قل سيروا فى الأرض
إيمان الخولي
ولندرك أننا الأمة التي أُعطاها الله فرصة للتوبة والإنابة إليه، ولم يكتب عليها الهلاك في الدنيا بريح أو غرق أو حصباء تشلّ حركتها، فعلينا أن نغتنم الفرصة
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين} [الأنعام] .
إنه أمر من الله، أن نسير في الأرض نرى ونتدبر كيف كان حال الأمم السابقة وكيف أصبحوا حين كذبوا بالحق وجحدوا به.
والمتدبر لهذه الآيات، السائر على الدرب، يخرج بآيات وعبر كثيرة، حيث إن كل هذه الآثار الباقية أمامنا هي آية من آيات ربنا لم يصبها عوامل التعرية تُركت آية لقوم يعلمون الحق فيخشون أن يصيبهم ما أُصيب به أقوام أخرى.
والآية الثانية، حيث إنها مكان بعيد عن العمران، آثار الفراعنة ومعابدهم، إرم ذات العماد، وبابل فى العراق، ومدين فى بلاد الحجاز، كلها في أماكن بعيدة عن سكنى البشر، وكأنها هداية من الله لهم، ألّا يسكنوا مساكن الأمم السابقة، فيصيبهم شؤم المعصية.
فعن ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مرّ بالحجر، قال: " «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين» " [رواه البخاري] ، كما أمرهم ألّا يستخدموا ماء هذه الآبار، وأن يعلفوا للأبل في العجين ولا يشربوا منها.
أرأيت كم أثرت المعصية في الوسط كله، فأصبح غير صالح للمعيشة، فكيف بمعاصينا نحن وكم أمهلنا الله لكي نعود إلى الصواب.
والمتأمل أيضًا يجد أن هذه الأماكن محاطة بجوٍّ من الهدوء والسكون، وأنه لا حراك بعد أن عاشوا فيها عقودًا طويلةً في إمهال، ولكنهم أصروا على كبرهم وعنادهم، ولم يخلفوا إلا حجارة قاسية كما كانت قلوبهم قاسية وبعيدة عن قبول الحق.
إنها آثار ليست للمتعة وحفلات الصخب حولها والملاهي، ولكن للتباكي والنظر والعبرة من مصارع المكذبين، فقد تركوها خاوية على عروشها.
والغريب أن الناس اتخدوا منها مصدرًا لأرزاقهم، حيث يبيعون ويشترون على أنقاضهم، دون عبرة أو عِظة، أما عن الذين رحلوا، فانتهوا وتركوا آثارهم من خلفهم.
وأنت... ماذا تركت من أثر؟ هل ستتركها خاوية على عروشها؟! أتركتها وقد أكلت مال هذا، وظلمت هذا، وخضت في عرض هذه؟!
لبئس ميراث الظلم لو كانوا يعلمون.
أَمْ ستترك أثرًا طيـبًا لك في كل مكان بالإصلاح وعمارة الأرض؟
علينا أن نحيي سنة {قل سيروا في الأرض}، عندما نسافر إلى هذه الأماكن، فليس من دولة إلّا وفيها آثار لهذه الأمم الهالكة، وهذا أدعى لنا لنتوب ونعود إلى الله، إذ يقول تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [سورة الإسراء ١٧] .
وها هو ابن القيم، يوضح لنا ألوان العذاب، وكيفية ارتباطها بالمعاصي؛ وذلك لننظر ونعتبر، فيقول رحمه الله: "وَقَدْ جَعَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ أَعْمَالَ الْبَرّ وَالْفَاجِرِ مُقْتَضِيَاتٍ لِآثَارِهَا فِي هَذَا الْعَالَمِ اقْتِضَاءً لَابُدّ مِنْهُ، فَجَعَلَ مَنْعَ الْإِحْسَانِ وَالزّكَاةِ وَالصّدَقَةِ سَبَبًا لِمَنْعِ الْغَيْثِ مِنْ السّمَاءِ وَالْقَحْطِ وَالْجَدْبِ، وَجَعَلَ ظُلْمَ الْمَسَاكِينِ وَالْبَخْسَ فِي الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ وَتَعَدّي الْقَوِيّ عَلَى الضّعِيفِ سَبَبًا لِجَوْرِ الْمُلُوكِ وَالْوُلَاةِ الّذِينَ لَا يَرْحَمُونَ إنْ اُسْتُرْحِمُوا وَلَا يَعْطِفُونَ إنْ اُسْتُعْطِفُوا وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ أَعْمَالُ الرّعَايَا ظَهَرَتْ فِي صُوَرِ وُلَاتِهِمْ جَائِرِينَ، وَتَارَةً بِأَمْرَاضٍ عَامّةٍ وَتَارَةً بِهُمُومٍ وَآلَامٍ وَغُمُومٍ تُحْضِرُهَا نُفُوسُهُمْ لَا يَنْفَكّونَ عَنْهَا، وَتَارَةً بِمَنْعِ بَرَكَاتِ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَنْهُمْ، وَتَارَةً بِتَسْلِيطِ الشّيَاطِينِ عَلَيْهِمْ تَؤُزّهُمْ إلَى أَسْبَابِ الْعَذَابِ أَزّا لِتَحِقّ عَلَيْهِمْ الْكَلِمَةُ وَلِيَصِيرَ كُلّ مِنْهُمْ إلَى مَا خُلِقَ لَهُ، وَالْعَاقِلُ يُسَيّرُ بَصِيرَتَهُ بَيْنَ أَقْطَارِ الْعَالَمِ، فَيُشَاهِدُهُ وَيَنْظُرُ مَوَاقِعَ عَدْلِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يَتَبَيّنُ لَهُ أَنّ الرّسُلَ وَأَتْبَاعَهُمْ خَاصّةً عَلَى سَبِيلِ النّجَاةِ وَسَائِرُ الْخَلْقِ عَلَى سَبِيلِ الْهَلَاكِ سَائِرُونَ وَإِلَى دَارِ الْبَوَارِ صَائِرُونَ وَاللّهُ بَالِغٌ أَمْرَهُ لَا مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ وَلَا رَادّ لِأَمْرِهِ.
ولندرك أننا الأمة التي أُعطاها الله فرصة للتوبة والإنابة إليه، ولم يكتب عليها الهلاك في الدنيا بريح أو غرق أو حصباء تشلّ حركتها، فعلينا أن نغتنم الفرصة، ولنعلم أن تأخير العذاب ليس لرضا الله عنا، إنما هي سنة الإمهال، حتى إذا أخذهم، لم يفلتهم.