أهداف الاستشراق
الهدف الرئيس للاستشراق هو الكشف عن الحضارات الشرقية، ودراستها بمنهج علمي، ونشرها في الشرق وفي الغرب بلغاتها الأصلية، أو ترجمتها إلى شتى اللغات؛ ليَسهُل فهمُها، وتعمَّ فائدتها.
- التصنيفات: الإسلام والعلم -
الهدف الرئيس للاستشراق هو الكشف عن الحضارات الشرقية، ودراستها بمنهج علمي، ونشرها في الشرق وفي الغرب بلغاتها الأصلية، أو ترجمتها إلى شتى اللغات؛ ليَسهُل فهمُها، وتعمَّ فائدتها.
ومع ذلك كانت هناك أهداف أخرى تختلف باختلاف الزمان والمكان، والدوافع التي تكمن وراء بعض أنواع الاستشراق، يحرِّكها أفراد أو جماعات، أو حكومات ودول.
وسنحاول حصر بعض أهداف الاستشراق من الكشف عن الحضارة الإسلامية ودراستها ونشرها:
أ- إرساء النهضة الأوروبية على التراث العربي[1]:
كان هذا التراث يمثِّل الثقافة الوسطى بين اليونانية القديمة، واللاتينية التي كانت تسود أوروبا، ومن المعلوم أن الدولة الإسلامية في عصورها الذهبية شجَّعت العلماء والمترجمين على نقل أمهات الثقافة والفكر العالمي إلى اللغة العربية، ثم تلقَّفَها علماء المسلمين فدرسوها، وعلقوا عليها وأضافوا إليها، ونقدوها نقد الفاحص المدقق، كل ذلك إلى جانب التراث العربي الإسلامي الأصيل الذي يعبر عن فكر غني متطور، امتد ليشمل كل ألوان الآداب والعلوم والفنون.
فلا عجب إذًا في أن ينهض أساتذة اللغات الشرقية في العصر الوسيط يغترفون من هذا النبع الصافي، والمَعين الذي لا ينضُب، لبناء النهضة الأوروبية على قواعد التراث العربي الإسلامي.
يستوي في ذلك من كان منهم يَردُّ الفضلَ لأصحابه، أو من كان منهم يمنعه كِبرُه من الاعتراف بتفوق العقلية الإسلامية، فيبرِّرُ أخذ نصارى الغرب عن مسلمي الأندلس باستعادة ما أخذه المسلمون من الثقافة اليونانية والهليستينية عن طريق نصارى الشرق.
ب- تحقيق وشرح الكتاب المقدس[2]:
من المعروف أن الكتاب المقدس - الذي يشتمل على العهد العتيق (التوراة)، والعهد الجديد (الأناجيل) - هو المرجع الوحيد للعقيدة المسيحية، وأن الأصول الأولى له كتبت وشرحت، وتم التعليق عليها باللغات اليونانية، والعبرية، والسريانية، والعربية، فلما انفصل مارتن لوثر عن الفاتيكان، وأنكر على البابا سلطتَه الروحية والزمنية، ونادى بالإصلاح الديني، كانت دعوته مؤسَّسةً على فهم جديد للكتاب المقدس، مستمَدٍّ من الدراسات الأصلية التي قام بها لوثر ومؤازروه وأتباعه.
وأراد الفاتيكان أن يواجه هذه الدعوة بنفس سلاحها، فاتجه نشاطه العلمي إلى الشرق - مهد الديانة المسيحية - فتناوله في جغرافيته، وتاريخه، ولغاته، وثقافته، وتطوره؛ للكشف عن أسرار الكتاب المقدس.
وأنشئت كَراسٍ خاصة بتدريس اللغة العربية في عدة جامعات أوروبية؛ مثل: باريس، وروما، وأكسفورد.
وأجزل عطاء المترجمين للتراث الإنساني عن العربية، فكان يتم أولاً عن طريق نقله نقلاً حرفيًّا بواسطة من يجيد العربية من المسلمين أو النصارى أو اليهود، ثم يعمد رجال الدين إلى صياغته في أسلوب لاتيني مبين.
جـ- نشر الدعوة المسيحية[3]:
"رغب المسيحيون في التبشير بدينهم بين المسلمين، فأقبلوا على الاستشراق؛ ليتسنَّى لهم تجهيز الدعاة وإرسالهم للعالم الإسلامي"[4].
وقد ظهر بوضوح في كتابات هؤلاء المبشرين تحاملٌ على الإسلام ونبيِّه وكتابه؛ لزعزعة عقائد المسلمين من جهة، ولتنفير الشعوب غير الإسلامية من الدين الإسلامي؛ ليسهل عمل المبشرين فيما بينهم من جهة أخرى.
