آثار الاستغفار على الفرد والجماعة

قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90].

  • التصنيفات: الذكر والدعاء -
آثار الاستغفار على الفرد والجماعة

قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90].

 

عبادَ الله: من الأحكام المتعلِّقة بالاستغفار: حكم نفي المغفرة للنفس: يجب عليك أخي أن تجمع بين الخوف من الله ورجائه، كما قال تعالى في صفةِ أهل الكَمَال من عباده المؤمنين {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}، ويَحرُمُ عليك أن تقَعَ في الغلوِّ، فيحملك الخوف من الله تعالى على اليأس من رحمته، قال تعالى: {وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}، وقد يزداد اليأس ببعض الضالِّين؛ فيدِّعي أن الله لن يغفر له ذنوبه ولو تابَ منها، فيقعُ في القُنوط، وهو أشدُّ اليأس، قال عز وجل: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56].

 

ومن أقوى الأسباب التي يحفظك الله بها من الوقوع في القُنوط واليأس من المغفرة؛ أن تعلم سَعَةِ مغفرة الله لعباده المؤمنين، قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 32]، وقال تبارك وتعالى في الحديث القدسي: «ومَنْ لَقِيَنِي ‌بقُرَابِ ‌الأرضِ خَطِيئَةً لا يُشْرِكُ بي شَيْئاً لَقِيتُهُ بمِثْلِهَا مَغْفِرَةً» (رواه مسلم).

 

وأما نفي المغفرة للغير: فيحرمُ عليك أن تُثبت المغفرة لمن مات على الشرك، كما يحرم عليك أن تنفي المغفرة عن أحدٍ من العُصاة، مهما بلَغَت فواحِشُه ومُوبقاتُه، (قالَ أبو هريرةَ رضيَ اللهُ عنه: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ: «كانَ رَجُلانِ في بَني إسرائيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ، فكانَ أحَدُهُما يُذْنِبُ، والآخَرُ مُجْتَهِدٌ في العِبَادَةِ، فكانَ لا يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الآخَرَ على الذَّنْبِ فيقُولُ: أَقْصِرْ، فَوَجَدَهُ يوماً على ذَنْبٍ فقالَ لهُ: أَقْصِرْ، فقالَ: خَلِّنِي ورَبِّي ‌أَبُعِثْتَ ‌عَلَيَّ ‌رَقِيبَاً؟ فقالَ: واللهِ لا يَغْفِرُ اللهُ لَكَ، أوْ لا يُدْخِلُكَ اللهُ الجنَّةَ، فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا، فاجْتَمَعَا عِندَ رَبِّ العالمينَ، فقالَ لهذا المجتهِدِ: أَكُنْتَ بي عَالِمَاً، أوْ كُنْتَ على ما في يَدِي قَادِرَاً؟ وقالَ للْمُذْنِبِ: اذهَبْ فادْخُلِ الجنَّةَ برَحْمَتِي، وقالَ للآخَرِ: اذهَبُوا بهِ إلى النَّارِ»، قالَ أبو هُريرَةَ: والذي نفسي بيدِهِ لَتَكَلَّمَ بكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْياهُ وآخِرَتَهُ) رواه أبو داود وجوَّدَ إسنادَهُ البوصيري، نسأل اللهُ حُسنَ الخاتمة.

 

عباد الله: ولعظيم هذه المنزلة للاستغفار، فإنَّ له آثاراً على الفرد والجماعة، فمنها:

أولاً: وهو أعظمُها: تكفيرُ الذنوبِ والنجاةِ من النار، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110].

 

ثانياً: رَفْعُ الدَّرجَاتِ والفوزَ بالجنَّةِ: قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 135، 136]، (وقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «إنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ في الجَنَّةِ فيقُولُ: أَنَّى هذا؟ فيُقَالُ: ‌باستغفارِ ‌وَلَدِكَ ‌لَكَ» (رواه ابنُ ماجه وصحَّحه البوصيري).

 

ثالثاً: إصلاح القلب، قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «إنَّ العَبْدَ إذا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ في قَلْبهِ ‌نُكْتَةٌ ‌سَوْدَاءُ، فإذا هُوَ نَزَعَ واسْتَغْفَرَ وتابَ سُقِلَ قَلْبُهُ»  الحديثُ رواه الترمذي وقال: (حسن صحيح).

