هل بت ليلة شاكرا؟
نجلس على مائدة مليئة بأصناف الطعام، نتناول الطعام بأيدينا وإلى أفواهنا، نتنفَّس بلا أجهزة، أعضاء أجسادنا تعمل بانتظام، فجَفْن العين يطرف ويرتد بسهولة، الكُلَى تعمل بلا مُعين ولا تحتاج تنظيفًا يوميًّا، ننام في غرفة هادئة مطمئنِّين على أنفسنا وأهلينا..
- التصنيفات: الحث على الطاعات -
قال الله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، سبحان من أسبغ علينا النعم، وجعل إحصاءها عسيرًا علينا، نصبح بنعمة، بل بنِعم، ونمسي بِنعم أكثر، ولم يُوجِبْ علينا إحصاءَها، بل أرشدنا لشكرها، وهو حقُّه علينا، ومن أهمِّ نِعمه نعمة الهداية للإسلام، التي قد فقدها كثير من الناس، ونعمة القرآن الذي نتلوه ونستمع له آناء الليل والنهار، فنسأله أن يلهمنا شكرها، والقيام بحقها.
تعريف الشكر:
لغة: الثناء على المحسِن بما أَوْلاكَه من المعروف، يقال: شكرتُه وشكرْتُ له، وباللام أفصح[1].
اصطلاحًا: عكوف القلب على محبة المنعِم، والجوارح على طاعته، وجريان اللسان بذكره والثناء عليه[2].
أركان الشكر:
1- الخضوع التام للمشكور، وافتقاره إليه؛ فهو صاحب الفضل والمِنة، ورؤيته أنه ليس أهلاً لتلك النعمة.
2- محبة المشكور: والمرء مجبول على حُبِّ مَن أحسن إليه.
3- الاعتراف بالنعمة: بنسبتها للمُنعم بها، واستحضارها في الذهن، فعدم تذكُّرها لا يكون شكرًا.
4- الثناء على الله بها: بأن يثني على الله بالجُود والكرم، وينسبَ النعمة له، ويخبر الناس بحصول هذه النعمة له؛ لقوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «التحدث بالنعم شكر، وتركها كُفر»[3].
5- صرفها في طاعة الله: إذ إن الله سخَّر لنا هذه النعمة لنستعين بها على عبادته، فمن استعان بها في غير ما سُخِّرت له، لم يكُ شاكرًا لها.
الفرق بين الشكر والحمد:
• الشكر أعم موردًا؛ فهو بالقلب واللسان والجوارح، وأخصُّ متعلَّقًا؛ فتشكر المرء على فضله وإحسانه لك، ولا تشكره على مظهره وصفاته.
• الحمد أخصُّ موردًا؛ فهو باللسان فقط، وأعمُّ متعلقًا، فتحمد المرء على صفاته ومظهره، وعلى إحسانه لك ومعروفه.
ثمار الشكر:
1- الأمان من عذاب الله: قال تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147]، قال قتادة: إن الله لا يعذِّب شاكرًا ولا مؤمنًا[4]، فقد نجَّى الله نبيه لوطًا عليه السلام من عذاب قومه، فقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَر} [القمر: 34، 35]، فكان شكره من أسباب نجاته من العذاب.
2- الرضا: قال تعالى: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]، قال أبو السعود: ورضاه بشكرهم لأجلهم ومنفعتهم؛ لأنه سبب فوزهم في الدارين[5]، وإلا فالله لا ينفعه شكرُ الشاكر، ولا يضره كفرُ الكافر.
3- الزيادة: قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، وهذا وعد حق من الله، واللهُ لا يخلف وعده.
4- الجزاء العظيم: قال تعالى: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، وجزاؤه عام في الدنيا والآخرة.
شكر الأنبياء:
• نوح عليه السلام: قال الله عز وجل عنه: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3].
• إبراهيم عليه السلام: قال الله عز وجل في مَعرِض ثنائه على إبراهيم عليه السلام: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} [النحل: 121].
• لوط عليه السلام: قال الله عز وجل في منَّته عليه بالنجاة من عذاب قومه: {كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} [القمر: 35].
• محمد صلى الله عليه وسلم:
كان يقومُ الليلَ حتى تتفطَّر قدماه، فكان يقول لعائشة رضي الله عنها: «أفلا أكونُ عبدًا شكورًا»؟[6].
مواضع الشكر:
1- الشكر على النعمة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافًى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حِيزَتْ له الدنيا»[7].
2- الشكر على دفع النقمة، فيرى مصابًا في دينه أو بدنه أو ماله أو ولده؛ فيشكر الله على أن دفع عنه النِّقمة التي أصابتْ غيره.
3- الشكرُ عند المصائب، وذلك بالصبر عليها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمرِ المؤمنِ، إن أمرَه كلَّه خيرٌ، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمنِ، إن أصابتْه سراءُ شكرَ؛ فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر؛ فكان خيرًا له»[8]، نقل ابن حجر رحمه الله قولَ بعض الأئمة: الصبر يستلزم الشكر ولا يتم إلا به، وبالعكس فمتى ذهب أحدهما ذهب الآخر، فمن كان في نعمة ففرضُه الشكر والصبر، أما الشكر فواضح، وأما الصبر فعنِ المعصية، ومن كان في بلية ففرضُه الصبر والشكر، أما الصبر فواضح، وأما الشكر فالقيام بحق الله عليه في تلك البلية، فإن لله على العبد عبوديةً في البلاء كما له عليه عبودية في النَّعماء[9].
