الفرق بين الرجل والمرأة في الجنائز

محمود الدوسري

(ثياب الكفن - موقف الإمام من الجنازة - ترتيب الجنائز للصَّلاة عليها - اتِّباع الجنائز - ستر النَّعش - حمل الجنازة)

  • التصنيفات: أحكام الغسل والتكفين والجنائز -
الفرق بين الرجل والمرأة في الجنائز

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أمَّا بعد: في هذا البحث ست مسائل:

المسألة الأولى: ثياب الكفن.

المسألة الثانية: موقف الإمام من الجنازة.

المسألة الثالثة: ترتيب الجنائز للصَّلاة عليها.

المسألة الرابعة: اتِّباع الجنائز.

المسألة الخامسة: ستر النَّعش.

المسألة السادسة: حمل الجنازة.

♦   ♦   ♦

 

المسألة الأولى ثياب الكفن

الفرع الأول: عدد ثياب الكفن للرَّجل: يُستحبُّ تكفين الرَّجل في ثلاثة أثواب، وهو مذهب الجمهور، ومنهم الحنفيَّة والشَّافعية والحنابلة [1].

 

الدَّليل: عن عائشة رضي الله عنها: «أنَّ رسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم كُفِّنَ في ثَلاَثَةِ أَثْوابٍ يَمَانيَّةٍ، بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ[2] مِنْ كُرْسُفٍ[3]، لَيْسَ فِيهِنَّ قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ»[4]. وجه الدَّلالة: أنَّ كَفَن الرَّجل المستحب ثلاثة أثواب بيض؛ لأنَّ النَّبي صلّى الله عليه وسلّم كُفَّن فيها.

 

الفرع الثاني: عدد ثياب الكفن للمرأة: يُستحبُّ تكفين المرأة في خمسة أثواب، وهو ما ذهب إليه الحنفيَّة والشَّافعية والحنابلة [5]؛ لأنَّ السَّتر واجب في حقِّها، لذا كان كفنُها من جنس ما يُلائمها ويتَّفق مع أنوثتها، وهذه الأثواب الخمسة هي: القميص، والمئزر، واللِّفافة، والمقنعة ثم خامسة تُشَدُّ بها فخذاها؛ لأنَّ المخيط أكملُ أحوال المرأة، ويَحِلُّ لها أن تلبسه حال الإحرام، فَشُرِعَ إلباسها إيَّاها حال موتِها.

 

الأدلَّة: استدل الجمهور بحديث ليلى بنت قانفٍ - في صفة كفن المرأة - وهو حديث ضعيف [6].

 

ولا يوجد حديث مرفوع بسند صحيح ـ في صفة كفن المرأة في خمسة أثواب ـ إلاَّ حديث ذَكَره ابن حجر رحمه الله فقال: «روى الجوزقي من طريق إبراهيم بن حبيب بن الشَّهيد، عن هشام، عن حفصة، عن أمِّ عطيَّة رضي الله عنها قالت: «فَكَفَّنَّاهَا في خَمْسَةِ أَثْوابٍ، وَخَمَّرْنَاهَا كَمَا يُخَمَّرُ الحَيُّ» وهذه الزِّيادة صحيحة الإسناد»[7].

 

قال العيني رحمه الله: «وهذا يصلح مستنداً لكون كفن المرأة خمسة أثواب»[8]. وقال الحسن رحمه الله: «الخِرْقَةُ الخَامِسَةُ تُشَدُّ بها الفَحِذَيْنِ والوَرِكَيْنِ، تحتَ الدِّرْعِ»[9]. قال ابن حجر رحمه الله ـ مُعَلِّقاً على عبارة الحسن البصري: «هذا يدلُّ على أنَّ أوَّل الكلام، أنَّ المرأة تُكفَّن في خمسة أثواب»[10]. وقال العيني رحمه الله ـ معلقاً أيضاً على عبارة الحسن البصري: «وأشار بقوله (الخِرْقَة الخامسة) إلى أنَّ الميِّت يُكفَّن في خمسة أثواب، لكن هذا في حقِّ النِّساء، وفي حقِّ الرِّجال بثلاثة، وهو كَفَنُ السُّنَّة في حقِّهما»[11].

