حفظ اللسان عن الغيبة
وحيد عبد السلام بالي
وقال عمر رضي الله عنه: عليكم بذكر الله؛ فإنه شفاء، وإياكم وذكر الناس؛ فإنه داء.
- التصنيفات: تزكية النفس - الآداب والأخلاق -
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12].
وعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ»؟[1].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ»[2].
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي المسلمين أفضل؟ قال: «مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ، وَيَدِهِ»[3].
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ»[4].
وعن أبي برزة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العواتق في بيوتهن، قال: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ»[5]؛ رواه أبو داود بإسناد جيد، قاله الحافظ العراقي[6].
وقال الحسن البصري: والله، للغيبة أسرع في دين الرجل من الأكلة في الجسد.
قال الحسن أيضًا: يا بن آدم، إنك لن تصيب حقيقة الإيمان حتى لا تعيب الناس بعيب هو فيك، وحتى تبدأ بصلاح ذلك العيب، فتصلحه من نفسك، فإذا فعلت ذلك كان شغلك في خاصة نفسك، وأحب العباد إلى الله من كان هكذا.
وقال عمر رضي الله عنه: عليكم بذكر الله؛ فإنه شفاء، وإياكم وذكر الناس؛ فإنه داء.
وذكر الإمام مالك رحمه الله: أن عيسى ابن مريم عليه السلام قال: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فتقسموا قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون.
ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، فإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية[7].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ» ؟»، قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»[8].
ورُوي عن الحسن البصري رحمه الله أن رجلًا قال له: إن فلانًا قد اغتابك فبعث إليه الحسن رطبًا على طبق، وقال: قد بلغني أنك أهديت إلي من حسناتك، فأردت أن أكافئك عليها، فاعذرني فإني لا أقدر أن أكافئك على التمام!
لكن ما الغيبة؟
لقد عرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ»، قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ» قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ، فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ»[9] (رواه مسلم، والترمذي وقال: حسن صحيح).
قال الغزالي رحمه الله: اعلم أن حد الغيبة: أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه، سواء ذكرته بنقص في بدنه، أو نسبه، أو في خلقه، أو في فعله، أو في قوله، أو في دينه، أو في دنياه، حتى في ثوبه، وداره، ودابته.
أما في البدن، فذكرك العمش، والحول، والقرع، والقصر، والطول، والسواد، والصفرة، وجميع ما يتصور أن يوصف بما يكرهه كيفما كان.
وأما النسب: فبأن يقول: أبوه نبطي، أو هندي، أو فاسق، أو خسيس، أو إسكافي، أو زبال، أو شيء مما يكرهه كيف كان.
وأما الخلق: فبأن تقول: هو سيئ الخلق، أو بخيل، أو متكبر مُراء، أو شديد الغضب، أو جبان عاجز، أو ضعيف القلب، أو متهور، وما يجري مجراه.
وأما في أفعاله المتعلقة بالدين: فكقولك: هو سارق، أو كذاب، أو شارب خمر، أو خائن، أو ظالم، أو متهاون بالصلاة أو الزكاة، أو لا يحسن الركوع أو السجود، أو لا يحترز من النجاسات، أو ليس بارًّا بالوالدين، أو لا يضع الزكاة موضعها، أو لا يحسن قسمتها، أو لا يصون صومه عن الرفث والغيبة والتعرض لأعراض الناس.
وأما في أفعاله المتعلقة بالدنيا: فكقولك: إنه قليل الأدب، متهاون بالناس، أو لا يرى لأحد على نفسه حقًّا، أو يرى لنفسه الحق على الناس، وأنه كثير الكلام، كثير الأكل، نؤوم نيام في غير وقت النوم، ويجلس في غير موضعه.
وأما في ثوبه: فكقولك: إنه واسع الكم، طويل الذيل، وسخ الثياب؛ ا.هـ[10].
ما يباح من الغيبة:
قال النووي رحمه الله: اعلم أن الغيبة تباح لغرض صحيح وشرعي، لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وهو بستة أسباب:
الأول: التظلم، فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما بمن له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه، فيقول: ظلمني فلان بكذا.
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر، ورد العاصي إلى الصواب، فيقول: لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر، فإن لم يقصد ذلك كان حرامًا.
الثالث: الاستفتاء فيقول للمفتي: ظلمني أبي أو أخي أو زوجي، أو فلان بكذا، فهل له ذلك؟ وما طرقي في الخلاص منه، وتحصيل حقي، ودفع الظلم، ونحو ذلك، فهذا جائز للحاجة، ولكن الأحوط والأفضل أن يقول: ما تقول في رجل أو شخص أو زوج كان من أمره كذا، فإنه يحصل به الغرض من غير تعيين، ومع ذلك فالتعيين جائز كما سنذكره في حديث هند إن شاء الله تعالى.
الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم، وذلك من وجوه:
منها: جرح المجروحين من الرواة، والشهود، وذلك جائز بإجماع المسلمين، بل واجب.
ومنها: المشاورة في مصاهرة إنسان، أو مشاركته، أو إيداعه، أو معاملته، أو مجاورته، أو غير ذلك.
ويجب على المشاور ألا يخفى حاله، بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة.