وقفات مع الشكر:
• قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك، فمنك وحدك لا شريك لك؛ فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدَّى شكر يومه، ومَن قال ذلك حين يمسي، فقد أدَّى شكر ليلته»[10]، فكم منا من يدرك كلَّ صبح أن الدنيا قد حِيزَتْ له؟!
• قد كان الحسن البصري رحمه الله يُردِّد في ليلة قولَه تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، فقيل له في ذلك، فقال: إن فيها لمعتبرًا، ما نرفع طرفًا ولا نردُّه إلا وقع على نعمة، وما لا نعلمه من نِعم الله أكثر[11].
• وقرأ الفُضَيْل بن عياض رحمه الله قول الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} [البلد: 8]، فبكى، فُسئل عن بكائه، فقال: هل بتَّ ليلة شاكرًا لله أن جعل لك عَينَيْنِ تُبصِرُ بهما؟ هل بتَّ ليلةً شاكرًا لله أن جعل لك لسانًا تنطق به؟ وجعل يُعدِّدُ من هذا الضرب[12].
• وقال ابن القيم رحمه الله: الذِّكْر رأس الشُّكر، والشكر جلاَّب النِّعم، ومُوجِب للمزيد، قال بعض السلف رحمة الله عليهم: ما أقبحَ الغفلةَ عن ذِكر من لا يَغفل عن ذكركَ![13].
• وعندما ذكر الله في سورة العاديات أن الإنسان بطبعه كنود عندما تصيبه مصيبة ينسى جميع النِّعم، فأقسم على شدة جحوده بالعاديات - وهي: الخيل - ومناسبة ذلك تذكير الجاحد بأن الخيل لا يَنسَى فضل مالكه عليه، فيُورد نفسه المهالك لأجله؛ تقديرًا لنعمة المنعم، فاحذر أيها المؤمن الفَطِن أن تكون البهيمة خيرًا وأوفى منك[14].
وكم مرت بنا آية ختمها الله بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 52]! فقد جاءت بعد رخصة المسافر والمريض في الصيام، ورخصة التيمُّم عند عدم الماء، وبعد مِنَّته بالإواء والنصر والرزق، وبعد التيسير في كفارة اليمين لمن لم يستطِعِ الإطعام والكسوة وتحرير الرقبة؛ فإن له الصيام، وجاءت بعد ذِكر نعمة تسخير البحر وما فيه، ونعمة إنشاء السمع والبصر والفؤاد، ونعمة تسخير البدن لنا، ونعمة الليل والنهار، ونعمة المطر، ونعمة الماء العَذْب.
من مظاهر النِّعم في حياتنا اليومية - الكثير يملكها -:
نسمع الأذان، نتوضأ بلا مُعين، نصلي قيامًا، نرى المصحف بأعيننا، نجلس على مائدة مليئة بأصناف الطعام، نتناول الطعام بأيدينا وإلى أفواهنا، نتنفَّس بلا أجهزة، أعضاء أجسادنا تعمل بانتظام، فجَفْن العين يطرف ويرتد بسهولة، وماؤها لا يجفُّ، الكُلَى تعمل بلا مُعين ولا تحتاج تنظيفًا يوميًّا، ننام في غرفة هادئة مطمئنِّين على أنفسنا وأهلينا، نتكلَّمُ ويُفهم كلامُنا مباشرة، وعلى رأس هذه النِّعم دينُنا الإسلام، هي نِعم كثيرة قد لا ندركها، وإذا أدركناها ينبغي أن نشكر الله عليها، وإدراكُنا لها نعمةٌ أخرى تحتاج شكرًا منا لله.
أخيرًا:
لا نستطيع أن نوفِّي شكر الله حقَّه في هذا المقال، ولك أن تتفكر في نفسك أولاً، ثم تتفكر في الكون من حولك؛ لترى نِعم الله عليك في كل ذرة من خلقه.
ينبغي عندما نستيقظ صباحًا أن نتذكر قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن أصبح منكم آمنًا في سربه، معافًى في جسده، عنده قُوتُ يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا» نِعمٌ تتجدَّدُ علينا في كل طرفة عين وردها، وفي كل زفير وشهيق نعمله بلا إدراك؛ لذا ينبغي أن نحرص على الإكثار من ذِكر الله؛ فهو رأس الشكر.
اللهم اجعلنا لنعمك من الشاكرين، وأعذنا من حال الكافرين يا رب!
[1] الصِّحاح؛ الجوهري.
[2] مدارج السالكين؛ ابن قيم الجوزية.
[3] رواه أحمد.
[4] فتح القدير؛ الشوكاني.
[5] صفوة التفاسير؛ الصابوني.
[6] رواه البخاري ومسلم.
[7] رواه الترمذي، وقال: حسن غريب.
[8] رواه مسلم.
[9] فتح الباري شرح صحيح البخاري؛ ابن حجر العسقلاني.
[10] رواه أبو داود.
[11] ليدبروا آياته (المجموعة 1).
[12] جامع العلوم والحِكم؛ ابن رجب الحنبلي.
[13] بدائع التفسير؛ ابن قيم الجوزية.
[14] انظر: محمد الخضيري، ليدبروا آياته (المجموعة 1).
______________________________________________
الكاتب: عائشة بنت عبدالرحمن الطويرش