الرأي الدبري

محمد بن إبراهيم الحمد

الرأي الدَّبَرِيُّ. أهل السير والأخلاق يقسمون الآراء باعتبارات. ومن ذلك تقسيمهم لها إلى ثلاثة: الرأي الخمير، والرأي الفطير، والرأي الدبير

  • التصنيفات: محاسن الأخلاق -

يتمايز الناس في عقولهم، وأذواقهم، وأخلاقهم بحسب ما أعطاهم الله من ذلك.  ومما يظهر به هذا التمايز ما يصدر عنهم من آراء سواء كانت مبادراتٍ منهم، أو نتيجةً لاستشارتهم في أي شأن من الشؤون. وأهل السير والأخلاق يقسمون الآراء باعتبارات.  ومن ذلك تقسيمهم لها إلى ثلاثة: الرأي الخمير، والرأي الفطير، والرأي الدبير _ ويقال له: الدَّبَرِي _.

فأما الرأي الخمير فهو الرأي الأصيل السديد الذي يصدر عن رزانة، وحصافة، ونصح، وشهامة خاطر، وجزالة مروءة.

وهو الرأي الناضج الذي تخمَّر  في عقل صاحبه، فقلَّبه ظهراً لبطن، وصار فيه حُوَّلاً قُلَّباً يديره من جميع النواحي، وينظر من خلاله إلى كافة الاحتمالات؛ فيسد منافس الخلل، ويرفأ منافذ المحاذير؛ فيأتي مستوياً تماماً على الذي أحسن، موافقاً للصواب، مجانباً للزلل([1]).

وأما الرأي الفطير فهو الذي ينقدح في ذهن صاحبه بادي الرأي من غير تدبر، ولا روية، ولا سابق تجربة، أو قياسِ أشباه إلى أشباه؛ فيأتي سريعاً غير ناضج.

وسُمِّيَ فطيراً لأنه كالخبز الذي يؤكل قبل أن يتخمر وينضج؛ فيكون مسبباً للعواقب الوخيمة، وربما يُوْدِي بصاحبه إلى الهلاك.

ولهذا قيل: " لا خير في الكلام القضيب، ولا الرأي الفطير " .  وقيل: " خمير الرأي خير من فطيره " .

وأما الرأي الدبير - وهو ما يسمى كذلك بالرأي الدَّبَرِي - فهو الذي يأتي بعد فوات الأوان؛ إذ هو مأخوذ من دبر الشيء.

والدبر هو آخر كل شيء منه، وما بعد آخره.

وهذا الرأي هو محل الكلام في هذا المقام؛ فالرأيُ الدَّبريُّ رأيٌ يأتي بعد فوات الحاجة إليه بغض النظر عن كونه فطيراً أو خميراً.

وإن كان إلى الفطير أقرب؛ إذ لا يكون من ورائه إلا الحسرة، والضيق، وشدة الأسف.  ولا يصدر -في الغالب- إلا من ذي نفس قلقة، أو مريضة، أو مترددة خائفة.  وهذا النوع من الآراء مذموم ممقوت، ولهذا قالت العرب في أمثالها:      " شَرُّ الرأيِ الدَّبَريُّ ".

وبعض الناس مولعٌ بهذا النوع؛ فتراه من أهل هذا القبيل؛ فإذا وجد فرصةً لإبداء رأيه الدبري بادر إليها سواء طُلب منه ذلك، أو لم يطلب منه.

وهذا الأمر الواقع يأخذ صوراً شتى؛ فمن ذلك أن يقوم إنسان بشراء سلعةٍ ما، أرضاً كانت، أو سيارة، أو ملبوساً، أو مأكولاً، أو ما جرى مجرى ذلك، ثم يقابله بعض أصحابه من ذوي الرأي الدبري؛ فيشرع بإبداء الآراء، ويظهر أن صاحبه لم يُصِبْ في شرائه، وأنه لو بَكَّر، أو تأخر مدة من الزمن لكان خيراً له، وربما وجد هذه السلعة بسعر أقل، أو بجودة أعلى، فَيُشْعِرُ صاحبه بقلة الفهم، وسوء التدبير، ويُمْطر عليه وابلاً من اللوم والتقريع، ويجلب عليه ما يجلب مما يوقعه في الغم، ويلقيه في بئر من الحسرات.

وقد يكون صاحبه استشار، واستخار، ورأى ملاءمة الأمر له، ولكنَّ ذا الرأي الدبري لا يترك عادته.

 

ومن أصحاب الرأي الدبري من لو استشرته في أمرٍ ما، وأنت تريد رأياً يتلاءم مع زمانك، ومكانك - لقال: لو أتيتني قبل يوم أو أسبوع لكان أحسن.  مع أنك لو أتيته في الوقت الذي حَدَّدَه لأجابك بنفس الجواب.

