حفظ اللسان عن الكذب

وحيد عبد السلام بالي

«إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ، وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا»

  • التصنيفات: تزكية النفس -
حفظ اللسان عن الكذب

عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ، وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا» [1].

 

وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا...»[2] ؛ رواه أبو داود، والترمذي، وحسنه، ورواه البيهقي بسند حسن[3].

 

وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الكَذِبَ رِيبَةٌ»[4]؛ رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.

 

وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أفضل؟ قال: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ»، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ؛ لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ» »[5]؛ رواه ابن ماجه بإسناد صحيح، قاله المنذري[6].

 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ»[7]، وزاد مسلم في رواية: «وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ».

 

وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ»[8].

 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ»[9].

 

ومن الناس من يكذب ليضحك الناس وإذا نهيته عن ذلك، قال لك: إني أمزح، فهذا وأمثاله قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ بِالحَدِيثِ لِيُضْحِكَ بِهِ القَوْمَ فَيَكْذِبُ، وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ»[10]؛ رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، والبيهقي.

 

ومن الناس من يكذب في رؤياه، أو يقول رأيت في المنام كذا وكذا، وهو لم ير شيئًا، وهذا إثمه عظيم وجُرمه كبير، فعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الفِرَى أَنْ يَدَّعِيَ الرَّجُلُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ يُرِيَ عَيْنَهُ مَا لَمْ تَرَ، أَوْ يَقُولُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ يَقُلْ»[11].

 

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ مِنْ أَفْرَى الفِرَى أَنْ يُرِيَ عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَ»[12].

 

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ، وَلَنْ يَفْعَلَ»[13].

 

وأعظم الكذابين إثمًا، وأكبرهم جرمًا أولئك الذي يكذبون على الله ورسوله، وأما الكذب على الله، كتحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله.

 

قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].

 

ويدخل في ذلك أيضًا أولئك الذين يتجرؤون على الفتوى بدون علم، فتجد أحدهم يفتي في مسألة ما، فإذا سألته عن الدليل من آية أو حديث، تحير وتوقَّف، وربما قال لك: (هذا مذهب فلان)، أو (هذا رأي الجمهور)، أو (إلى هذا ذهب بعض أهل العلم)، وأمثال هذه المصطلحات التي لا يؤتى بها إلا عند فقدان الحجة.

 

كما قال الشافعي رحمه الله: والعلم ما قيل فيه: قال: حدثنا[14]، وسوى ذلك وساوس الشيطان.

 

ولا تظن أن هذا دعوة منا لترك المذاهب والرمي بها، كلا فإنها تراث إسلامي باهر، ولكن المقصود ألا نأخذ مسألة إلا بعد معرفة دليلها من القرآن والسنة، والأئمة هم الذين أوصوا بذلك.

 

فقد قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه[15].

 

قال مالك رحمه الله: إنما أنا بشر، أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه[16].

 

وقال الشافعي رحمه الله: كل ما قلت فكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح، فحديث النبي صلى الله عليه وسلم أولى، فلا تقلدوني[17].

 

وقال أحمد رحمه الله: لا تقلدوني، ولا تقلدوا مالكًا، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا[18].

 

أما الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبتت أحاديث كثيرة تبيِّن جزاؤه، فقد روى مسلم في مقدمة «صحيحه» في باب: «تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم» عدة أحاديث؛ منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»[19].

 

وحديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « «لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجِ [20] النَّارَ» »[21].

 

وحديث المغيرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»[22].

 

وحديث سمرة بن جندب رضي الله عنه مرفوعًا «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي حَدِيثًا وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ، فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبَيْنِ»[23]، وقد وافقه البخاري على تخريجها كلها ما عدا حديث سمرة، ثم انفرد البخاري عنه بعدة أحاديث؛ منها: «مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»[24]، ويكفيك أن تعرف أن هذه الأحاديث قد بلغت حدَّ التواتر، وبناءً على ذلك لا يجوز لمسلم أن يَنسبَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قولًا دون أن يتثبت من صحته.

 

ما يجوز من الكذب:

قال الغزالي رحمه الله: الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعًا، فالكذب فيه حرام، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب ولم يمكن التوصل إليه بالصدق، فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك مباحًا، وواجب إن كان المقصود واجبًا، كما أن عصمة دم المسلم واجبة، فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم قد اختفى من ظالم، فالكذب فيه واجب، ومهما كان لا يتم مقصود الحرب، أو إصلاح ذات البين، أو استمالة قلب المجني عليه إلا بكذب، فالكذب مباح إلا أنه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن؛ لأنه إذا فتح باب الكذب على نفسه، فيخشى أن يتداعى إلى ما يستغنى عنه، وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة، فيكون الكذب حرامًا في الأصل إلا لضرورة.