 

رابعاً: دَفْعُ العذابِ والأخطار: إنَّ المعاصي والذنوب سَبَبٌ للهلاكِ، قال عزَّ وجلَّ: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 59]، والاستغفارُ يَمْحُو أثَرَ الذنوبِ وهو سَبَبٌ لرفعِ البلاءِ ونُزولِ الرَّحمةِ، قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل: 46]، و(عن أبي مُوسَى قالَ: ‌أَمَانَانِ ‌كانا على عَهْدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، رُفِعَ أَحَدُهُمَا، وبقِيَ الآخَرُ، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] رواه الإمام أحمد وقال مُحقِّقو المسند: (صحيحٌ لغيره)، وأمَرَ صلَّى الله عليه وسلَّم بالاستغفار عند حُصولِ الآياتِ الكونيةِ الْمُخوِّفة، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «هذهِ الآياتُ التي يُرْسِلُ اللهُ لا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ ولا لِحَيَاتِهِ، ولكِنْ يُخَوِّفُ اللهُ بهِ عِبَادَهُ، فإذا رَأَيْتُمْ شَيْئاً مِنْ ذلكَ، فَافْزَعُوا إلى ذِكْرِهِ ‌ودُعَائِهِ ‌واسْتِغْفَارِهِ» (رواه البخاريُّ ومسلم).

خامساً: تَنَزُّلِ البركات، وسَعة الرِّزق، ونزول الغيث، وكثرة المال والذريَّة، وزيادة القوة، قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 – 12]، و(قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «لا يَزِيدُ في الْعُمْرِ إلاَّ الْبِرُّ، ولا يَرُدُّ الْقَدَرَ إلاَّ الدُّعَاءُ، وإنَّ ‌الرَّجُلَ ‌لَيُحْرَمُ ‌الرِّزْقَ بالذَّنْبِ يُصِيبُهُ»  (رواه ابنُ ماجه وحسَّنهُ العراقي).

 

سادساً: الرَّاحةُ النفسيَّة، (قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «كُلُّ بَني آدَمَ خَطَّاءٌ، وخَيْرُ ‌الخَطَّائِينَ ‌التَّوَّابُونَ» رواه ابنُ ماجه وحسَّنه الألبانيُّ، فلو مُنعَ العبدُ من الاستغفار لأَوْقَعَهُ ذلكَ في كثيرٍ مِن الأمراضِ والعُقَدِ النفسيَّة، ورُبَّما أقدَمَ على الانتحارِ، قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «مَنْ أكْثَرَ مِنَ الاستغفارِ، جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجَاً، ومِنْ كُلِّ ‌ضِيقٍ ‌مَخْرَجَاً، ورَزَقَهُ مِنْ حيْثُ لا يَحْتَسِبُ» (رواه الإمام أحمد وصحَّحه أحمد شاكر).

 

سابعاً: إحلالُ الأمنِ، فللاستغفارِ والتوبة أهميةٌ كبيرةٌ في أمنِ الأوطان، والتقليل من الجريمة، فعندما ينحرف شخصٌ، فيقوم بارتكاب الجرائم، ويَسعى في زعزعة الأمن، فإنَّ الاستغفار يكون عاملاً مُهمَّاً في رُجوعهِ للجماعةِ، وإقلاعه عن جرائمهِ، ولو أُغلِقَ أمامه باب المغفرة والتوبة، فإنه سيستمرُّ في جرائمهِ، وشاهدُ ذلك ما رواه مسلم في قصَّة الذي قتلَ تسعةً وتسعينَ نفْسَاً، قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «كانَ فيمَنْ كانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِينَ نَفْسَاً، فَسَأَلَ عن أعلَمِ أهلِ الأرْضِ، فَدُلَّ على رَاهِبٍ، فأَتَاهُ فقالَ: إنهُ قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِينَ نَفْسَاً، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فقالَ: لا، فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بهِ مِائَةً» الحديث.

 

فالإسلامُ يمحو ويُزيل الذنوب التي قبله، قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «إنَّ الإسلامَ ‌يَهْدِمُ ‌ما ‌كَانَ قَبْلَهُ»  (رواه مسلم)، ويزيل أثرها، وهذا معنى المغفرة والاستغفار يكون من جميع الذنوب التي تقع من العبد، ومنها الإضرار بالأوطان، والإساءة إلى الناس، وأكل الحقوق، ونحو ذلك من الذنوب المتعلقة بالآخرين، فيعترف المقصِّر بتقصيره، ويَندم على ما سَلَفَ منه، ويُصلح ما أفسدَ، ويَرُدُّ الحقوق إلى أهلها.

 

إن الاستغفار عبادة عظيمة، تُقرِّبُ العبدَ مِن مولاه تعالى، وترفعه درجات يوم القيامة، وتكون سبباً في كشف الكروب ودفع العذاب، فحريٌّ بكلِّ مُؤمنٍ أن يلزم الاستغفار، ويَستكثر منه، ويُربِّي نفسه ومَن تحتَ يده عليه، فطُوبى لمن وَجَدَ في صحيفتهِ استغفاراً كثيراً.

 

اللهم إنا ظلمنا أنفسنا ظُلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت؛ فاغفر لنا مغفرةً من عندك، وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم.

______________________________________
الكاتب: الشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري