الخليفة المظلوم السلطان عبد الحميد الثاني
مصطفى حلمي
دفع عرشه ثمنا لمواقفه.. الذكرى الـ 103 لوفاة السلطان عبدالحميد الثاني الذي رفض التنازل عن فلسطين رغم كل العروض التي قدمت إليه
- التصنيفات: التاريخ الإسلامي -
هناك منهج لتقييم أعمال القادة والزعماء خاضع لفكرة خضوع حركة التاريخ السياسي لأعمال "البطل" المُنفرِد بمزايا عقلية وخلُقية وقدرات خارقة للعادة، ونرى هذا المنهج يُغالي في إلقاء الضوء محاسِن على القادة والزعماء السياسيِّين، فيُظهرهم بمظهر المتفرِّدين بصفات خاصة، ثم يُبالغ فيها ويغالي حتى يرفعهم إلى الألوهية، وذلك كما فعل الشيوعيون إبان حكم "ستالين".
ومع أن هذا المنهج قاصر علميًّا؛ حيث ظهر عقب وفاته أنه كان أحد فراعنة التاريخ الإنساني، ولكن مع الأسف ما زال متَّبعًا في دول العالم الثالث.
هذه المقدمة لا بد منها لبيان كيف اتَّبعنا هذا المنهج المُنحرِف في الغلو في شخصية "مصطفى كمال"، وعلى العكس كيف صوَّرنا خصمه السلطان عبدالحميد - آخِر الخلفاء الحقيقيِّين لدولة الإسلام.
ولا بد أن تدور في الذهن عدة تساؤلات عند دراسة هذه الفترة الحاسمة مِن تاريخنا التي حدثَت فيها الكارثة، فاختفَت الخلافة العُظمى، "وهي البقية مِن مجد الإسلام وعهد النبوة الأولى، وهي العزاء الوحيد الذي كنا نتعزى بها في نكبات الأيام وصروف الليالي"!![1].
نعم، وهذه البقية الباقية من مجد الإسلام وعهد النبوة الأولى، تسلط عليها "ثوري" مزعوم، فأزاحها مِن طريقه ليَحكم هو، ومِن ورائه جيش خليط مِن أعداء الإسلام، وصوَّرت الأقلام حينذاك - وما زال أغلبها يصوِّر - هذه الطامة الكبرى وكأنها مجرد صراع بين هذا "الثوري" وبين السلطان عبدالحميد الحاكم المستبدِّ الرجعي.
فهل تعبِّر هذه الصورة عن حقيقة ما حدث؟
سنُحاول في عجالة مناقشة بعض الأفكار السائدة الخاطئة عن السلطان عبدالحميد، لا لشخصِه ولكن لانطباع صورته في الأذهان ممثِّلاً للخلافة الإسلامية في آخِر مراحلها.
إن حركة التاريخ لا تسير بمجرَّد الخضوع لأهواء الأفراد ورغباتهم مهما بلغت قدراتهم ومواهبُهم، صحيح قد يكون هناك دخل للمواهب الشخصية للزعماء والقادة في نجاحهم، ولكنهم لا بد أن يتحرَّكوا في الإطار السياسي والاجتماعي والدولي الذي تتحكَّم فيه عوامل عدة.
فما سبب إخفاق السلطان عبدالحميد[2] ونجاح أتاتورك؟
وكان السلطان عبدالحميد هو أحد الشخصيات الرئيسية التي دارت حولها أحداث الخلافة، فأُلقيتْ عليه التُّهم جزافًا، فوصَفوه بالاستبداد، وأنه "السلطان الأحمر" وغيرها من الصفات التي روَّجها أعداؤه وخصومه من الداخل والخارج، ولا ننسَ أن وكالات الأنباء والصحافة التي سيطرت عليها العناصر اليهودية والصليبية قد تزعَّمت حركة تشهير واسعة النِّطاق، أخذت تُردِّدها بتكرار وإلحاح حتى صارت وكأنها حقائق!
