اجتناب الجدل المذموم في الدين
عدم الاختلاف في الدِّين هو الرحمة، والذي أهلَكَ الناس هو المِراءُ والخصومات في الدين؛
- التصنيفات: الآداب والأخلاق - أخلاق إسلامية -
يحرص ابن كثير رحمه الله على تجنُّبِ الجدل المذموم، والخصومات والمِراء في الدِّين، ويَنهى عن ذلك أشدَّ النهي؛ وذلك لأنه منهج يقود صاحبه إلى الخوض في الباطل، والوقوع في الآراء الضالَّة، مع ما يُورِثُه من العداوة والبغضاء، وابن كثير حينما ينهى عن الجدل المذموم في الدِّين، فهو يُجيز المناظرة ويحبِّذها، بل ويوجِبها أحيانًا متى وُجدتْ أسبابُها ودواعيها، على أن يَتجنَّبَ المُحاوِرُ المماراةَ؛ لأنها تقطع الفائدة والعلم النافع، فيقول رحمه الله عند تفسير الآية: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54]: "يقول تعالى: ولقد بيَّنَّا للناس في هذا القرآن ووضَّحْنا لهم الأمور وفصَّلْناها؛ لئلا يَضِلُّوا عن الحق، ويخرُجوا عن طريق الهدى، ومع هذا البيانِ وهذا الفرقانِ، الإنسانُ كثيرُ المجادَلة والمخاصَمةِ والمعارَضة للحق بالباطل، إلا من هدى الله وبصَّره بطريق النجاة"[1].
ويقول رحمه الله عند تفسير الآية: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 118، 119]: "يخبر تعالى أنه قادر على جعله الناسَ أُمَّةً واحدة من إيمان أو كُفرانٍ... وقوله: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}؛ أي: ولا يزالُ الخُلْفُ بين الناس في أديانهم واعتقاداتهم، ومِلَلِهم ونِحَلِهم، ومذاهبهم وآرائهم..... {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} أي: إلا الموحِّدين من أتْباع الرسل الذين تَمسَّكوا بما أُمروا به من الدين... كما قال الحسن البصري في رواية عنه في قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}، قال: الناس مختلفون على أديان شتَّى {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} فمَن رحم ربُّك غيرُ مختلِف، وقيل: ولذلك خلَقَهم؟ فقال: خلَقَ هؤلاء لجنَّتِه، وخلَقَ هؤلاء لنارِه، وخلَقَ هؤلاء لرحمتِه، وخلق هؤلاء لعذابِه"[2].
فعدم الاختلاف في الدِّين هو الرحمة، والذي أهلَكَ الناس هو المِراءُ والخصومات في الدين؛ يقول رحمه الله عند تفسير الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]: "وعن ابن عباس قوله: {فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، وقوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، ونحو هذا في القرآن، قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونَهاهم عن الاختلاف والفُرْقة، وأخبَرَهم أنه إنما أهلك من كان قبلهم بالمِراء والخصومات في دين الله، ونحو هذا قاله مجاهد وغير واحد"[3].
وابن كثير رحمه الله يرسم منهجًا عظيمًا، وقاعدة مهمة في حكاية الخلاف، واستعراض الأقوال والردِّ عليها، فيقول في مقدمة التفسير عند ذكره للآية: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 22]: "فقد اشتملت هذه الآيةُ الكريمة على الأدب في هذا المقام، وتعلُّم ما ينبغي في مثل هذا، فإنه تعالى حكى عنهم ثلاثة أقوال، ضعَّف القولين الأولين، وسكَتَ عن الثالث، فدَلَّ على صحته؛ إذ لو كان باطلًا لَرَدَّه كما ردَّهما، ثم أرشَدَ على أن الاطِّلاع على عِدَّتِهم لا طائل تحته..... فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف؛ أن تَستوعِب الأقوال في ذلك المقام، وأن تُنبِّهَ على الصحيح منها، وتُبطِل الباطل، وتذكُر فائدة الخلاف وثمرته؛ لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فتشتغل عن الأهمِّ فالأهم، فأما من حكى خلافًا في مسألة لم يستوعب أقوالَ الناس فيها، فهو ناقص؛ إذ قد يكون الصواب في الذي ترَكَه، أو يحكي الخلاف ويُطلِقه ولا يُنبِّه على الصحيح من الأقوال، فهو ناقص أيضًا؛ فإنْ صحَّح غيرَ الصحيح عامدًا فقد تَعمَّدَ الكذب، أو جاهلًا فقد أخطَأَ، وكذلك من نصَبَ الخلاف فيما لا فائدة تحته، أو حكى أقولًا متعددة لفظًا، ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنًى، فقد ضيَّع الزمان، وتَكثَّر بما ليس بصحيح، فهو كلابسِ ثوبَي زُورٍ، والله الموفق للصواب"[4].
