وفاة النبي صلى الله عليه وسلم

خالد سعد النجار

فأصغتْ إليه عائشةُ -رضي الله عنها- وهو يقول: «مع الذين أنعمتَ عليهم من النبيين والصِّديقين والشهداء والصالحين » وفي رواية: «اللهم اغفر لي، وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى»

  • التصنيفات: السيرة النبوية -

بسم الله الرحمن الرحيم

روى الإمامان أحمد ومسلم عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: " «لَمْ يَخْرُجْ إِلَيْنَا نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا [أي ثلاثة أيام، وكان ابتداؤها من حين خرج عليه الصلاة والسلام فصلّى بهم قاعدًا]، وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ يَتَقَدَّمُ، فَقَالَ [أي أخذ] النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجَابِ فَرَفَعَهُ [الذي على الحجرة]، فَلَمَّا وَضَحَ لَنَا [ظهر] وَجْهُ نَّبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا نَظَرْنَا مَنْظَرًا قَطُّ كَانَ أَعْجَبَ إِلَيْنَا مِنْ وَجْهِ نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ وَضَحَ لَنَا، فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ: أَنْ يَتَقَدَّمَ، وَأَرْخَى نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِجَابَ، فَلَمْ  نَقْدِرْ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ» "

 

في الصحيحين عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: «صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قتلى أحد بعد ثمان سنين صلاته على الميت كالمودع للأحياء والأصوات ثم انصرف إلى المنبر فقال: (إني فرطكم، وإني شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني والله لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها)»

وقال -صلى الله عليه وسلم-: «(إني أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع) فلما وقف بين أظهرهم قال: (السلام عليكم يا أهل البقيع، ليهن لكم ما أصبحتم فيه، لو تعلمون ما أنجاكم الله منه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أولها آخرها)»

 

** بداية المرض.. في اليوم التاسع والعشرين من شهر صفر سنة 11هـ، وكان يوم الاثنين، شهِد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جنازة في البقيع، فلما رجع وهو في الطريق أخذه صُداع في رأسه، واتَّقدت الحرارة، حتى إنهم يَجِدون سورتها فوق العصابة التي يَعصِب بها رأسه.

قالت عائشة -رضي الله عنها-: «رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم– من البقيع فوجدني أجد صداعًا في رأسي وأقول: وارأساه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (بل أنا والله يا عائشة وارأساه) »

وقد صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالناس وهو مريض أحد عشر يومًا، وجميع أيام المرض كانت ثلاثة عشر أو أربعة عشر يومًا.

 

** الأسبوع الأخير .. ثَقُل برسول الله -صلى الله عليه وسلم- المرض، فجعل يسأل أزواجه: يقول: «(أين أنا غدًا، أين أنا غدًا؟)» ؛ يريد يوم عائشة، فأذِنَ له أزواجه يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها

وكانت عائشة تقرأ بالمعوِّذات والأدعية التي حفِظتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكانت تَنفُث على نفسه، وتمسحه بيده رجاء البركة.

 

** قبل الوفاة بخمسة أيام .. يوم الأربعاء، اتَّقدت حرارة العِلَّة في بدنه، فاشتدَّ به الوجع، وأغمي عليه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (صُبُّوا عليَّ سبع قِرَبٍ من سبع آبار شتى، حتى أخرج إلى الناس فأعهَد إليهم)، قالت: فأقعدناه في مِخضَب لحفصة، فصببنا عليه الماء صبًّا

وعند ذلك أَحَس بخِفة، فدخل المسجد -وهو معصوب الرأس- حتى جلس على المنبر وخطب الناس -والناس مجتمِعون حوله- فقال: (لعنة الله على اليهود والنصارى، اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد) .. يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا

وقال -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبَد)

ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، وعاد لمقالته الأُولى في الشحناء وغيرها، ثم أوصى بالأنصار قائلاً: (أوصيكم بالأنصار، فإنهم كَرِشِي وعَيْبَتِي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبَلوا من مُحسِنهم، وتَجاوَزوا عن مسيئهم)

[كَرِشِي وعَيْبَتِي: أي جماعتي وخاصتي الذين أثق بهم وأعتمدهم في أموري،، قال الخطابي: ضرب مثلا بالكرش لأنه مستقر غذاء الحيوان الذي يكون به بقاؤه، والعيبة وعاء معروف أكبر من المخلاة يحفظ الإنسان به ثيابه]