ومن صنيع أهل هذا الصنف -أيضاً- أن بعضهم لو استشير في أمر من الأمور قبل الشروع فيه - لأجاب إجابة مجملة محتملة دون أن يحدد لك رأيه بكل وضوح، وصراحة، أو أن يعتذر لك من كونه لم يحط بذلك الأمر خبراً.  وإنما يجيب بنحو ما ذُكِر؛ لكي يجعل لنفسه مخرجاً، ولأجل ألا يتحمل مغبة الرأي.  فإذا أسفر الأمر عما يسفر عنه؛ فكان السداد في الإقدام، أو الإحجام _ صار يقول: هذا رأيي، وأنا الذي أشرت به سالفاً.

وإن كانت الأخرى؛ فلم يحالفِ المستشيرَ الصوابُ - صار ذلك المستشارُ زارياً، أو عائباً للمستشير، مبدياً له أنه لم يَمِل كل الميل إلى ذلك الرأي، وأن إخفاقه إنما كان بسبب مخالفته لرأيه؛ فتراه يُضْجِر صاحبه بقوله: لقد قلت لك كذا وكذا، ولو أنك أطعتني لما وقعت فيما وقعت فيه.

والشواهد والأمثلة من هذا القبيل كثيرة، وإنما المقصود ههنا الإشارة إلى أن أصحاب الرأي الدبري كثير، وأنهم من سارقي السعادة، وجالبي الهموم، ومُجْتَرِّي المآسي والأحزان.

وفي هؤلاء شبه ممن ذمهم الله - عز وجل - لقولهم: [لَوۡ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٞ مَّا قُتِلۡنَا هَٰهُنَا] آل عمران: 154 .

والذي حذرنا الله من صنيعهم بقوله - جل ثناؤه -: [يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ إِذَا ضَرَبُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَوۡ كَانُواْ غُزّٗى لَّوۡ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ] آل عمران: 156 .

ولقد حذَّرنا النبي" من قول (لو) على سبيل الاعتراض على ما مضى، مما لا يمكن تداركه، وأخبر - عليه الصلاة والسلام - أن (لو) تفتح عمل الشيطان؛ لما تجلبه من الهم والغم. قال الحكيم العربي:

ليت شعري وأين مني ليتُ      إن ليتاً وإن لوًّا عناء
 

والذي تقتضيه الحكمة، والأمانة، والنظر في المآلات _ أن إذا استشير الإنسان أن يبدي الرأي بكل وضوح إذا كان عنده دراية بما استشير به، أو أن يحيل إلى من هو أَسَدُّ منه، أو أن يعتذر إذا لم يكن هذا ولا ذاك. 

وإذا لم يُسْتَشَرْ فليلزم السكينة، والوقار، ولْيَحْتَفِظْ برأيه لنفسه.  وإذا أشار فلا يجوز له أن يُدِلَّ برأيه، أو يَمُنَّ على من استشارة. وإذا أخبره، أو أطلعه أحد من الناس على أمر من أموره التي اختارها أو صنعها من نحو شراء سلعة، أو بناء منزل، أو نحو ذلك - فعليه أن يُظهر الفرح لصاحبه، ويدعو له بالخير، والبركة، وحسن العاقبة.

وعليه -أيضاً- أن يَكُفَّ عن المقترحات التي تضر ولا تنفع، وأن ينأى بنفسه عن إيقاع صاحبه في الحسرة، والندامة؛ ففرق بين رأي تبديه قبل الشروع في أمرٍ ما، وبين أن تبديه بعد الفراغ منه.

 

ثم إن من تمام مروءة الإنسان، وأصالة رأيه، وسعة صدره - أنه ربما أشار برأيٍ ما، ثم خالف المستشيرُ ذلك الرأيَ؛ فجاءت الأمور على غير ما أريد لها، فوقعت الخسارة، أو لم يحصل النُّجحُ في المقاصد؛ فههنا يأتي دور مكارم الأخلاق؛ فإذا كان المشير راسخاً في الفضيلة - لم يُثَرِّب على صاحبه - خصوصاً إذا لم يكن أحمق الطبع، أخرق التدبير-.   وإنما يأخذه بيده، ويذكره بخفاء الخِيْرَةِ؛ فلا يجمع عليه بين الهم والغم، والخيبة وصفر العَيْبة.

بل قد يفتح له وجوهاً مُنْسَدَّةً من الرأي، وأبواباً مغلقة من الصواب؛ فينتج عن ذلك مزيدُ علمٍ، ورجاحةُ عقل، وتحوُّط لما يكون في قابل الأيام.  وهؤلاء العقلاء من ذوي الآراء السديدة، والقلوب الكبيرة، طِرَافٌ سامي الذرا، وكهف يأوي إليه من أصابته لفحة الضيم، أو حسرة الخسارة

 

 

([1]) وقد أشرت إلى ذلك بشيء من البسط في مقالة عنوانها (أصالة الرأي) ضمن كتابي (ارتسامات).