ولكن مهما أوغلَت المؤلَّفات الغربية في الافتراء على السلطان فإنها لم تتمكَّن مِن إخفاء دور الدول الأوربية وراء الانقلاب، أو إخفاء الهدف مِن ورائه؛ وهو القضاء على شخصية الخليفة الذي يمثِّل السلطة الدينيَّة - أي: الإسلامية.
يقول باول شمتز:
"لقد نظمت المقاومة ضد السلطة الدينية التي كان يمثِّلها عبدالحميد، وتجمَّعت عناصرها خارج حدود تركيا، إلا أنها لم تَستطِع المبادرة، بقيادة المعركة الفاصلة ضده، بل جاءت هذه المعركة أولاً مِن الداخل، وعلى وجه التحديد مِن الجيش الذي أصابته عدوى "الأفكار القومية"[3].
ثم يَستطرِد بعد ذلك فيَذكر سعي الدول الأوربية للتقارب فيما بينها والتفاهم على تقسيم مناطق النفوذ، ولكي تسدَّ الطريق على السلطان عبدالحميد الذي كان يَستفيد مِن الخلافات القائمة بينهم؛ ففي سنة 1906 عقدت روسيا والنمسا مؤخَّرًا لبحث مستقبل مقدونيا، وبعد ذلك بعام انضمَّت روسيا إلى حلف "التفاهم" المعقود بين إنجلترا وفرنسا، "وأعقب هذا التفاهم ظهور خطر مباشر على تركيا، وفي هذا الجو تكوَّنت مجموعة سرية - كانت أقوى المجموعات المناهضة لعبدالحميد - مِن المقدونيِّين للدفاع عن مصالحهم، وكانت على اتصال بالمقدونيين في سرايا الجيش، وفي عام 1908 كان استعدادهم كاملاً وتنظيماتهم على أهبة القيام بالثورة"[4].
نحن - إذًا - أمام عوامل مُتشابكة يَحسُن وضعُها نصب أعيننا عند دراسة هذه الحقيقة الهامة من تاريخنا؛ فهناك مؤامرات داخلية، ونزاع بين القوميات تُغذِّيها قوى خارجية، وأزمات اقتصادية، ودول كبرى تنسى خصوماتها لتتَّفق على العدو المشترك.
وكان السلطان عبدالحميد على وعي بالمخاطر الخارجية ونيات الدول نحوه، فكيف يُجابه هذه الدول بمفردِه؟! لقد استولى الروس على بعض ولايات آسيا الوسطى العثمانية، واستولى الإنجليز على الهند، وسعَوا لتأمين سلامة الطريق إليها، كما وُلدت أمريكا دولة فتية، وانتظم يهود العالم وسعَوا عن طريق المحافل الماسونية في سبيل الأرض الموعودة.
أورد السلطان عبدالحميد هذه الحقائق حوله في مذكراته، ثمَّ أعقبَها بقوله: "لم أكن أستطيع الوقوف أمام هذه القوى بمُفرَدي"[5].
وكان قد علم أيضًا بمساوئ الدولة الداخلية؛ حيث أشاد بالسلطان محمود خان؛ لأنه أزال غائلة الانكشارية، وعالج الفساد والاختلال الناجمَين عنهم، كما أشار إلى إدخاله مدنية أوربا الحديثة إلى الدولة، وكانت الحالة الاقتصادية سليمة؛ لأن "خزينة دولتنا حتى ذلك الوقت غير مديونة للخارج بقرش واحد، ولكنه اضطرَّ للاستقراض الخارجي؛ بسبب نقض دول أوربا لمُعاهداتها مع الدولة العليَّة، وبسبب الحوادث الداخلية، والفتن التي تُحرِّكها أوربا، مما دفعه إلى جمع عدد مِن الجنود - فوق العادة - وحروب بلاد الصرب "يوغوسلافيا" والجبل الأسود حتى اضطر إلى زيادة معسكراته في جميع الجهات، فوضع تحت السلاح نحو ستمائة ألف عسكري"[6].