 

آثار في صفة كفن المرأة:

1- عن الحسن رحمه الله قال: «تُكَفَّنُ المرأةُ في خَمْسَةِ أثْوابٍ: دِرْعٍ وَخِمارٍ وَحِقْوٍ وَلِفافَتَيْنِ»[12].

 

2- عن ابن سيرين رحمه الله قال: «تُكَفَّنُ المرأةُ في خمسةِ أثوابٍ: دِرْعٍ وخِمارٍ وخِرْقَةٍ ولِفافَتَيْنِ»[13].

 

3- عن ابن أبي عزَّة رحمه الله قال: «شَهِدْتُ عامراً الشَّعْبيَّ كَفَّنَ ابْنَتَه في خمسةِ أثوابٍ، وقال: الرَّجُلُ في ثلاثٍ»[14].

 

4- عن أمِّ الهذيل رحمها الله قالت: «تُخَمَّرُ المرأة الميِّتةُ كما تُخَمَّرُ الحيَّةُ، وتُدرَّع من الخِمارِ قدر ذِراعٍ تُسدله على وَجْهِها»[15].

 

وقال بمقتضى ذلك أكثر أهل العلمجاء في «المغني»: «والمَرْأَةُ تُكَفَّنُ في خَمْسَةِ أَثْوابٍ: قَمِيصٍ، ومِئْزَرٍ، ولِفَافةٍ، ومِقْنَعَةٍ، وخَامِسَةٍ تُشَّدُّ بِهَا فَخِذَاهَا. قال ابنُ المُنْذِرِ: أكْثَرُ مَنْ نَحْفَظُ عنه من أهْلِ العِلْمِ يَرَى أن تُكفَّنَ المَرْأةُ في خَمْسَةِ أَثْوابٍ، وإنَّما اسْتُحِبَّ ذلك؛ لأنَّ المَرْأَةَ تَزِيدُ في حالِ حَيَاتِها على الرَّجُلِ في السَّتْرِ لِزِيَادَةِ عَوْرَتِها على عَوْرَتِه، فكذلك بعدَ المَوْتِ، ولمَّا كانت تَلْبَسُ المَخِيطَ في إحْرَامِها، وهو أكْمَلُ أحْوالِ الحياةِ، اسْتُحِبَّ إلْباسُها إيَّاهُ بعد مَوْتِها، والرَّجُلُ بِخِلافِ ذلك، فافْتَرَقَا في اللُّبْسِ بعد المَوْتِ، لافْتِرَاقِهِما في الحياةِ، واسْتَوَيَا في الغُسْلِ بعد المَوْتِ لاسْتِوَائِهما في الحياة»[16]. قال النَّووي رحمه الله: «والمستحبُّ في المرأة خمسة أثواب، ويجوز أن يُكَفَّن الرَّجلُ في خمسةٍ لكن المستحب ألاَّ يتجاوز الثَّلاثة، وأمَّا الزِّيادة على خمسة فإسراف في حقِّ الرَّجل والمرأة»[17].

 

الخلاصة: اختلاف حكم الرَّجل عن المرأة في المقدار المستحبِّ من الكفن، فيستحبُّ للرَّجل ثلاثة أثواب، وللمرأة خمسة.

♦    ♦    ♦

 

المسألة الثانية: موقف الإمام من الجنازة

اختلف أهل العلم في المكان الذي يُسَنُّ للإمام أن يقف حذاءه من جنازتي الرَّجل والمرأة. والرَّاجح أن يقف الإمام بحذاء رأس الرَّجل، ووسط المرأة «عجيزتها»، وهو رواية عن أبي حنيفة، والجديد من قولي أبي يوسف، والصَّحيح من مذهب الشَّافعية، ومذهب الحنابلة في المرأة[18].