ولعل ذلك يرجع إلى حقد دفين في النفوس مردُّه الهزائمُ المتلاحقة التي مُنِي بها الصليبيون طَوال قرنين من الزمان، أنفقوهما في محاولة الاستيلاء على بيت المقدس، وانتزاعه من أيدي المسلمين[5].
أو كما يرى المستشرق الألماني بيكر: أن هناك عداء من النصرانية للإسلام؛ لأن الإسلام لما انبسط في العصور الوسطى أقام سدًّا في وجه انتشار النصرانية، ثم امتد إلى البلاد التي كانت خاضعة لصولجانها[6].
هذا العداء، أو ذلك الحقد الذي ظهر واضحًا في كثير مما كُتِبَ عن الإسلام ونبيه وكتابه، أخذ صورة غير السبِّ الصريح، والتجنِّي على الحقائق، بعد حملة نابليون التي فاقتْ أهميتُها العلمية أهميتَها السياسية، بما نشرته من الثقافة الشرقية[7]، فتغيرت نظرة الغرب إلى الإسلام، وتغيرت معها وسائل التبشير بين المسلمين، جاء في كتاب (طرق العمل التبشيري بين المسلمين) ما نصُّه[8]:
"لنجعل هؤلاء القوم المسلمين يقتنعون في الدرجة الأولى بأننا نحبُّهم، فنكون قد تعلمنا أن نصل إلى قلوبهم... يجب على المبشر أن يحترمَ في الظاهر جميع العادات الشرقية والإسلامية؛ حتى يستطيع أن يتوصل إلى بث آرائه بين من يصغي إليها.
وعليه مثلاً: أن يتحاشى أن يقول عن المسيح: إنه ابن الله؛ حتى لا ينفر منه أولئك الذين لا يؤمنون هذا الإيمان، فيستطيع أن يقاربَهم حينئذٍ بما يريد أن يدعوهم إليه".
د- الاستشراق في خدمة الاستعمار:
"التقت مصلحة المبشِّرين مع أهداف الاستعمار، فمكَّن لهم واعتمد عليهم في بسط نفوذه في الشرق، وأقنع المبشرون زعماءَ الاستعمار بأن المسيحية ستكون قاعدةَ الاستعمار الغربي في الشرق؛ وبذلك سهَّل الاستعمار للمبشرين مهمتَهم، وبسط عليهم حمايتَه، وزوَّدهم بالمال والسلطان"[9].
فلا غرابة إذًا في أن تغطي أمريكا الماديَّةُ نصفَ الأرض بمبشرين يزعمون أنهم يدعون إلى حياة روحية وسلام ديني.
ولا عجب في أن ترى فرنسا العلمانية تحمي رجال الدين اليسوعيين في مستعمراتها ومناطق نفوذها، وإيطاليا التي ناصبت الكنيسة العداء، وحجزت البابا في الفاتيكان، كان تبني سياستها الاستعمارية على جهود الرهبان والمبشرين.
وكثيرًا ما كان العسكريون الإنجليز يحضون حكوماتهم على بث المبشرين في العالم، كما نصح الجنرال هايغ الحكومة البريطانية أن تُرسِلَ مبشريها إلى شبه جزيرة العرب[10].
"ولما أرادت معظم دول الغرب عقد الصلات السياسية بدول الشرق، والاغتراف من تراثه، والانتفاع بثرائه، والتزاحم على استعماره، أحسنتْ كل دولة إلى مستشرقيها، فضمهم ملوكها إلى حاشياتهم أمناءَ أسرارٍ وتراجمة، وانتدبوهم للعمل في سلكَي الجيش والدبلوماسية إلى بلدان الشرق، وولَّوْهم كراسي اللغات الشرقية في كبرى الجامعات والمدارس الخاصة، والمكتبات العامة، والمطابع الوطنية، وأجزلوا عطاءَهم في الحل والتِّرْحَال، ومنحوهم ألقابَ الشرف، وعضوية المجامع العلمية"[11]، فأدَّوا للاستعمار خدمة مزدوجة:
• اشتغل نفر منهم بالآداب العربية والعلوم الإسلامية - أو استخدموا غيرهم في سبيل ذلك - ليوازنوا بين الآداب العربية والآداب الأجنبية، أو بين العلوم الإسلامية والعلوم الغربية؛ ليخرجوا دائمًا بتفضيل الآداب الغربية على الآداب الإسلامية، وإيجاد تخاذل روحي، وشعور بالنقص في نفوس المسلمين، وحملهم من هذه الطريق على الرضا بالخضوع للمدنية المادية الغربية[12].
• وتفرغ نفرٌ آخر لدراسة أحوال المسلمين، ودق ناقوس الخطر كلما لاح في الأُفُق مظهر من مظاهر صحوة إسلامية، أو عامل من عوامل الاستقلال أو التفوق، حتى يبادر الاستعمار إلى سَحْقِ هذه التيارات أو تحويلها إلى غير طريقها الطبيعي؛ خوفًا من مواجهة "العملاق الذي بدأ يصحو وينفض النوم عن عينيه"[13].