وفي رواية أنه قال: (إن الناس يَكثُرون وتَقِل الأنصار، حتى يكونوا كالمِلْح في الطعام، فمن وَلِي منكم أمرًا يَضرُّ فيه أحدًا أو ينفعه فليقبَل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم)

وعن أبي سعيد الخدري قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «(إن الله خيَّر عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله)، قال: فبكى أبو بكر، فعجِبنا لبكائه أن يُخبِر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عبد خُيِّر، فكان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- هو المُخيَّرَ، وكان أبو بكر أعلمَنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن مِن أَمَنِّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنتُ متَّخِذًا خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوَّة الإسلام ومودته، لا يَبقين في المسجد باب إلا سُدَّ إلا باب أبي بكر)»

 

** قبل الوفاة بأربعة أيام.. يوم الخميس، قال صلى الله عليه وسلم-وقد اشتدَّ به الوجع-: «(هلم أكتب لكم كتابًا لن تَضِلوا بعده)، قال عمر: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- غلبه الوجَع، وعندكم القرآن، فحسبنا كتاب الله، واختلف أهل البيت واختَصَموا، فمنهم من يقول: قرِّبوا يكتب لكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتابًا لن تضِلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (قوموا عني)»

وأوصى ذلك اليوم بثلاث، قال: أخرِجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنتُ أُجيزهم، قال الراوي: نسيتُ الثالثة

ولعله الوصيَّة بالاعتصام بالكتاب والسنة، أو إنفاذ جيش أسامة، أو هي الصلاة وما ملَكت أيمانكم.

وقوله: (وأجيزوا الوفد بنحو ما كنتُ أُجيزهم) قال العلماء هذا أمر منه صلى الله عليه و سلم بإجازة لوعود وضيافتهم وإكرامهم تطبيبا لنفوسهم وترغيبا لغيرهم من المؤلفة قلوبهم ونحوهم وإعانة على سفرهم.

وفي رواية ولما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم – طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا أغتم كشفها عن وجهه وقال: «(لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) » يحذر مما صنعوا، وفي رواية يحرم ذلك على أمته، قالت عائشة -رضي الله عنها-: ولولا خشية أن يتخذ قبره مسجدًا لأبرز، وأوصى بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، وسكت عن الثالثة. وقال -صلى الله عليه وسلم-: «(مروا أبا بكر فليصل بالناس وجعل يقول وهو يجود بنفسه: الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)»

والنبي -صلى الله عليه وسلم- مع ما كان به من شدة المرض كان يُصلي بالناس جميع صلواتِه حتى ذلك اليوم [يوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام]؛ فعن أم الفضل بنت الحارث قالت: سمعتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفًا، ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبَضه الله

 

** ثم ثَقُل المرض، بحيث لم يستطع الخروج إلى المسجد، وتروي لنا أمنا عائشة ذلك؛ حيث قالت: ثَقُل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (أصلَّى الناس؟)، قلنا: لا، هم ينتظرونك، قال: (ضعوا لي ماء في المخضَب)، قالت: ففعلنا، فاغتسل فذهب لينوء فأُغمي عليه، ثم أفاق، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (أصلى الناس؟)، قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: (ضعوا لي ماء في المخضب) قالت: فقعد فاغتسَل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: (أصلى الناس؟)، قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، فقال: (ضعوا لي ماء في المِخضَب)، فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: (أصلى الناس؟)، فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، والناس عكوف في المسجد ينتظرون النبيَّ لصلاة العشاء الآخرة، فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر بأن يُصلي بالناس، فأتاه الرسول فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرك أن تُصلِّي بالناس، فقال أبو بكر وكان رجلاً رقيقًا: "يا عمر، صل بالناس"، فقال له عمر: أنت أحق بذلك، فصلى أبو بكر تلك الأيام، ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- وجد من نفسه خِفَّة فخرج بين رجلين، أحدهما العباس لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخَّر، فأومأ إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بألا يتأخَّر قال: (أجلِساني إلى جنبه، فأجلساه إلى جنبِ أبي بكر، قال فجعل أبو بكر يُصلي وهو يأتمُّ بصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- والناس بصلاة أبي بكر، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قاعد


وجاء في بعض ألفاظ الرواية أن أمنا عائشة - رضي الله عنها - راجعتْه فقالت: إن أبا بكر رجل أسيف، إن يَقُم مقامك يبكي، فلا يَقدِر على القراءة، فقال: (مُروا أبا بكرٍ فليصلِّ)، فقلتُ مثله، فقال في الثالثة أو الرابعة: (إنكن صواحب يوسف، مُروا أبا بكر فليصلِّ) فصلى


** قبل يوم من الوفاة .. يوم الأحد، أعتَقَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -غِلمانه، وتصدَّق بسبعة دنانير كانت عنده، ووهَب للمسلمين أسلحتَه، وفي الليل استعارتْ عائشة الزيت للمصباح من جارتها، توفِّي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودِرْعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من شعير.