وعندما اعتلى العرش جابهتْه مشاكل كبيرة في الداخل والخارج، فقد سقَط قبله في شهور قليلة سلطانان، استُشهد أحدهما، وجُنَّ الآخَر، وشارك كبار ضباط الجيش ورجال الدولة، وأذنبوا في هذا، وكانت الدولة مُثقَلة بالديون بسبب الاعتماد على الاستيراد، واضطرَّت إلى الاعتماد على الأقليات في وظائف الدولة، فكان بعضهم - في السفارات - يفضِّل إعلاء مصالح بلاده على مصالح الدولة العُثمانية.
وبينما كان الجيش والأسطول في عهد عمِّه السلطان عبدالعزيز قويَّين؛ مما أرهب الروس والفرنسيين والإنجليز، فحاولوا - بواسطة عملائهم - إسقاط السلطان عبدالعزيز في نظر الشعب بالشائعات، فنجَحوا بذلك في تمزيق الجيش والأسطول؛ لتَمزُّق العلاقات بين ضباطه؛ حيث كان البعض يؤيد الأسرة المالِكة والآخَر يُعارضها[7].
جابه السلطان كل هذه المشكلات، وجابهَها وحده بحنكة وذكاء، حتى اعترف له خصومه بالدهاء، وكان يتحيَّن الفرصة؛ لكي تَشتبِك الدول الأوربية في حروب بينها وبين بعضها فتسلم الدولة العثمانية، وعاش - كما يسجل ذلك في مذكراته - سنوات حكمه مُبقيًا على هذا الغرض في نفسه سرًّا لم يُبحْه لأحد؛ قال: "جاهدتُ لكيلا يعزلوني عن العرش طوال ثلاثين عامًا، وجهادي هذا كان مِن أجلِ هذه الفرصة، حبستُ الأسطول ولم أخرجه ولو للتدريب، وحبسي له كان مِن أجل هذه الفرصة، تجاهلتُ الحرب اليونانية لكيلا أدعَ للإنجليز منفذًا للاستيلاء على كريت، وتجاهُلي هذا كان مِن أجلِ هذه الفرصة"[8].
فلم يكن الرجل باحثًا عن مغنَم شخصي، ولكنه كان يعمل لصالح أمته ودولته؛ لأنَّ تصدُّع صفوف أعدائها، وتمزُّق علاقاتها سيُعيد للدولة العثمانية مكانتها في مصافِّ الدول العظمى، وتعود لتصبح مرة أخرى صاحبة كلمة مسموعة في العالم[9].
وعندما قامت حركة الانقلاب ضدَّه مِن "سالونيك"، كان بوسعه أن يأمر جنود جيش الخاصة الذي يُعسكِر في العاصمة على أكمل وجه مِن الاستعداد، وكانوا جنودًا منتخبين مخلصين لمقام الخلافة ولشخصه، وبالرغم مِن أن بعض رجاله نصَح بإيقاف جيش الحركة في الطريق، ولكنه رفض، ولم يَضطرِب إطلاقًا؛ لأنه كان يعلم أنه ليس مِن بين أعماله شيءٌ يخاف منه، وطلب بشدة ألا يَخرج الجيش الموجود في إستانبول من ثكناته، وقد كتب في مذكراته مسجلاً هذا الوقف بأمانة:
"لم أحبَّ أن أريق دماء جنودي، كنت أرى أن الأمة لم تعُدْ تَثِق بي، وكنتُ سأنسحب مِن تلقاء نفسي وأدع مكاني عندما تَسكُن الأمور وتهدأ"[10].
والقارئ لمذكرات الرجل يحسُّ إخلاص الرجل وصدقه وتقواه واهتمامه بأمر أمته، وكاد يَنخلِع قلبه حزنًا وأسى عندما تكرَّرت الأخطاء القاتلة للكماليِّين بعده، ففي عبارة موجزة يضع أيدينا على أحد الأسرار التي جهد الشيخ مصطفى صبري في كشفها، ولاقى الأمرَّين عندما أعلنها في بلاده؛ يقول السلطان: "أسقطَني اتحاديُّو سلانيك عن العرش، وتوصَّلوا إلى اتفاقية مع الإنجليز، ودخلوا الحرب كحليف مع دولة تسود البحار، وكأن المسألة حلم"[11]! ويعلق بعد ذلك على النتيجة المفجعة لأفعالهم بقوله: "ها هم قد هدَموا الدولة العثمانية"[12].
