وصية والد لولده

أفضل ما أتركه لك ليس مالًا ترِثه، ولا اسمًا ذا سمعة حسنة، ولكنه ارتباطك بالله، هذه العلاقة التي تخوض بها حياتك كلها، تحارب بها كل أوجه الدنيا السوداء.

  • التصنيفات: تزكية النفس -

سمع أبو عبدالعزيز يومًا أن بعض مَن يعرف قد مات فجأة، في صَبْوَةٍ وغفلة، ولم يتجاوز عمر الشباب، فأطرق طويلًا، ثم قال: إن هذا الأمر إذا أقبل لسريعٌ، لا يُؤذِن أحدًا للاستعداد، ولا يميز بين مُقبِلٍ في السن ومُدبِرٍ، وإن في قلبي لأمورًا وددتُ لو أعلِّمها ابني، فإن لم أقدر بنفسي، أوصلتها بقلمي، فوهبْتُهُ غايةَ ما أعرف، وخلاصة عمري، فكتب:

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى؛ أما بعد:

 

فإن الدنيا تجربة، والعاقل فيها مَن كثُرت تجارِبه، والعمر قليل، ولا يَسَعُ لكل تجربة، ومن نكدِ الدنيا أنه إذا مرت عليك التجارب، واستحكم عقلك، كنت قد كبرت وشِخْتَ، فلا تنفع كنفعها في وقت الصِّبا، ومن شقاء الإنسان أنه لا يسمع من جرَّب، حتى يقع في محذوره فيندم، فهو غارق في الشقاء إلا قليل، وإني لأرجو أن تكون من هذا القليل، يا أحبَّ إليَّ من نفسي.

 

يا بني، الإنسانُ ضعيف بذاته، لا يكاد يقوم بعمل إلا بأسبابٍ ليست من ذاته، ولا يأمن بعد القيام به أن ينتقض، فتقوَّ بقويٍّ في كل حياتك، فمن الناس من يتقوَّى بصاحب منصب أو مال، وقد جربتُ هذا، فلم أَرَهُ يفيد، وضَرَرُهُ يغلب نفعه، والأموال تنفع أحيانًا، ولكنها قد تذهب في جائحة تنزل بك، ولا تدفع عنك بلاء عظيمًا أحيانًا، فلا ينبغي أن يكون توكُّلُكَ عليها، وتكون هي ما تحسن فحسب، ولا بد أن تعرف ضعف الناس لكيلا تتعلق بهم، وتأمل منهم ما هو فوق وُسْعِهم، وإذا عرفتَ أنهم جُبلوا على الطمع والحرص وإيثار أنفسهم، فلا يتعلق قلبك بهم.

 

فإن عرفت ضعفك وضعف الخلق، فلا بد لك من قويٍّ غيرهم تتقوَّى به، فاعرفِ اللهَ والزمه، وارتبط بالله ارتباطًا وثيقًا، تكن أقوى الناس، ليس كعلاقة مألوفة فحسب، أو في ظروف معينة كانقطاع من دونه، بل بكل الأوقات في السراء قبل الضراء، ومحل كل ذلك القلب، احرص على قلبك.

 

أفضل ما أتركه لك ليس مالًا ترِثه، ولا اسمًا ذا سمعة حسنة، ولكنه ارتباطك بالله، هذه العلاقة التي تخوض بها حياتك كلها، تحارب بها كل أوجه الدنيا السوداء.

 

أما المال، فهذا الذي قُتل لأجله الكثير وكفر لأجله كثير، المال قوة عظيمة، فإن وقعت بيد غير صالحة أضرَّها غاية الضرر، فأصلِحْ قلبك أولًا ثم تملك ما شئت، فيكن المال حينئذٍ كما قالوا في يدك لا في قلبك، وهكذا وردت الخيرية: "نعم المال الصالح عند الرجل الصالح".

 

المال غايته أن تُقيمَ حياتك به، ويُعينك على العبادة، وأن تستغنيَ به عن الناس وتساعدهم، فالمال ضرورة لتبقى، وجُنَّةٌ عن الحاجة للناس، ويدٌ لك عليهم، وعاصِمٌ عن كثير من الزَّلَلِ، فاستكثر منه ما استطعت، واستعِنْ على ذلك بالصدقة، فتخيَّر من مالك أطيبه وأنفقه.

 

والمال كذلك شرُّهُ كثير، فإن رُزقتَه فاحذره، وأنا لم أغتنِ قط، ولا أعلم عن شرور الغِنى وفساده في القلوب، ولا أعلم إن كان يصلحني الكثير أم يفسدني، ولكنَّ كثيرًا من حقائق الأمور تكشَّفت لي في غياب المال، وكثيرًا من رِقَّةِ القلب بانت عند فقري وحاجتي، كل علاقتي بالله وعلاقتي بالناس وفهمهم كانت في فقر وحاجة، وأظن أن المال لو أتاني من قبلُ، لَما تجاوزت مرحلة الفجور، فلله الحكمة البالغة في ذلك، وهو الذي قسم، ونحن علينا العمل والاجتهاد، وقلوبنا مطمئنة، تعلم يقينًا أن الواهب الله، ولذلك سلِّم أمرك لله، واسأله خير الغِنى، واستعِذْ به من شره.