 

الأدلَّة:

1- ما جاء عن سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنه قَالَ: «صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم عَلَى امْرَأةٍ مَاتَتْ في نِفَاسِهَا، فَقَامَ عَلَيْهَا وَسَطَهَا [19]»[20]. قال القِسْطلاَّنِي رحمه الله: «ووقوفه عند وسطها؛ ليسترَها عن أعين النَّاس»[21].

 

2- ما جاء عَن نَافِعٍ أَبِي غَالِبٍ، قَالَ: كُنْتُ في سِكَّةِ الْمِرْبَدِ، فَمَرَّتْ جَنَازَةٌ مَعَهَا نَاسٌ كَثِيرٌ، قَالُوا: جَنَازَةُ عَبْدِ الله بْنِ عُمَيْرٍ، فَتَبِعْتُهَا، فإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ عَلَيْهِ كِسَاءٌ رَقِيقٌ عَلَى بُرَيْذِينَتِهِ، وَعَلَى رَأْسِهِ خِرْقَةٌ تَقِيهِ مِنَ الشَّمْسِ، فقُلْتُ: مَنْ هَذَا الدِّهْقَانُ؟ قَالُوا: هَذَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، فلَمَّا وُضِعَتِ الجَنَازَةُ، قَامَ أَنَسٌ فَصَلَّى عَلَيْهَا، وأَنَا خَلْفَهُ لا يَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، فَقَامَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَكَبَّرَ أرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ، لَمْ يُطِلْ، وَلَمْ يُسْرِعْ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقْعُدُ، فَقَالُوا: يا أَبَا حَمْزَةَ! المَرْأَةُ الأنْصَارِيَّةُ؟! فَقَرَّبُوهَا، وعَلَيْهَا نَعْشٌ أخْضَرُ، فَقَامَ عِنْدَ عَجِيزَتِهَا [22]، فَصَلَّى عليْهَا نَحْوَ صَلاتِهِ عَلَى الرَّجُلِ، ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ العَلاءُ بْنُ زِيَادٍ: يَا أَبَا حَمْزَةَ! هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، يُصَلِّي عَلَى الجَنَازَةِ كَصَلاتِكَ، يُكَبِّرُ عَلَيْهَا أَرْبَعاً، وَيَقُومُ عِنْدَ رأسِ الرَّجُلِ وَعَجِيزَةِ المَرْأَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ...»[23]. وجه الدَّلالة: أنَّ الإمام في صلاة الجنازة يُسَنُّ له أن يقف عند رأس الرَّجل، ووسط وعجيزة المرأة. قال النَّووي رحمه الله: «السُّنَّة أن يقف الإمام عند عجيزة المرأة بلا خلافٍ للحديث؛ ولأنَّه أبلغ في صيانتها عن الباقين»[24].

 

المسألة الثالثة: ترتيب الجنائز للصَّلاة عليها

إذا اجتمعت جنائز الرِّجال والنِّساء عند الصَّلاة عليهم، فالرَّاجح من أقوال أهل العلم جعل الرِّجال ممَّا يلي الإمام، والنِّساء ممَّا يلي القبلة، وهو ما عليه الأئمَّة الأربعة [25].

 

الأدلَّة:

1- ما جاء عَن عَمَّارٍ رحمه الله، قَالَ: «حَضَرَتْ جَنَازَةُ صَبِيٍّ وامْرَأَةٍ، فَقُدِّمَ الصَّبِيُّ مِمَّا يَلِي القَوْمَ، ووُضِعَتِ المرْأَةُ وَرَاءَهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِمَا وَفِي القَوْمِ أَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ وابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو قَتَادَةَ وأَبُو هُرَيْرَةَ، فسأَلْتُهُمْ عَن ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: السُّنَّةُ»[26].