وأعتقد أن الاستطراد في إزالة الأفكار الخاطئة عن السلطان يحتاج إلى بحث مُفرَد آخَر، ولكننا نودُّ في هذا الحيِّز إثبات الأغاليط التي نسجَت خيوطها حول السلطان المظلوم، ونكتفي بذكر بعض الحقائق التي لا لَبس فيها:
1- إنه لم يأمر جيشه الخاص بالدفاع عنه؛ محافظةً على دماء جنوده، وسعيًا وراء حل الأزمات في هدوء، مراعاة لمصلحة الأمة، هذه الواقعة الثانية قد حُرِّفت مع الأسف، فصوَّرها أحد الباحثين بصورة مخالفة تمامًا؛ حيث زعم أنه "جمَعَ العلماءَ لاستصدار فتوى تُحِلُّ له ذلك - أي: الأمر لقواته بمقاوَمة الانقلابيين - فما كان من المجلس - الذي يُعتبَر أعلى مجلس شورى في المسائل الدينية - إلا أن أصدر فتوى تُحرِّم على المسلم أن يُشهر السلاح في وجه أخيه المسلم"[13]!
2- إنه عندما كان في منفاه عقب خلعه عن السلطنة، تقدَّم منه الجيش مطالبًا إياه بممتلكاته - ولم يكن يَملِك إلا بعض المدَّخرات؛ كيلا يقع أولاده في الفقر.
قال ساخرًا في بضعة كلمات تَحمِل دلالات كافية للرد على قمَّة الاستبداد التي أُطلِقت عليه ظلمًا: "أطلقوا عليَّ ذات حين لفظ "المستبد"، ولم يَخطر على بالي مطلقًا أن أمسَّ حتى قشة يَمتلكها أحد الناس طوال سلطنتي، وهم يستصدرون قرارًا حكوميًّا؛ لكي يأخذوا ما تبقى من دريهمات، في يد سلطان سابق، ثم يُسمُّون هذا الفكر المشروطي، وهي هذه الحرية والمساواة والعدالة التي أتوا بها"[14]!
فإذا وسَّعْنا دائرة المقارنة بين إنجازاته وإنجازاتهم يتَّضح الفرق هائلاً؛ حيث كانت ديون الدولة حين توليه الحكم نحو ثلاثمائة مليون ليرة، نجح في تخفيضها إلى ثلاثين فقط - أي: إلى العُشر - بالرغم من نفقات حربَين وعدة تمرُّدات داخلية، وجاء خلفاؤه مِن الكماليِّين فرفعوا الرقم إلىأربعمائة مليون ليرة، دعنا مِن الهزيمة النكراء في الحرب العالمية الأولى التي دخلوها بغير هدف، اللهم إلا لخدمة حلفائهم من الإنجليز!
إن ما حقَّقوه مِن نتائج يَكفي في تقدير السلطان عبدالحميد؛ لكي يظهر الدور الكبير الذي أداه في خدمة أمته، قال في مذكراته: "كانت نفقات عباد الله، ووقودهم، وأدويتهم، لا تفارق تفكيري أبدًا، وأنا لا أذكر هذه الأمور في مَعرض الدفاع عن نفسي؛ لأن الذين حلُّوا محلي دافعوا عني كثيرًا بما فعلوه"، ولكنه - لفرط شعوره بفداحة الكوارث - لا يَمضي في كتابته ليسجِّل باقي أعمالهم؛ لأنه يتذكر في أسًى ما أصاب الدِّين والدولة على أيديهم، فيمضي مستطردًا: "حتى إني كنتُ أشكرهم كثيرًا على هذا، لو لم يظهَر شبح النكسة التي أحلوها بدِيني ودولتي"[15].
حقيقة مدحت باشا:
3- ويبقى الحديث عن مدحت باشا "أبو الدستور" كما وصفوه وأذاعوا عنه.