 

قال: وكذلك كل ما كان له، أو لغيره.

 

أما ماله، فمثل أن يأخذه ظالم ويسأله عن ماله، فله أن ينكره، أو يأخذه سلطان، فيسأله عن فاحشة بينه وبين الله تعالى ارتكبها، فله أن ينكر ذلك، فيقول: ما زنيت وما سرقت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «اجْتَنِبُوا هَذِهِ القَاذُورَةَ الَّتِي نَهَى اللهُ عَنْهَا، فَمَنْ أَلَمَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ»[25]، وذلك لأن إظهار الفاحشة فاحشة أخرى، فللرجل أن يحفظ دمه - الذي يؤخذ ظلمًا - وعرضه بلسانه وإن كان كاذبًا.

 

وأما عرض غيره، فبأن يسأله عن سر أخيه فله أن ينكره، وأن يصلح بين اثنين، وأن يصلح بين الضُّرَّات من نسائه بأن يظهر لكل واحدة أنها أحب إليه؛ ا.هـ[26].

 

قال النووي: وكلام الغزالي هو أحسن ما رأيت في هذا الموضوع[27].

 

ويؤيد ما ذهب إليه الغزالي حديث أم كلثوم رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَنْمِي خَيْرًا، أَوْ يَقُولُ خَيْرًا»[28]؛ متفق عليه، وزاد مسلم في رواية: قالت أم كلثوم: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث: تعني الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها.

 


[1] متفق عليه: رواه البخاري رقم (6094) في «الأدب» باب قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119]، ومسلم رقم (2607) في «البر والصلة» باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله.

[2] حسن: أبو داود رقم (4800) في «الأدب» باب في حسن الخلق، وحسنه الألباني في «صحيح الجامع» رقم (1464)، و«الصحيحة» (273).

[3] الترغيب والترهيب (5/ 200).

[4] صحيح: الترمذي رقم (2518) في «صفة القيامة»، والنسائي (8/ 327، 328) في «الأشربة»، وأحمد في «المسند» (1/ 101).

[5] صحيح: رواه ابن ماجه رقم (4216) في «الزهد» باب الورع والتقوى، وصححه الألباني في «الصحيحة» رقم (948).

[6] الترغيب والترهيب (5/ 201).

[7] متفق عليه: رواه البخاري رقم (33) في «الإيمان» باب علامة المنافق، ومسلم رقم (59) في «الإيمان» باب بيان خصال المنافق.

[8] متفق عليه: رواه البخاري رقم (34) في «الإيمان» باب علامة المنافق، ومسلم رقم (58) في «الإيمان» باب بيان خصال المنافق.

[9] صحيح: رواه مسلم رقم (107) في «الإيمان» باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار، والنسائي (6/ 86) في «الزكاة».

[10] حسن: أبو داود رقم (4490) في «الأدب» باب في التشديد في الكذب، والترمذي رقم (2315) في «الزهد» وأخرجه أحمد في «المسند» (5/ 3، 5، 7)، والحاكم في المستدرك (1/ 46)، وصححه ووافقه الذهبي والألباني في «صحيح الجامع» رقم (7136).

[11] صحيح: رواه البخاري رقم (3509) في المناقب.

[12] صحيح: رواه البخاري رقم (7043) في «التعبير» باب من كذب في حلمه.

[13] صحيح: رواه البخاري رقم (7042) في «التعبير» باب من كذب في حلمه.

[14] أي ينقل الحديث بالسند، ويعني به الدليل.

[15] صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (14).

[16] صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (14).

[17] صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (14).

[18] صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (14).

[19] متفق عليه: رواه البخاري رقم (110) في «العلم» باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم رقم (3) في «المقدمة».

[20] فليلج: فليدخل.

[21] متفق عليه: رواه البخاري رقم (106) في «العلم» باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم رقم (1) في «المقدمة».

[22] متفق عليه: رواه البخاري رقم (1291) في «الجنائز» باب ما يكره من النياحة، ومسلم رقم (4) في المقدمة.

[23] صحيح: رواه مسلم في المقدمة.

[24] صحيح: رواه البخاري رقم (109) في كتاب «العلم» باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم.

[25] صحيح: رواه الحاكم في «المستدرك» (4/ 244، 383)، وصححه ووافقه الذهبي والألباني في «الصحيحة» رقم (663).

[26] تخريج إحياء علوم الدين (1588).

[27] الأذكار (325).

[28] متفق عليه: رواه البخاري رقم (2692) في «الصلح» باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس، ومسلم رقم (2605) في «البر والصلة» باب تحريم الكذب وبيان المباح منه.