 

2- مَا جاء عن نافعٍ رحمه الله: «أنَّ ابْنَ عُمَرَ صَلَّى عَلَى تِسْعِ جَنَائِزَ جَمِيعاً، فَجَعَلَ الرِّجَالَ يَلُونَ الإمَامَ، والنِّسَاءَ يَلِينَ الْقِبْلَةَ، فَصَفَّهُنَّ صَفاً وَاحِداً، وَوُضِعَتْ جَنَازَةُ أُمِّ كُلْثُومِ بِنْتِ عَلِيٍّ امْرَأَةِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، وابْنٍ لَهَا يُقَالُ لَهُ: زَيْدٌ، وُضِعَا جَمِيعاً [27]، والإمَامُ يَوْمَئِذٍ سَعِيدُ بْنُ العَاصِ [28]، وَفِي النَّاسِ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وأَبُو سَعِيدٍ وَأَبُو قَتَادَةَ، فَوُضِعَ الغُلامُ مِمَّا يَلِي الإمَامَ [29]، فَقَالَ رَجُلٌ [30]: فَأنْكرْتُ ذَلِكَ! فَنَظَرْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي قَتَادَةَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: هِيَ السُّنَّةُ»[31]. وجه الدَّلالة: دلَّ الحديثان على تقديم جنائز الرِّجال على جنائز النِّساء في الصَّلاة.

♦   ♦   ♦

 

المسألة الرابعة: اتِّباع الجنائز

الفرع الأول: اتِّباع الرَّجل للجنائز: شرع النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم لأمَّته اتِّباعَ الجنائز، وفيه أجر عظيم، ويُذكِّر الآخرة، وفيه أداءٌ لِحَقِّ الميِّت؛ من حَمْلِه، والصَّلاة عليه، ودفنه، ولذا لا خلاف بين أهل العلم في مشروعيَّة اتِّباع الجنائز للرِّجال، وهو ما عليه الأئمَّة الأربعة [32].

 

الأدلَّة:

1- ما جاء عن البراءِ بنِ عازبٍ رضي الله عنهما قال: «أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ: «أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الجَنَائِزِ، وَعِيادَةِ المَرِيضِ،...» » الحديث[33]. استدل بهذا الحديث جَمْع من أهل العلم على سُنِّيَّة اتِّباع الجنائز، منهم: صاحب المهذَّب والمجموع[34]وغيرهما. وحمله بعضهم على وجوب اتَّباع الجنائز، قال ابن حجر رحمه الله: «والظَّاهر أنَّ المراد به هنا وجوب الكفاية»[35].

 

2- ما جاء عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أنَّ رسُولَ الله صلّى الله عليه وسلّم قالَ: «مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ، إِيْمَاناً وَاحْتِسَاباً، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ» [36]. وجه الدَّلالة: دلَّ الحديث على مشروعيَّة اتِّباع الجنائز في حقِّ الرِّجال وعِظَمِ فضله.

 

الفرع الثاني: اتِّباع المرأة للجنائز: اختلف أهل العلم في مشاركة المرأة في تشييع الجنازة واتِّباعها، بعد اتِّفاقهم في مشروعيَّة ذلك للرِّجال كما سبق، والرَّاجح من أقوال أهل العلم: أنَّ النِّساء يُكره لهنَّ اتِّباع الجنائز، ولا يخرجن لذلك، وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء، وهو ما عليه الحنفيَّة [37] والشَّافعية والحنابلة وابن حبيبٍ من المالكيَّة [38].

 

الأدلَّة: ما جاء عن أمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قالَتْ: «نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا»[39]. وجه الدَّلالة: أنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم لم يُؤكِّد نهيه النِّساء عن اتِّباع الجنائز، فدلَّ على الكراهة التَّنزيهيَّة، وليس على التَّحريم.