وقصة اضطهاد السلطان عبدالحميد له مشهورة مدوَّنة في أغلب الكتُب والمراجع، وخلاصتها أنه أمر بمحاكمته؛ لاتهامه في قتل عمه السلطان عبدالعزيز، وعندما أصدرَت المحكمة حكمَها بإعدامه، عفا عنه ونفاه إلى الطائف، ثم أمر بقتله هناك.
وقد نسج خصوم السلطان حول هذه القصة خيوطًا كثيرة مِن نسج خيالهم للإمعان في اتهام الرجل بالاستبداد، ألم يضطهد المدافع عن الدستور ويأمر بقتله؟
فلماذا يُريدون دليلاً أقوى مِن هذا؟
وما أصعب مهمَّة الباحث عندما يتصدى لفكرة أو رواية شائعة، ويتبعها للتأكُّد مِن صحَّتها أو استبعادها ونفيها!!
وإذا كان السلطان عبدالحميد قد دافع عن نفسه مبينًا صحة العلاقة بينه وبين مدحت باشا، فهل نقبل كلامه كخَصمٍ؟
إن من أوليات المبادئ في البحث العلمي ألا نقبَل كلام الخصم على علاته، فكيف تظهر لنا الحقيقة مِن خلال دفاع السلطان عبدالحميد عن نفسه؟
كل هذا صحيح لولا أننا عرضنا بعض مواقفه على أحكام عقلية مجردة، وبمنطق محايد، فوجدنا أيضًا أن السلطان بريءٌ!!
وليقف القارئ معنا على ما استخلصناه مِن المذكرات نُجملها فيما يلي:
أولاً: ارتكب مدحت باشا أخطاء قاتلة تمسُّ الدولة وتقوِّض دعائمها في الداخل والخارج؛ ففي الداخل عيَّن ولاة مِن الأقلية في ولاياتٍ الأغلبية فيها مسلمون، وقرَّر قَبول طلبة من الأروام في المدرسة الحربية التي هي عماد الجيش، ومثل هذه الأعمال تقوِّض الدولة من أساسها[16].
وفي الخارج أراد الزج بالدولة في حرب لا قِبَل لها بها، بينما كان يَجعل قوة الجيش الذي سيزجُّ به في المعركة ضدَّ كلٍّ مِن روسيا وإنجلترا والنمسا والمجر وألمانيا وفرنسا وإيطاليا[17].
واكتشف السلطان عبدالحميد أن سلوكياته تُنافي مبادئ الحرية التي يظهر بها أمام الناس؛ إذ تدخَّل لدى السلطان طالبًا إقالة ناظر المالية الذي عيَّنه ومدَحه، وكان الطلب يدل - بلا شك - على أنه يتنافى مع القانون الأساسي الذي يتزعَّمُه.
أضف إلى ذلك تطلُّعه للسلطة استئثارًا بها بمعاونة أعضاء "تركيا الفتاة"، واشتراكه في تهريب السلطان مراد مِن القصر وهو بملابس النساء، توطئةً لخَلعِ السلطان عبدالحميد وتنصيب مراد بدلاً منه.
ودعنا مِن ثبوت صلته بالماسونية التي كانت دائبةً على إثارة الفِتَن، وتُحرِّكها إنجلترا.
إذًا لو استمر مدحت باشا في منصبه - بناءً على هذه التصرفات - لاهتزَّت الدولة مِن أساسها لا سيما أن مدحت باشا كان متعاونًا مع الإنجليز، وإزاء هذا كله اضطر السلطان عبدالحميد إلى إقصائه، ودوَّن في مذكراته الكلمات التالية:
"كنتُ أرى أن الصدر الأعظم - أي: مدحت باشا - يؤيد الإنجليز ويتعاوَن معهم، سواء بدافع من ماسونيته أو بدافع مِن أسباب أخرى خاصة جدًّا به، ولم أعد أَحتمِل، فاستندت إلى صلاحياتي في القانون الأساسي وعزلته عن الصدارة العُظمى، وأبعدته خارج الحدود"[18].
