صدى النفير

ولا زال إلى اليوم صدى النداء النبوي بالنفير يخترق أطباق الزمن التي تفصلنا عن ساعة العسرة تلك، وسيبقى ما بقي القرآن، تسمعه الأجيال المتعاقبة إلى قيام الساعة.

  • التصنيفات: فقه الجهاد -

في سنة تسع للهجرة، نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنفير إلى تبوك، فزحفت القبائل تجاه المدينة وتقاطرت من كل حدب وصوب لتنضم إلى المهاجرين والأنصار تحت راية رسول الله، ونزلت الآيات تستحثّ الناس للنفرة وتذم التثاقل والتباطؤ عن ذلك، بل وتذكرهم بأن الله -عز وجل- نصر نبيه صلى الله عليه وسلم يوم كان هو وصاحبه مطاردين مطلوبين تتلمظ لدمائهما سيوف قريش، وكأن آياته تعالى بهذا التذكير توحي لأهل المدينة بأنه إن تثاقلتم عن نصرته فالله غني عن نصرتكم له وقادر على ذلك لوحده -سبحانه-:

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 38 - 41].

 

وقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبًا في الناس مرغبًا في النفقة لتجهيز الجيش الغازي، فانطلق الناس لبيوتهم ليخرجوا أنفسَ ما فيها، فها هو أبو بكر يأتي بماله فيسأله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ فيقول: أبقيت لهم الله ورسوله! فلم يعقب النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بشيء لعلمه بشموخ يقين أبي بكر -رضي الله عنه- بما عند الله. وهذا عمر يأتي بنصف ماله، وذاك عبدالرحمن بن عوف يحمل الدنانير والدراهم ثم ينثرها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجيء عثمان – وما أدراك ما عثمان- بمئات الركائب بأحلاسها وأقتابها تثير الغبار في طرقات المدينة وقفًا في سبيل الله ومعها قرابة مئة خيل أيضًا! هذا غير الدنانير المذهبة التي أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها في حجره فرحًا بصنيع عثمان، حتى قال له: ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم! بل حتى النساء أتين بقرطهن وخواتمهنّ يشاركن بها تجهيز جيش العسرة، وأيضًا أولئك الفقراء جادوا بأنفس ما لديهم تحت أسقف بيوتهم المتهالكة -إن كان لهم بيوت-: جادوا بصاع أو نصف صاع من تمر لا يملكون إلا هو، منهم أبو عقيل -رضي الله عنه- الذي لمزه المنافقون فقالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا، فأنزل الله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79].

 

ولا زال إلى اليوم صدى النداء النبوي بالنفير يخترق أطباق الزمن التي تفصلنا عن ساعة العسرة تلك، وسيبقى ما بقي القرآن، تسمعه الأجيال المتعاقبة إلى قيام الساعة.

 

ولكن النفير اليوم وقبل اليوم أنواع منوعة، ويختلف باختلاف الأحوال والأزمنة والأشخاص والقدرات وغير ذلك، لكنه باقٍ! إن نداءات النفير تلك تسع النفير في سبيل العلم، وفي سبيل الدعوة، وفي سبيل الإغاثة، وفي سبيل المشاريع الخيرية، تسع النفير في سبيل الحق بأي شكل وصورة!.

 

فلبّ النفير كأبي بكر أو عثمان أو كصاحب الصاع ونصف الصاع!.

 

إن الممسك محبرته يخط قول شيخه قد لبى النداء النبوي للنفير، والمفني عمره في ميادين الدعوة وتوجيه النشء قد حط رحاله قريبًا من المدينة، وكل من سال عرقه في سبيل الحق قد انضم لجيش العسرة -بإذن الله-.

 

ولكن الطريق إلى الحق طويلة مضنية تحفها المشاق وتطيلها أقوال المنافقين وتخيف سالكها شراسة العدو، فكلما تثاقلت الخطى، ودب الهوان، وتسلل الخوَر إلى السالك تذكّر قوله تعالى: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 39]. فينهض من جديد، ويقتلع الخطى يتبع أثر جيش العسرة، كما كان أبو خيثمة، وكلما خذَله المترفون، ورأى تساقط المنعمين في الطريق، وأعياه الحق على ظهره، رتل قول الله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41]، وكلما اشتدت حرارة شمس الظروف والأعذار وهزلت الراحلة وقلّ الزاد أزّه للمسير هاجس الاستبدال واللا مكانة عند الله تعالى، والسقوط من نظر الله: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 39].

 

إن النفير للمحراب، والنفير للبذل والعطاء، وللدعوة والتوجيه، وأيضًا للإمساك عن المعاصي والإحجام؛ يحتاج رسوخ مثل هذه الآيات في قلب العبد، حتى تقوم مقام الواعظ فيه يتلوها عليه كلما ضعف؛ فتتلجلج في أعماقه كلما قُيِّد عن طاعة، أو هم بمعصية، فتهون الأولى، وتصعب الثانية.

 

وكما أن هناك من ينادي بالنفير للحق بمفهومه الواسع، فهناك من يخذل عنه تصريحًا أو تضمينًا، قام به منافقو ذاك الزمان، وتمثله اليوم وسائل إعلام ومنصات اجتماعية ومواقع إلكترونية ومجالس فكرية وربما -أحيانًا-مناصب يلبس أصحابها جبة التنسك والطاعة، ولذلك خَفْ منها، وفر فرارك من الأسد، فالتعرض لها له هالة تعمي عن الحق، وتغر النفس؛ فيتحكم الهوى حتى يغلب العقل فيقعد عن النفير، والحقيقة: {كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46].

 

ولقد جعل القرآن للمنصف نفسَه ميزانًا عقلانيًا يزن فيه بين أمرين (دنيوي وأخروي)، وذلك حين يتأخر عن النفير في سبيل الحق سواء كان طلبًا للعلم، أو حفظًا للقرآن، أو انضمامًا للجمعيات الخيرية والمكاتب الدعوية، أو غير ذلك من سبل النفير – وهذا الميزان يتمثل في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} [التوبة: 42]، فلله عبد أنصف ربه من نفسه، ونظر إلى سعيه وجهده وبذله وقته وماله في تحقيق مطامعه الدنيوية كيف لا يكون له مثلها في نصرة الحق وإعلاء رايته؟ أم بعدت عليه الشقة؟!

 

لقد ساد المجتمعُ المدني العالمَ يومها وهزم الإمبراطورية الرومانية التي كانت القوة العاتية الأولى في الأرض بفضل الله ثم بفضل سعي كل طبقات المجتمع في نصرة الحق وفي تجهيز جيش العسرة: الغني والفقير، الرجال والنساء، الكبار والصغار، فكانت النتيجة إحجام العدو وفضح المنافقين! واليوم – والحال شديد العسرة- بقدر ما يقدم أفراد المجتمع من عطاء وإنفاق وبذل لإعلاء كلمة الحق يتحقق النصر، سواء كان نصرًا على المستوى الفردي أو المجتمعي أو العالمي، أو كان نصرًا معنويًّا أو حسيًّا.

____________________________

الكاتب: عبدالله بن سعود آل معدي