 

قال النَّووي رحمه الله: «معناه نهانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك نَهْيَ كراهةِ تنزيهٍ، لا نهيَ عزيمةِ تحريمٍ»[40]. وقال رحمه الله في موضعٍ آخر: «قال الشَّافعي والأصحاب: يُستحبُّ للرِّجال اتِّباع الجنازة حتى تُدْفَنْ، وهذا مُجمع عليه؛ للأحاديث الصَّحيحة فيه، وأمَّا النِّساء: فيكره لهنَّ اتِّباعها، ولا يَحْرُم، هذا هو الصَّواب، وهو الذي قاله أصحابنا»[41].

 

وقال ابن حجر رحمه الله: «قولُها: «وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا» أي: ولم يُؤَكَّدْ علينا في المَنْعِ، كما أُكِّدَ علينا في غيره من المنهيَّات؛ فكأنَّها قالت: كُرِه لنا اتِّباع الجنائز من غير تحريم»[42].

 

الخلاصة: أنَّ اتِّباع الجنائز سُنَّة في حقِّ الرِّجال، مكروه للنِّساء. وذلك ربَّما مرجعه إلى الاحتراز من اختلاط النِّساء بالرِّجال، كما أنَّ المرأة ـ وكما هو معلوم في شأنها ـ قد لا تصبر ولا تتحكَّم في مشاعرها فيصدر منها من البكاء والعويل ما هو منهيٌّ عنه.

♦   ♦   ♦

 

المسألة الخامسة: ستر النَّعش[43]

اتَّفقت المذاهب الأربعة على أنَّه يُستحبُّ أنْ تُغطَّى جنازة المرأة ـ وهي على السَّرير ـ بما يُشبه القُبَّة حتى تسترها عن أعين النَّاس، وأمَّا إنْ كان المُتوفَّى رجلاً فلا يُستحب ذلك في حقَّه، لكن إنْ فُعِلَ به كالمرأة، فالمالكيَّة قالوا: لا بأسَ بذلك [44].

 

الأدلَّة:

1- عن نافعٍ عن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: «لمَّا ماتت زينبُ بنتُ جحشٍ رضي الله عنها، أمَرَ عُمَرُ رضي الله عنه منادياً ألاَّ يخرج معها إلاَّ ذو محرم، فقالت بنت عميس: يا أمير المؤمنين ألا أُريك شيئاً، رأيتُ الحبشةَ تصنعه بنسائهم؟ فجَعَلَتْ نَعْشاً وغَشَتْهُ ثوباً، فقال: ما أحسنَ هذا وأَسْتَرَه، فَأَمَرَ منادياً فنادى: أن اخرجوا على أُمِّكُمْ»[45]. وجه الدَّلالة: أنَّ حال المرأة يُبنى على السَّتر، فكلُّ ما كان أقرب إلى سترها فُعِل، سواء كان بالنَّعْشِ أو بغيره.

 

2- ما تقدَّم من صلاة أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه على جنازة المرأة. والشَّاهد منه: «... فقالوا: يا أبا حمزةَ! المرأةُ الأنصاريَّة؟! فقرَّبوها، وعليها نَعْشٌ أخْضَرُ، فقام عند عَجِيزَتِها، فصلَّى عليها...»[46]. وجه الدَّلالة: أنَّ أنساً رضي الله عنه صلَّى على جنازة المرأة وعليها نعش، ولم يُنْكِرْ ذلك.

 

قال النَّووي رحمه الله: «قال أصحابنا: يُستحبُّ أن يُتَّخذ للمرأة نعش. قال الشَّيخ نصر المقدسي: والنَّعش: هو المكبَّة التي توضع فوق المرأة على السَّرير، وتُغطَّى بثوب؛ لتُسْتَرَ عن أعين النَّاس، وكذا قاله صاحب الحاوي: يُختار للمرأة إصلاح النَّعش كالقبَّة على السَّرير؛ لما فيه من الصِّيانة، وسمَّاه صاحب البيان رحمه الله خيمةً، فقال: إن كانت امرأة، اتُّخذ لها خيمة تسترها، واستدلُّوا له: بقضيَّة جنازة زينب أمِّ المؤمنين رضي الله عنها قيل: وهي أوَّل مَنْ حُمِلَ على هذا النَّعش من المسلمات»[47].