ومنها: إذا رأى متفقهًا يتردد إلى مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم، وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك، فعليه نصيحته ببيان حاله بشرط أن يقصد النصيحة، وهذا مما يغلط فيه، وقد يحمل المتكلم بذلك الحسد، ويلبس الشيطان عليه ذلك، ويخيل إليه أنها نصيحة، فليتفطن لذلك.
ومنها: أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها، إما بأن لا يكون صالِحًا لها، وإما بأن يكون فاسقًا أو مغفلًا، ونحو ذلك، فيجب ذكر ذلك لمن له عليه ولاية عامة؛ ليزيله ويولي من يصلح، أو يعلم ذلك منه ليعامله بمقتضى حاله، ولا يغتر به، وأن يسعى في أن يحثه على الاستقامة أو يستبدل به.
الخامس: أن يكون مجاهرًا بفسقه أو بدعته، كالمجاهر بشرب الخمر، ومصادرة أموال الناس وأخذ المكس، وجباية الأموال ظلمًا، وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يجاهر به، ويحرم ذكره بغيره من العيوب، إلا أن يكون لجوازه سبب آخر مما ذكرناه.
السادس: التعريف إذا كان الإنسان معروفًا بلقب كالأعمش، والأعرج، والأصم، والأحول، وغيرها جاز تعريفهم بذلك، ويحرم إطلاقه على جهة التنقيص، ولو أمكن تعريفه بغير ذلك، كان أَولى.
قال: فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء، وأكثرها مجمع عليه، ودلائلها من الأحاديث الصحيحة المشهورة فمن ذلك: عن عائشة رضي الله عنها أن رجلًا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ائْذَنُوا لَهُ، بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ»[11].
احتج به البخاري في جواز غيبة أهل الفساد، وأهل الريب.
وعنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا أَظُنُّ فُلاَنًا وَفُلاَنًا يَعْرِفَانِ مِنْ دِينِنَا شَيْئًا»[12]، رواه البخاري، قال: قال الليث بن سعد أحد رواة هذا الحديث: هذان الرجلان كانا من المنافقين.
وعن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أبا جهم ومعاوية خطباني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا أَبُو جَهْمٍ، فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ [13] لَا مَالَ لَهُ»[14]، وفي رواية لمسلم: «وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَرَجُلٌ ضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ»، وهو تفسير لرواية: «فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ». وقيل: معناه كثير الأسفار.
وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر أصاب الناس فيه شدة، فقال عبدالله بن أبي: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فأرسل إلى عبدالله بن أبي، فاجتهد يمينه ما فعل، فقالوا: كذب زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقع في نفسي مما قالوا شدة، حتى أنزل الله تصديق ذلك: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]، ثم دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر لهم، فلوَّوا رؤوسهم[15].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قالت هند امرأة أبي سفيان للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه، وهو لا يعلم، فقال: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ، بِالْمَعْرُوفِ» [16]؛ ا.هـ كلام النووي رحمه الله[17].
[1] متفق عليه: رواه البخاري رقم (1741) في «الحج» باب الخطبة أيام منى، ومسلم رقم (1218) في «الحج» باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.
[2] صحيح: رواه مسلم رقم (2564) في «البر والصلة» باب تحريم ظلم المسلم.
[3] متفق عليه: رواه البخاري رقم (11) في «الإيمان» باب أي المسلمين أفضل، ومسلم رقم (42) في «الإيمان» باب بيان تفاضل أهل الإسلام.
[4] رواه البخاري رقم (10) في «الإيمان» باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.
[5] حسن صحيح: رواه أبو داود رقم (4880) في «الأدب» باب في الغيبة، وأحمد في «المسند» (4/ 420)، وهو في «صحيح الجامع» رقم (7984).
[6] تخريج إحياء علوم الدين (1597).
[7] الموطأ (2/ 986).
[8] صحيح: رواه مسلم رقم (2581) في «البر» باب تحريم الظلم، والترمذي رقم (2418) في «صفة القيامة» باب ما جاء في شأن الحساب والقصاص.
[9] صحيح: رواه مسلم رقم (2589) في «البر» باب تحريم الغيبة، وأبو داود رقم (4874) في «الأدب» باب في الغيبة، والترمذي (1934) في «البر».
[10] تخريج إحياء علوم الدين (1600).
[11] متفق عليه: رواه البخاري رقم (6054) في «الأدب» باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد، ومسلم رقم (2591) في «البر والصلة» باب مداراة من يتقى فحشه.
[12] صحيح: رواه البخاري رقم (6067) في «الأدب» باب ما يجوز من الظن.
[13] صعلوك: فقير.
[14] صحيح: رواه مسلم رقم (1480) في «الطلاق» باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها، ومالك في «الموطأ» (2/ 580).
[15] متفق عليه: رواه البخاري (4902) في التفسير باب قوله: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ﴾ [المنافقون: 4]، ومسلم رقم (2772) في صفات المنافقين.
[16] متفق عليه: رواه البخاري (5364) في «النفقات» باب خدمة الرجل في أهله، ومسلم رقم (1714) في «الأقضية» باب قضية هند.
[17] رياض الصالحين (2/ 838).