ثانيًا: حقيقة صلة مدحت باشا بالإنجليز - إما مباشرة أو عن طريق عوني باشا - وكان قائدًا عسكريًّا - حيث علم السلطان عبدالحميد مِن سفيره بإنجلترا أنه أخذ مِن الإنجليز أموالاً، ظهرت آثارها المؤكَّدة في الهدايا التي أغدقَها عوني باشا على أصدقائه المقرَّبين عقب عودته من أوربا.
وذهل السلطان عبدالحميد لقبول قائد عسكري لرشوة من دولة أجنبية، وأثارت في ذهنه خاطرًا آخَر؛ حيث كان هذا القائد مشتركًا في إقصاء عمِّه السلطان عبدالعزيز، وتفسير ذلك واضح وضوح الشمس، فإن رجلاً من رجال الدولة "يأخذ مالاً مِن دولة أخرى لا بد وأن يكون قد تمَّ لها خدمات، ويعني هذا أيضًا أن خَلْع المرحوم - بإذن الله تعالى - عمِّي السلطان عبدالعزيز وتولية السلطان مراد العرش بدله، لم يكن حقدًا فقط مِن حسين عوني باشا، ولكنه مرضاة لرغبة دولة أخرى"[19].
وقد ثبت تاريخيًّا أن مدحت باشا اتَّفق مع كل من رشدي باشا وحسين عوني باشا على عزل السلطان عبدالعزيز[20].
ثالثًا: فما تفسير ذلك ووقعه في نفس السلطان عبدالحميد؟ إنه أمام تصرُّفات مُنحرِفة لرجلين من كبار رجال الدولة، فماذا يفعل؟
كان وقع حصول حسين عوني باشا على أموال مِن إنجلترا شديدًا في نفسه، ومعه حقٌّ، فسجل ذلك في مذكراته بقوله:
"لم يَهزَّني شيء في حياتي هزًّا ضخمًا قدر شخص يرتفع إلى مقام قيادة الجيش أو إلى مقام الصدارة العظمى ويقبَل نُقودًا مِن دولة أجنبية؛ هذا شيء أكثر من احتمالي".
ثم يسجِّل نفس التأثير للصلة بين عوني باشا ومدحت باشا، ولكن دور الثاني أكثر خطورة، فإذا كان "مدحت باشا عابرًا نفس الطريق، فإذًا هذا يعني أن الدولة وقعَت في الشرَك"[21].
وزاد وقع ذلك في نفسه أنه عندما عزله لم يَثُر الشعب ولم يبحَث عنه أحد حتى من أقرب المقربين إليه! ولكن الذي تأثر وتدخَّل هي إنجلترا، فقامت الدنيا فيها وقعدت، وكان السلطان يتوقع هذا؛ "فمِن الطبيعي - وقد تعاون مدحت باشا مع إنجلترا وأيَّدها - أن تُعاونه وتؤيده". كان الإنجليز يعرفون أن الإصلاحات التي يوصون بها مِن شأنها أن تُغرِق الدولة العثمانية سريعًا، تمامًا مثلما أعرف أنا"[22].
ويدهشنا مع هذه الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها مدحت باشا أن السلطان عبدالحميد كان على استعداد للصفح عنه؛ لأن السلطان عنده يعني العفو ولا يعني توقيع الجزاء، ولأن الإنسان أسمى مِن ألف خير، هكذا فهِم رُوح الإسلام[23].
ولكنه لم يستطح تجاهل اشتراك مدحت باشا في قتْل عمه السلطان عبدالعزيز؛ لما يحمله من دلالات الإجرام ضدَّ الدولة والأسرة الحاكمة.
وعندما حوكم وأدين، كان السلطان عبدالحميد أيضًا على استعداد للعفو عنه، ولكن مدحت باشا قتل نفسه بنفسه، ونعني بذلك القتل المعنوي؛ لأنه كان قد لجأ للقنصلية الإنجليزية، فلما وجد القنصل في عطلة لجأ إلى القنصلية الفرنسية واحتمى بها.