 

الخلاصة: استحباب تغطية جنازة المرأة بما يُشبه القبَّة من نعش وغيره، لِتُسْتَرَ عن أعين النَّاس، وأمَّا الرَّجل فلا يُستحبُّ له ذلك.

♦   ♦   ♦

 

المسألة السادسة: حمل الجنازة

اتَّفقت المذاهب الأربعة على أنَّ الرِّجال هم الذين يتولَّون حمل الجنازة من المُغْتَسَل إلى المقبرة، ولا حقَّ للنِّساء في ذلك مع وجود الرِّجال [48]. قال النَّووي رحمه الله: «ولا خلاف في هذا؛ لأنَّ النِّساء يضعفن عن الحمل، وربَّما انكشف منهنَّ شيء لو حملن»[49].

 

الأدلَّة:

1- ما جاء عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إِذَا وُضِعَتِ الجَنَازَةُ، وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا، أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا، يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيءٍ إلاَّ الإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهُ صَعِقَ» [50]. و«العدول عن المُشَاكَلَة في الكلام حيث قال: إذا وُضعت فاحتملها الرِّجال، ولم يقل فاحْتُمِلَتْ، فلمَّا قطع (احْتُمِلَتْ) عن مُشاكِلِهِ (وُضِعَتْ) دلَّ على قصد تخصيص الرِّجال بذلك»[51].

 

2- ما تقدَّم من حديث أُمِّ عطيَّةَ رضي الله عنها قالت: «نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا»[52]. وجه الدَّلالة: إذا نُهيت النِّساء عن اتِّباع الجنائز، فإنَّ نهيهُنَّ عن حملها أولى.

 

3- أنَّ النَّساء إذا شاركن في تشييع الجنازة وحملها، كان ذلك وسيلةً إلى اختلاطهنَّ بالرِّجال فيؤدِّي إلى الفتنة [53].

 

4- ندب الشَّرع إلى حمل الجنازة على الأعناق والإسراع فيها، وهو مظَنَّة الانكشاف غالباً، وهو مباين للمطلوب منهنَّ من التَّستُّر [54].

 

5- النَّساء فيهنَّ من الضَّعف الجسمي والنَّفسي الغالب على أحوالهنَّ ما يجعلهنَّ عاجزات عن مباشرة الحمل والدَّفن، وقد يُفضي ذلك إلى الصُّراخ وغيره من المفاسد [55].

 

الخلاصة: أنَّ حمل الرِّجال للجنازة من فروض الكفايات، وأمَّا النِّساء فلا يحملن الجنازة مع وجود مَنْ يقوم بذلك من الرِّجال؛ لما يترتَّب عليه من مفاسد كثيرة.

 


[1] انظر: مختصر الطحاوي (ص41)؛ بدائع الصنائع (1/ 306)؛ المهذب والمجموع (5/ 193)؛ الوسيط (2/ 809)؛ المغني (2/ 464)؛ الإنصاف (2/ 510).

[2] (سَحُولِيَّة): بفتح السِّين وضمِّها، والفتح أشهر، وهي ثياب بيض نقيَّة لا تكون إلاَّ من قطن، وقيل: هي منسوبة إلى سحول مدينة باليمن تحمل منها هذه الثياب. انظر: فتح الباري (3/ 140)؛ صحيح مسلم بشرح النووي (7/ 10).

[3] (مِنْ كُرْسُفٍ): الكرسف: القطن.

[4] رواه البخاري، (1/ 378)، (ح1264)؛ ومسلم، (2/ 649)، (ح941).

[5] انظر: مختصر الطحاوي (ص41)؛ بدائع الصنائع (1/ 307)؛ المهذب والمجموع (5/ 205)؛ الوسيط (2/ 809)؛ الفروع (2/ 227)؛ الإنصاف (2/ 513).