 

وأكملُ رجال المال في نظري من إن أصابته جائحة، فأذهبت ماله، اتَّجر واغتنى، إن ذهب لمكان أو كان في ظرف مختلف، اتَّجر واغتنى، لا يُوقِفه عن الاتِّجار بيئة معينة، أو أشخاص يعرفهم.

 

لا تدِنْ أحدًا بمالٍ إلا وأنت مستغنٍ عنه؛ فإن الناس بين جاحد وضعيف، جاحد وخائن، وهذا الأكثر، وضعيف عاجز عن السداد، وهذا الأقل، فإنك إن منحته مالًا تحتاجه ولم يسدد، كان فيه أذيَّتُك، وتقطعت الوصال بينكما، وإذا أردت استبقاء مودة أحد، فلا تعامله بمالٍ قط، ولا تستدِنْ ما استطعت، فإن الدَّيْنَ مذلة، فإن فعلت، فالزم الأبعدَ عنك، والأغنى مالًا.

 

يا بني، إنه مرت عليَّ سنون، كنتُ فيها غافلًا عن الله، ولو قبضني فيها، لكنتُ من أصحاب النار، فقد رحمني الله بأن قضى عليَّ بعض المصائب التي أيقظتني، فهذه منحٌ لا محنٌ، فَسَلِ الله العافيةَ، فإن أتاك ما تكره فهو خير لك، فلا تتسخط، بل ارضَ بما قسمه الله لك، فإنك لا تعلم ما الخير الموجود فيه، فالشر ليس إلى الله، فمن رضيَ فله الرضا، ومن سخط فله السخط.

 

تقبَّل الناس بكل اختلافهم، اعلم أن الاختلاف يسري على الجميع، في العقل والوعي والعلم وغير ذلك، فهذا يعني أن تتقبل نفسك، ولا تُحمِّلْها فوق طاقتها، وتتقبل أصدقاءك وزوجتك وأولادك، تتقبل من تعمل معه أو يعمل عندك، تكن أكرم الناس وأعلاهم، أن تعرف أن وعيهم بالأشياء يختلف، وعلمهم ومدى تقبلهم للعلوم يختلف، تعلم أن لو سكبت العلم في عقول مائة منهم، ما قبلوه كلهم، ولو قبلوه كلهم، ما تساوَوا في إدراكهم العلم والفقه به ثم العمل به، ثم تطبيقه على واقعهم، وكثيرٌ من الناس يُحسن الحفظ والفهم والتنظير، أما في واقعه، فلا يستطيع التطبيق والممارسة، وهو في ذلك إما جاهل بما يفعل، أو عالم ولكن لا عزيمة لديه، ومع ذلك إما أنه يتعذب أو لا يبالي.

 

احرص على تجارِب الذين من قبلك، والقواعد التي وضعها الناس، ولا تتمسك بها طوال عمرك، بل هي تضعك على بداية الطريق، ثم لا بد أن تُبدع وتنطلق، وسماع التجارب لا يقتصر على كبار السن، بل حتى من الأطفال، وممن هم دونك أو من المجانين، فتعلم الإنصات لكل شيء.

 

تعلم العربية، اقرأ في الأشعار والنثر، هؤلاء أسلافك، وأنت امتدادٌ لهم، هؤلاء عباقرة وعمالقة ربما أساء بعضهم تصويرهم، أو رموهم بالسوء وهم أكبر من ذلك، ستجد أنك أبحرت في عقول عظيمة، وأخذت حِكَمًا كبيرة لو مكثتَ عمرك كله لم تأتِ بمثلها، فلا يفُتْكَ هذا الكنز الذي انبهر به عَجَمُ الناس قبل عربهم، من ذاقه لم يَمَلَّ منه.

 

كن مع قرابتك كالجسد الواحد، كونوا يدًا واحدة تدفعون عن بعضكم الألم، وتغسلون الذل وتتشاركون الهمَّ، لا تكره منهم مخالفًا لرأيك، بل ألِنْ جانبك له بكل حال، هم سندك في هذه الدنيا وعزوتُك وأمانك، إن أصاب أحدهم خيرًا، فَخَرْتَ به بين الناس، وإن أصابه مسبَّةٌ شتموك به.

 

وآخر الكلام: لا تنسَ سبب خلقك، "عبادة الله"، لا أُلْفِيَنَّكَ تمشي في الدنيا وقلبك مشغول بتفاهاتها، مضطربة أعضاؤك فيها، غافلًا عن ذكر الله وعبادته.

 

أعيذك بالله وذريتك من الشيطان الرجيم، ربي، أستودعتك نفسي وولدي، أصلحنا وأدخلنا الجنة، وألْحِقْ بنا ذرياتنا.

_________________________

الكاتب: محمد بن عبدالرب آل نواب