ولنتصوَّر وقع هذا التصرف في نفوسنا قبل وقعه في نفس السلطان عبدالحميد، لقد كان الرجل في حالة ذهول؛ لما لهذا الحادث مِن دلالات، فكتب يسجل ذلك بقوله: "لا يوجد مثيل لهذا في تاريخ دولتنا بكامله، هذه الحادثة أحنَت رأس العثماني أمام الصديق وأمام العدو، اغتمَّت نفسي وأحسستُ بالمهانة عندما علمت بهذه الحادثة؛ ذلك لأن هذا التصرف الذي أقدم عليه أثقل وطْأً من الجريمة المُدَّعى عليه فيها؛ إنه تصرُّف لا يُمكن الصفحُ عنه"[24].
ولكنه عندما تذكر للمرة الأخيرة خدماته للدولة خفَّف حكم الإعدام إلى السجن!
وبعد ذلك هل نصدِّق رواية الأمر بقتله؟!
يأبى الفِكر السليم تصديق ذلك؛ لأنه كان بوسعه إمضاء حكم الإعدام الذي أصدرته المحكمَة، فكيف به يأمر بقتله فينسب إليه القتل بعد أن كان بحكم المَحكَمة؟!
رواية لا يصدِّقها العقل، لا سيما إذا تعمقنا في التحليل النفسي للسلطان عبدالحميد الذي منع جنوده من مقاومة الكماليِّين كما تقدَّم، والذي تعرَّض للاغتيال مرة أثناء ذهابه لتأدية صلاة الجمعة، فساق جياد عربته بمفرده لا يلوي على شيء، وكانت المشكلة - لا في حياته التي تعرَّضت للخطر - ولكن الموتى والجرحى[25].
وتكرَّرت محاولة اغتياله؛ حيث أطلق عليه أحد الضباط رصاصة في منفاه فأخطأته، لم يخَف من الموت، ولكنه "اشمأز" من محاولة "اغتياله"؛ فإن الموت - هكذا كتب - وصال الإنسان بلغ سن الشيخوخة، ولكن القتل كان مصدر نفوري حياتي، والذين مارسوا الضغط عليَّ غالبًا ما اكتشفوا فيَّ هذا الإحساس"[26].
ونعتقد أن هذا التحليل يصل بنا إلى استبعاد قَتلِه لمدحت باشا تمامًا، ومع هذا فإن السلطان عبدالحميد كان قد علم بالتُّهمة الموجَّهة إليه، ولم يُلقِ لها بالاً، ولنقرأ تعليقه المليء بالتقوى والإيمان.
قال: "يريدون أن يُلقوا عليَّ تَبعة مسؤولية موته، فليلقوا، فغدًا عندما نمثل أمام رب العالمين سيكون وجهي أبيضَ، وجبهتي ناصعة، وإذا كنت سأحاسب في هذه المسألة، فإن ربي قد يُحاسبني لأنني عفوتُ عن صدر أعظم أهان دولته، وأنا راضٍ بجزاء الله في هذا السبيل"[27].
تم بحمد الله تعالى.
[1] كما وصفها الشيخ محمد شاكر؛ ينظر كتاب: الاتجاهات الوطنية (2: 38).
[2] من الدراسات المُنصِفة للسلطان عبدالحميد ما ذكره الأستاذ محمد جميل بيهم في كتابه "فلسفة التاريخ العثماني" إن السلطنة حين جلس عبدالحميد على العرش كانت مثقلة بالمتاعب تواجه أشد الأزمات، فشهدت في عهده نشاطًا كبيرًا في العراق، وامتدت السكك الحديدية في ولاياتها الأوربية والآسيوية، وأقيمت المرافئ المتعددة، وأنشئ الخط الحجازي بين دمشق والمدينة المنورة، ولم يكن للأجنبي فيه صلات مالية (2: 162)، الطبعة الأولى سنة 1954 م.
[3] الإسلام قوة الغد العالمية (ص: 92)، ترجمة د. محمد شامة، مكتبة وهبة 1394 هـ 1974 م.
[4] نفسه (ص: 92)، ثم يقول: "في يوليو سنة 1908 هبَّت العاصفة ضد عبدالحميد وضدَّ "الأفكار السياسية" التي كان يمثلها".