[6] ونصُّه: عن لَيْلَى بِنْتِ قَانِفٍ الثَّقفيَّة، قالتْ: «كُنْتُ فِيمَنْ غَسَّل أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ رسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم عِنْدَ وَفَاتِها، فَكَانَ أَوَّلُ مَا أَعْطَانَا رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم الحِقَاء، ثُمَّ الدِّرْعَ، ثُمَّ الخِمَارَ، ثُمَّ المِلْحَفَة، ثُمَّ أُدْرِجَتْ بَعْدُ في الثَّوْبِ الآخرِ». رواه أبو داود (3/ 200)، (ح3157)؛ والبيهقي في «الكبرى» (4/ 9)، (ح6564). في إسناده نوح بن حكيم الثَّقفي، نقل الزَّيلعي عن ابن القطَّان أنَّه رجل مجهول، لم تثبت عدالته، وفيه رجل يقال له: داود. قال الزَّيلعي: لا يُدرى مَنْ هو، وضعَّفه من أجله. انظر: نصب الراية (2/ 258)؛ وضعَّفه الألباني في «ضعيف سنن أبي داود» (ص258)، (ح3157).

قال المنذري رحمه الله: «والصَّحيح أنَّ هذه القصَّة في زينب؛ لأنَّ أمَّ كُلْثومٍ رضي الله عنها تُوفِّيت ورسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم غائب ببدر». مختصر المنذري (4/ 304). وانظر: عمدة القاري (8/ 40)؛ تحفة الأحوذي (4/ 66).

[7] فتح الباري (3/ 133).

[8] عمدة القاري (8/ 46).

[9] رواه البخاري مُعَلَّقاً (1/ 377). قال ابن حجر في «فتح الباري» (3/ 133): «وقد وَصَلَه ابن أبي شيبة نحوه». وانظر: تغليق التعليق (2/ 463).

[10] فتح الباري (3/ 133).

[11] عمدة القاري (8/ 46).

[12] صحيح - رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (2/ 465)، (رقم 11087).

[13] صحيح - رواه عبد الرزاق في «مصنفه» (3/ 434)، (رقم 6217).

[14] صحيح - رواه عبد الرزاق في «مصنفه» (3/ 434)، (رقم 6218).

[15] صحيح - رواه عبد الرزاق في «مصنفه» (3/ 435)، (رقم 6220).

[16] المغني (3/ 391).

[17] صحيح مسلم بشرح النووي (7/ 8).

[18] انظر: مختصر الطحاوي (ص42)؛ الهداية شرح البداية (2/ 126)؛ المهذب والمجموع (5/ 224)؛ الإقناع لابن المنذر (1/ 161)؛ المغني (2/ 517)؛ الإنصاف (2/ 516).

[19] (وَسَطَهَا)؛ أي: حذاءَ وَسَطِها. انظر: عون المعبود (8/ 341).

[20] رواه البخاري، (1/ 396)، (ح1332)؛ ومسلم، (2/ 664)، (ح964).

[21] عون المعبود (8/ 340).

[22] العجيزة يُقال لها وسط. انظر: نيل الأوطار (4/ 66).

[23] رواه أبو داود (3/ 208)، (ح3194)؛ والبيهقي في «الكبرى» (4/ 33)، (ح6714)؛ وصحَّحه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (2/ 298)، (ح3194).

[24] المجموع (5/ 179).

[25] انظر: بدائع الصنائع (1/ 316)؛ الفتاوى الهندية (1/ 165)؛ المدونة (1/ 182)؛ المنتقى، للباجي (2/ 20)؛ الأم (1/ 275)؛ المهذب والمجموع (5/ 224)؛ المغني (2/ 560).

[26] رواه النسائي (4/ 71)، (ح1977)؛ وصحَّح إسنادَه النووي في «المجموع» (5/ 224).

