إبراز القدوات للشباب

إن الإنسان بطبعه يميل إلى التقليد، وعلى هذا فإن المسلم إذا أُبرزت أمامه القدوات الطيبة والنماذج الراقية فإنه يسارع إلى تقليدها والتأسي بها.

  • التصنيفات: قضايا الشباب -
إبراز القدوات للشباب

مما لا شك فيه أن نهضة الأمم تتوقف كثيرا على إظهار القدوات الصالحة، وكثرة النماذج الطيبة، وإحياء تاريخ الأماجد من أبنائها وعلمائها، وتوجيه الشباب والناشئة وأبناء الأمة على اختيار الأماثل وأصحاب الهمم العالية والمنجزات الرائعة وتحريضهم على اتخاذهم إسوة وقدوة؛ فإن التربية بالقدوة من أهم وسائل التربية..

وقد ربى الله هذه الأمة على ذلك، ونبهها إلى هذا الأمر الخطير، وأمرها أن تتخذ لها قدوة وإسوة، وأنها لن تجد أعظم من رسولها صلوات الله عليه ليكون في مقدمة من تقتدي بهم.. قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب].

ولبيان مقام القدوة ومنزلة التأسي بالطيبين أمر الله رسوله ـ وهو قدوة الأولين والآخرين ـ أن يلزم هذا الدرب، ولما لم يكن في زمنه من يصلح ليكون قدوة له أمره أن يقتدي بإخوانه من المرسلين؛ فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر بعض الأنبياء والمرسلين: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}.

إن الإنسان بطبعه يميل إلى التقليد، وعلى هذا فإن المسلم إذا أُبرزت أمامه القدوات الطيبة والنماذج الراقية فإنه يسارع إلى تقليدها والتأسي بها. وكذلك العكس كما يحدث عند انتشار الفساد وظهور الظلم والبغي والاستبداد والتقهقر، تظهر قدوات من الرعاع والسفلة، ويرفع من لا يستحق إلا الضعة، ويكرم من لا يليق بهم إلا الإهانة، ويصبح رموز المجتمع من اللاعبين والراقصين والفنانين والساقطين.. ويتأخر أهل العلم وأصحاب الجد، والصادقون، ويصبحون بلا قيمة في مجتمعهم، ويتقدم ليقود المشهد أناس لا خلاق لهم، ولهذا تزداد هذه الأمم سفولا وسقوطا ونزولا.

إن بداية البعث لأي أمة ميتة، واليقظة لأي أمة نائمة، إنما تكون كما قلنا بتنصيب قدوات ترتفع الأمة بالتشبه بهم والسير على طريقهم والنسج على منوالهم.

إننا حين نكرر على مسامع شبابنا القيم السامية التي تربى عليها هؤلاء الأفاضل، والأمثلة العملية من حياتهم رحمهم الله فإن النفوس تمتلئ رغبة في تقليدهم والاقتداء بهم، حين نطلع على شدة حرصهم على طلب العلم، وارتفاع الهمة، والارتقاء في مراقي الفضيلة والعلوم بكل أنواعها دنيوية وأخروية، وكيف أنهم بذلوا الوقت والجهد والمال في سبيل ذلك، وحين نطالع عبادتهم وزهدهم وورعهم، وعندما يتكرر على المسامع قيام العلماء بهذا الدين تَعَلُّما وتعليما ودعوة وجهادا، وكذلك القدوات في العلوم الدنيوية أيضا وسعيهم في أن تكون أمتهم علميا في مصاف كبار الأمم، سيحرص مَن سمع هذا مرارا وتكرارا على التشبه بهم:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم .. .. إن التشبه بالكرام فلاح

وبهذه المناسبة نقول: إن من الجناية على الأمة أن يتم إظهار أهل اللعب والغفلة والمجون والخلاعة على أنهم النجوم والقدوات، وعلى وسائل الإعلام في بلاد المسلمين أن تتقي الله في الشباب والناشئة بل في الأمة كلها بالعمل على إبراز هذه النماذج الطيبة التي يزخر بها تاريخ أمتنا، ولا توجد أمة من الأمم لها ما لأمتنا في هذا الشأن.

كيف نقدم القدوات
يكون ذلك بأمور كثيرة، منها:
1- التعريف والإشادة بهم والاعتناء بتراثهم:
إن من الحقوق التي للقدوات على الأمة أن تُعرف الأجيال بهم، وأن يشاد بذكرهم، ويُعنى بتراثهم حصراً ونشراً؛ إذ هؤلاء هم تواريخ الأمة على الحقيقة، ووجهها الناصع، وسجلها المشرِّف، وأياديها البيضاء على العالمين، وهم أهل الثقافة والحضارة، والعلم والمعرفة، فمتى ما فرطنا في تعريف الناس بهم وإطلاعهم على مآثرهم ونتاجهم فإننا نُعد مفرّطين في حضارتنا وثقافتنا.

2- عرض سيرهم وإظهار ومناقبهم على الناس من خلال الخطب والدروس، وكتابة هذه السير بأسلوب عصري ونشرها بين الناس من خلال الكتب والرسائل ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت وغيرها من وسائل الإعلام.

