئات وأغناها وأوسعها ثراء.
فالإسلام يحرص على إزالة الفوارق وتحقيق التوازن قدر المستطاع ، حتى لا يبقى غنى يعيش فوق الثُّريا وفقير يتلوى فوق الثرى .
لذلك شرعت الزكاة لإحداث التقارب بين فئات المجتمع ، ويوم أن تطبق الزكاة تطبيقا صحيحا ، ويوم أن يؤدى كل غنى ما عليه من زكاة سيبقى إسم الفقر أثرا بعد عين ، وسيوجد جيل يقرأ اسم الفقر فى الكتب ولا يعرف معناه لأنه لم ير من ينطبق عليه هذا الوصف .
ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا .
أسأل الله أن يعلمنا وإياكم ما ينفعنا ، وأن ينفعنا بما علمنا ، وأن يجعل ما قلناه وما علمناه زادا إلى حسن المصير غليه وعتادا إلى يمن القدوم عليه ، إنه بكل جميل كفيل ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم
كتبه
المعتز بالله الكامل