[27] أي: وُضِعَتْ جنازة الأم وابنها بالتَّساوي.

[28] أي: الأمير يومئذٍ سعيد بن العاص رضي الله عنه، وكانت إمرته في خلافة معاوية رضي الله عنه سنة (48هـ) إلى سنة (54هـ). انظر: حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (2/ 300).

[29] أي: أُخِّرت جنازة الغلام عن النِّساء، وجعلت مع الرِّجال.

[30] القائل: نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما.

[31] رواه النسائي (4/ 71)، (ح1978)؛ وقال النووي في «المجموع» (5/ 224): «رواه البيهقي بإسناد حسن». وصححه الألباني في «صحيح سنن النسائي» (2/ 52)، (ح1977).

[32] انظر: بدائع الصنائع (1/ 310)؛ حاشية ابن عابدين (1/ 232)؛ الخرشي على خليل (2/ 128)؛ مواهب الجليل (2/ 227)؛ المجموع (5/ 277)؛ روضة الطالبين (2/ 116)؛ المغني (2/ 473)؛ الإنصاف (2/ 543).

[33] واه البخاري، (1/ 372)، (ح1239).

[34] انظر: المهذب والمجموع (5/ 274، 277).

[35] فتح الباري (3/ 113).

[36] رواه البخاري، (1/ 39)، (ح47)؛ ومسلم، (2/ 652)، (ح945).

[37] إلاَّ أنَّ الحنفيَّة قالوا: يُكره كراهة تحريم.

[38] انظر: بدائع الصنائع (1/ 310)؛ حاشية ابن عابدين (2/ 32)؛ المجموع (5/ 277)؛ روضة الطالبين (2/ 116)؛ المغني (2/ 477)؛ الفروع (2/ 260)؛ المنتقى، للباجي (2/ 18).

[39] رواه البخاري، (1/ 39)، (ح47)؛ ومسلم، (2/ 646)، (ح938).

[40] صحيح مسلم بشرح النووي (7/ 2).

[41] المجموع (1/ 231).

[42] فتح الباري (3/ 154). وانظر: عون المعبود (8/ 449).

[43] النَّعْشُ: سرير الميِّت، سُمِّي بذلك؛ لارتفاعه؛ لأنَّ الانتعاش هو الارتفاع. يُقال: نَعَشَهُ اللهُ يَنْعَشُه نَعْشاً وأَنْعَشَه: رَفَعَه. انظر: لسان العرب، مادة: (نعش) (14/ 202).

[44] انظر: بدائع الصنائع (1/ 320)؛ الخرشي على خليل (2/ 128)؛ بلغة السالك لأقرب المسالك (1/ 196)؛ مواهب الجليل (2/ 227)؛ المجموع (5/ 271)؛ الفروع (2/ 259).

[45] رواه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (8/ 111)؛ والذهبي في «سير أعلام النبلاء» (2/ 212)، وقال محقق السِّيَر: «إسناده صحيح»، والحسين الحراني في «كتاب الأوائل» (ص140)، (رقم 118). وأورده عليٌّ المتقي في «كنز العمال» (13/ 301)، (رقم 37795).

[46] مضى تخريجه، هامش رقم (23).

[47] المجموع (5/ 229).

[48] الفتاوى الهندية (1/ 162)؛ الشرح الصغير على أقرب المسالك (2/ 73)؛ القوانين الفقهية (ص86)؛ المجموع (5/ 228)؛ مغني المحتاج (1/ 359)؛ الفروع (2/ 260).

[49] المجموع (5/ 228).

[50] رواه البخاري، (1/ 391)، (ح1314).

[51] فتح الباري (3/ 182).

[52] مضى تخريجه، هامش رقم (39).

[53] انظر: فتح الباري (3/ 182).

[54] انظر: المجموع (5/ 228).

[55] انظر: مغني المحتاج (1/ 359)؛ فتح الباري (3/ 182).