3- صيانتهم عن الطعن فيهم:
ليس تنزيها ولا تقديسا، وإنما حماية لهم من السقوط من أعين الناس، فلا يجد الناس من يقتدون به، فمتى ما ندت من أحدهم كلمة، أو بدا لأحدهم موقف فيه لبس فينبغي التعقل والتريث، والتوقف والنظر، والحمل على أحسن المحامل، وأفضل المخارج، وذلك لأن مَن ثبتت ثقته بيقين فإنها لا تزول إلا بيقين، وهذه قاعدة معلومة معروفة، أما المسارعة إلى قبول الذم وترداده فإنه ليس من منهج العقلاء ولا الصالحين.

قال العلامة السعدي رحمه الله: "من الغلط الفاحش الخطِر قبول قول الناس بعضهم ببعض، ثم يبني عليه السامع حباً وبغضاً ومدحاً وذماً، فكم حصل بهذا الغلط أمور صار عاقبتها الندامة، وكم أشاع الناس عن الناس أموراً لا حقائق لها بالكلية، أو لها بعض الحقيقة فنميت بالكذب والزور، وخصوصاً مَن عُرفوا بعدم المبالاة بالنقل، أو عُرف منهم الهوى، فالواجب على العاقل التثبُّت والتحرُّز وعدم التسرُّع، وبهذا يُعرف دين العبد ورزانته وعقله".

السلف والاقتداء
كان منهج القرآن التوجيه لاتخاذ قدوات يؤتسى بها ويسار على منوالها كما سبق ذكره.
وكذلك كان من منهج الرسول صلوات الله وسلامه عليه أنه كان يبرز للناس قدوات ليجعل منهم أسوة يتأسى الناس بها، وذلك من خلال مدح بعض أصحابه بمزايا خاصة ليلفت نظر البقية للاقتداء بهم في ذلك.. كما روى أبو يعلى في مسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه قال: «أرْأَف أمتي بأمتي أبو بكرٍ ، وأشدُّهم في دينِ اللهِ عمرَ ، وأصدقُهم حياءً عثمانُ ، وأقضاهم عليٌّ ، وأفرضُهم زيدُ بنُ ثابتٍ ، وأقرؤهم أُبَيُّ ، وأعلمُهم بالحلالِ والحرامِ معاذُ بنُ جبلٍ ، ألا وإنَّ لكلِّ أمةٍ أمينًا ، وأمينُ هذه الأمةِ أبو عبيدةَ بنُ الجرَّاحِ» (صححه الألباني في صحيح الجامع).


بل كان يأمر مباشرة بالاقتداء بأشخاص بعينها كأبي بكر وعمر، (اقتدوا بالذين من بعدي أبو بكر وعمر)، وقوله: (... عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ)(رواه الترمذي وقال حسن صحيح).

وقد كان السلف الصالح يعتنون أشدّ العناية بتتبع أحوال العلماء للاقتداء بهم والتخلق بأخلاقهم، فالقدوة الحية التي يراها الناس لها أثر كبير في بناء النفوس، وتهذيب الأخلاق، وقد كان أصحاب عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – يرحلون إليه؛ فينظرون إلى سمته وهديه ودلِّه، فيتشبهون به.

وكان بعضهم ربما يأتي العالم أو الزاهد والعابد لمجرد أن ينظر إليه فيتأثر بهديه وحاله ولحظه قبل لفظه؛ كما قال أبو إسحاق السبيعي وهو يصف التابعي عمرو بن ميمون: (كان إذا دخل المسجد فرئي ذُكر الله) (تهذيب التهذيب 8/109)
وقال أبو عوانة: (رأيت محمد بن سرين في السوق؛ فما رآه أحد إلا ذكر الله)(السير4/610)

ونظير ذلك ما نقله الحسن بن إسماعيل عن أبيه أنه قال: (كان يجتمع في مجلس أحمد بن حنبل زهاء على خمسة آلاف أو يزيدون، أقل من خمسمائة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب والسمت)( مناقب احمد 210).

وقال أبو بكر المطوعي: (اختلفت إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل ثنتي عشرة سنة، وهو يقرأ المسند على أولاده، فكنت أنظر إلى هديه وأخلاقه وآدابه) (السابق)

ومن الأمثلة العملية اللطيفة التي تدل على عمق تأثير القدوة ما نقله الحافظ ابن الجوزي عن أحد شيوخه قائلاً: (وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق، بكى واتصل بكاؤه، فكان – وأنا صغير السن حينئذ – يعمل بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد الأدب في نفسي) (صيد الخاطر 143).

إننا إذا أردنا أن نعيد الأمة إلى طريقها الذي أضلته، وتاريخها الذي تنكبته، ومجدها الذي فقدته، وعزها السليب ومجدها التليد، فلابد أن نعيد النظر فيمن نعرضهم كقدوات لأبناء وبنات هذا الجيل، فإن اتخاذ السفهاء  قدوة لا ينتج عنه إلا سفهاء مثلهم، ومن عاشر الفحول تفحل، ومن صحب أهل الجد جد، ومن اقتدى بأهل الهمم علت همته.