هـ- الاستشراق في خدمة الصهيونية[14]:
أقبل عدد من المستشرقين اليهود على دراسة الحضارة الإسلامية والثقافة العربية، في محاولة لإضعاف الإسلام والتشكيك في قِيَمه؛ وذلك بإثبات فضل اليهودية على الإسلام، بادِّعاء أن اليهودية هي مصدر الإسلام الأول، ولأسباب سياسية تتصل بخدمة الصهيونية كفكرة أولاً، ثم كدولة لها مقوماتها وذاتيَّتُها.
ويساعدهم في ذلك - بل يروج لهم - نفرٌ من الغربيين، يعتقدون أن خطر الإسلام عليهم أكبر من خطر الصهيونية، "وقد عرَف الصِّهْيَوْنِيُّونَ في عصرنا هذا مواطن القوة التي تسخِّرها الدعاية، فاستولوا على الكثير من أدواتها، وبرَعوا في تسخيرها وإخفاء مراميها"[15]، فمن صحفٍ عالمية، وإذاعات مؤثرة، إلى شركات سينمائية، وسيطرة على لجان التحكيم، كل ذلك يجعل أثرهم فعالاً، وخطرهم داهمًا، ونفوذهم واسعًا.
و- مرتزقة المستشرقين:
هذا الصنف من المستشرقين سخَّر أقلامه لتملُّق عواطف الجماهير، ولإشباع رغبة عند طائفة من الغربيين ورثوا كراهية العرب والإسلام.
وهؤلاء أبعد الناس عن الحقائق الموضوعية، ينسجون الأساطير والغرائب، ويزوِّرون الحقائق الثابتة، وينقلون عن الأصول الإسلامية جملاً مبتورة، أو يترجمونها ترجمة محرَّفة.
ويهوِّن من شأن هذه الطائفة أنها لا تَلقَى أي لون من الاحترام في الأوساط العلمية، وإنما يُذكَر اسم الواحد منهم مقرونًا بالسخرية، ومطبوعًا بالجهل.
جاء في كتاب "حياة محمد" لإميل درمنجم: "حينما اشتعلت الحرب بين الإسلام والمسيحية ودامت عدة قرون، اشتد النفور بين الفريقين، وأساء كل منهما فهم الآخر، ولكن يجب الاعتراف بأن إساءة الفهم كانت من جانب الغربيين أكثر مما كانت من جانب الشرقيين، وفي الواقع أنه على إثْرِ تلك المعارك العقلية العنيفة التي أرهق فيها الجدليُّون البيزنطيون الإسلام بمساوئَ واحتقارات دون أن يتعبوا أنفسهم في دراسته، على إثْر ذلك هبَّ الكُتَّاب والشعراء يهاجمون العرب، فلم تكن مهاجمتهم إياهم إلا تهمًا باطلة، بل متناقضة"[16].
[1] نجيب العقيقي، المرجع السابق، جـ 3 ص: 1148، و جـ 1 ص: 113 / 114، والمراجع التي أشار إليها.
[2] نجيب العقيقي، المستشرقون، جـ 1 ص: 114 / 115 والمراجع المذكورة به، محمد البهي، المرجع السابق، ص: 533 والمراجع المشار إليها فيه.
[3] مصطفى خالدي، وعمر فروخ، التبشير والاستعمار في البلاد العربية، ص: 34 وما بعدها.
[4] محمد البهي الفكر الإسلامي الحديث، ص: 533.
[5] محمد البهي، المرجع السابق، ص: 526.
[6] مصطفى خالدي وعمر فروخ، التبشير والاستعمار، ص: 36.
[7] زكريا هاشم، المستشرقون والإسلام، ص: 23.
[8] مصطفى خالدي وعمر فروخ، التبشير والاستعمار، ص: 52.
[9] محمد البهي، الفكر الإسلامي الحديث، ص: 533.
[10] مصطفى خالدي وعمر فروخ، التبشير والاستعمار، ص: 34 / 35.
[11] نجيب العقيقي، المستشرقون، جـ 3 ص: 1149.
[12] مصطفى خالدي وعمر فروخ، المرجع السابق، الفصل العاشر، بأكمله، ص: 217 وما بعدها.
[13] ننصح بقراءة كتاب: الإسلام قوة الغد العالمية، تأليف باول شمتز، وترجمة محمد شامة، مكتبة وهبة، القاهرة 1974.
[14] محمد البهي، المرجع السابق، ص: 534. عباس محمود العقاد، ما يقال عن الإسلام، ص: 12 / 13.
[15] عباس محمود العقاد، المرجع السابق، ص: 13.
[16] زكريا هاشم، المستشرقون والإسلام، ص: 24.
________________________________________
أ. د. محمد جبر الألفي