كما يؤكد رحمه الله أنه يتعيَّن على الإنسان أن يتكلم فيما يعلم، ويسكُت عما يجهل، وألا يُحاجَّ فيما لا علم له به، فقال عند حديثه عن تحرُّج السلف عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم فيه: "فأما من تكلَّم بما يعلم من ذلك لغة وشرعًا، فلا حرج عليه؛ ولهذا رُوي عن هؤلاء - السلف - وغيرهم أقوالٌ في التفسير، ولا منافاة؛ لأنهم تَكلَّموا فيما عَلِموه، وسكَتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد؛ فإنه يجب السكوت عما لا علم له به، فكذلك يجب القول فيما سُئل عنه مما يعلمه؛ لقوله تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]"[5].
ويقول عند تفسير الآية: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 66]: "هذا إنكار على من يحاجُّ فيما لا علم له به، فإن اليهود والنصارى تَحاجُّوا في إبراهيم بلا علم، ولو تَحاجُّوا فيما بأيديهم منه علمٌ فيما يتعلق بأديانهم التي شُرعت لهم إلى حين بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، لكان أَولى بهم، وإنما تَكلَّموا فيما لم يَعلَموا، فأنكَرَ الله عليهم ذلك، وأمَرَهم بردِّ ما لا عِلم لهم به إلى عالِم الغيب والشهادة، والذي يعلم الأمور على حقائقها وجليَّاتِها؛ ولهذا قال: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [6].
وكذلك الإعراض عن السؤال عن الأشياء التي إذا عَلِم بها الشخصُ ساءتْه، فقال عند تفسير الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]: "وظاهر الآية النهيُ عن السؤال عن الأشياء التي إذا عَلِم بها الشخص ساءتْه، فالأَولى الإعراض عنها وتركُها"[7].
وأخيرًا يُحذِّر رحمه الله من المماراة في الحوار والجدال؛ فإن ذلك يقطع الفائدةَ والعلمَ النافع، فقال عند كلامه عن ليلة القدر ومتى تكون: "وعن عبادة بن الصامت[8] قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لِيُخبِرَنا بليلة القدر، فتَلاحَى رجُلانِ من المسلمين، فقال: «خرَجتُ لأُخبِرَكم بليلة القدر، فتلاحى [9] فلان وفلان، فرُفِعتْ، وعسى أن يكون خيرًا لكم» ... وقوله: ((فتلاحى فلان وفلان فرُفِعتْ)) فيه استئناس لما يُقال: إن المماراة تقطع الفائدةَ والعلم النافع"[10].
[1] انظر تفسير القرآن العظيم 3/ 116.
[2] انظر تفسير القرآن العظيم 2/ 572-573.
[3] انظر تفسير القرآن العظيم 2/ 242.
[4] انظر تفسير القرآن العظيم 1/ 12.
[5] انظر تفسير القرآن العظيم 1/ 145.
[6] المرجع نفسه 1/ 457.
[7] المرجع نفسه 2/ 138.
[8] هو عبادة بن قيس الأنصاري الخزرجي، أبو الوليد، صحابي، من الموصوفين بالورع، شهد العَقَبة، وكان أحد النُّقباء، وكذلك شهد بدرًا وسائر المَشاهِدِ، ثم حضر فتح مصر، وهو أول من ولي القضاء بفلسطين، ومات بالرملة أو ببيت المقدس، روى 181 حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على ستة منها، وكان من سادات الصحابة، توفي سنة 34 هـ، الأعلام 3/ 258.
[9] تلاحى: تنازعا، انظر ترتيب القاموس للطاهر أحمد الزاوي 4/ 132، طبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه ط2، بدون تاريخ.
[10] انظر تفسير القرآن العظيم 4/ 638.
__________________________________________
الكاتب: مبارك بن حمد الحامد الشريف