 

** آخر يوم .. يروي لنا ذلك أنس بن مالك -رضي الله عنه- فيقول: إن المسلمين بينا هم في صلاة الفجر من يوم الاثنين وأبو بكر يُصلِّي لهم لم يفجأهم إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد كشف سِترَ حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسَّم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليَصِل الصفَّ، وظنَّ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يخرج إلى الصلاة، فقال أنس: وهَمَّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأشار إليهم بيده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أن أتمُّوا صلاتَكم، ثم دخل الحجرة، وأرخى السِّتر)

ثم لم يأتِ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت صلاة أخرى.

 

ولما ارتفع الضحى، دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- فاطمة ابنته في شكواه الذي قُبِض فيه، فسارَّها بشيء فبكت ثم دعاها فسارَّها فضحِكتْ، قالت: فسألتها عن ذلك، فقالت: سارَّني النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبرني أنه يُقبَض في وجعه الذي تُوفِّي فيه فبكيت، ثم سارَّني، فأخبرني أني أول أهل بيته أتبَعه فضحِكت، وبشَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- فاطمة قال: (يا فاطمة، ألا تَرضينَ أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة)

ولما ثَقُل النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل يتغشَّاه، فقالت فاطمة -رضي الله عنها-: واكرب أبتاه، فقال لها: (ليس على أبيك كرْبٌ بعد اليوم)، ودعا الحسن والحسين فقبَّلهما، وأوصى بهما خيرًا، ودعا أزواجه فوعظَهن وذكَّرهن.

وطفِق الوجع يشتدُّ ويَزيد، وقد ظهر أثر السم الذي أكله بخيبر حتى كان يقول: (يا عائشة، إني أجد ألمَ الطعام الذي أكلته بخيبر، فهذا أوان انقطاع أَبْهَرِي من ذلك السم)

 

** الاحتضار .. وبدأ الاحتضار فأسندتْه عائشة إليها، وكانت تقول: إن من نِعَم الله عليَّ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توفِّي في بيتي وفي يومي وبين سَحْري ونَحْري، وأن الله جمَع بين ريقي وريقه عند موته، دخل عليَّ عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده السواك، وأنا مُسنِدة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أنْ نعم، فتناولتُه فاشتدَّ عليه، وقلت: أُليِّنه لك؟ فأشار برأسه أنْ نَعم، فليَّنتُه فأمرَّه وبين يديه رِكوة فيها ماء، فجعل يُدخل يديه في الماء فيمسح بها وجه، يقول: (لا إله إلا الله، إن للموت سكرات)، ثم نَصَب يده، فجعل يقول: «(في الرفيق الأعلى حتى قُبِض ومالت)»

وفي رواية: وما عدا أن فرَغ من السواك حتى رفع يده أو إصبعه، وشخص بصره نحو السقف، وتحرَّكت شفتاه، فأصغتْ إليه عائشةُ -رضي الله عنها- وهو يقول: «(مع الذين أنعمتَ عليهم من النبيين والصِّديقين والشهداء والصالحين) » وفي رواية: «(اللهم اغفر لي، وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى)» ، كرَّر الكلمة الأخيرة ثلاثًا، ومالت يده، ولحِق بالرفيق الأعلى، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وتوفي -صلى الله عليه وسلم- قد تمَّ له ثلاث وستون سنة

وقالت ابنته فاطمة - رضي الله عنها -: يا أبتاه، أجاب ربًّا دعاه، يا أبتاه، مَن جَنَّة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه، فلما دُفِن، قالت: يا أنس، أطابتْ أنفسُكم أن تَحْثوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التراب

tاللهم اجزِه عنَّا خير ما جزيت نبيًّا عن أمته، ورسولاً عن قومه، وآتِه الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته.

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]