[5] مذكرات السلطان عبدالحميد (ص: 65) ترجمة وتقديم وتحقيق وتعليق د. محمد حرب عبدالحميد، دار الأنصار بالقاهرة سنة 1978م، ويقول (ص: 64)، "يمكن للصليب أن يتَّحد في كل وقت، لكن الهلال دائمًا بمفرده).
[6] محمد فريد: تاريخ الدولة العلية العثمانية (ص: 392، 393)، مطبعة محمد أفندي مصطفى بمصر جمادى الثانية 1311هـ، ديسمبر سنة 1983م.
[7] مذكرات السلطان عبدالحميد (ص: 63، 64).
وكان السلطان عبدالعزيز قد أعد الأسطول العثماني إعدادًا هائلاً؛ بحيث جعله الأسطول الثالث في العالم آنذاك، ورفع القوات البرية إلى سبعمائة ألف جندي، وجهز الجيش العثماني بأحدث الأسلحة.
"تعليق الدكتور محمد حرب عبدالحميد (ص: 135) من المذكرات".
[8] مذكرات السلطان عبدالحميد (ص: 61).
[9] نفسه (ص: 62)، وقارن السلطان في مذكراته بين رعايا الدول العثمانية ورعايا اليابان، فأذهلته المقارنة؛ لأن سكان اليابان عنصر واحد، بينما يتكون سكان بلاده مِن أكراد وأرمن وأتراك ويونان وعرب وبلغار، وكانت إحدى المصائب الكبرى أن الذين حكموا البلاد بعده أزالوا الخلاف بين الدول المعادية، وأوجدوه بين العناصر التي تؤيد الدولة بالداخل (ص: 97).
[10] مذكرات السلطان عبدالحميد (ص: 97).
[11] المذكرات (ص: 70).
[12] نفسه (ص: 57).
[13] باول شمتز: الإسلام قوة الغد العالمية (ص: 93).
[14] مذكرات السلطان عبدالحميد (ص: 112).
[15] مذكرات السلطان عبدالحميد (ص: 24).
[16] المذكرات (ص: 44).
[17] نفسه (ص: 42)، قدر عدد الجيش أولاً بمائتي ألف جندي، بينما علم السلطان عبدالحميد مِن الغازي أحمد مختار أن لديه تحت قيادته ثلاثين ألف جندي فقط!
[18] مذكرات السلطان عبدالحميد (ص: 44).
[19] مذكرات السلطان عبدالحميد (ص: 39)، ويذكر أيضًا أنه يسعى للسلطة باسم آل مدحت بدلاً من آل عثمان (ص: 43).
[20] تعليق الدكتور محمد حرب عبدالحميد (ص: 136) بنفس المصدر، وكان السلطان عبدالحميد يشكو من أعوانه، قال "ما استبدلتُ وزيرًا بآخر إلا ورأيت مِن مساوئ الخلف ما أَسفتُ معه على السلف، ولا مناص مِن الصبر"؛ أنور الجندي: العروبة والإسلام (ص: 74)، فماذا يفعل الرجل وحده؟ وماذا تفعل أي طلائع أخرى ما دامت القاعدة العريضة والصفوة الخاصة قد أصابها الوهَن، واستبدت بها عوامل الضعف والخيانة؟
[21] مذكرات السلطان عبدالحميد (ص: 41).
[22] نفسه (ص: 44).
[23] ويعترف السلطان عبدالحميد بأن مدحت باشا كان يتمتَّع بميزات كثيرة، فلم يكن مخطئًا على طول الخط! (ص: 45)، من المذكرات.
[24] المذكرات (ص: 46).
[25] المذكرات (ص: 107).
[26] المذكرات (ص: 107).
[27] نفسه (ص: 47)، هذا وقد أرجأنا بيان صلة مدحت الوثيقة باليهود بعد العرض الموضوعي لمواقفه المشينة، وربما يُغنينا عن الإضافة في الشرح والتحليل أن نُعرِّف القارئ بأن والد مدحت كان حاخامًا يهوديًّا!؛ "إعادة النظر في كتابات العصريِّين في ضوء الإسلام"؛ الأستاذ أنور الجندي (ص: 48) دار الاعتصام، ط 1985.