توكل على الله وسترى
ونسي المغرمون بالعلم أن الغربيين حينما نسوا أنفسهم وتعلقوا بالأسباب فقط عانوا من أمراض اجتماعية خطيرة مثل الحيرة والضياع والاكتئاب
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
بقلم عمر القباطي
لا يمكن أن ينضج الطعام بلا طهي، وأن تُبنى الدور بلا طوب أو حجارة، وأن يتعالج المريض بلا دواء، ولن يصبح العالم عالما بلا دراسة واطلاع، ولن تتغير الأوضاع بدون تغير نفوس الناس.. والله عز وجل حكى لنا في سورة الكهف التي نقرأها كل جمعة قصة ذو القرنين، وفيها قول الله {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} ما يعني أن ذا القرنين لم يحكم الدنيا ولم يكن بتلك القوة والعزة بطريق المصادفة، وإنما كان لديه من الأسباب ما أهلته لذلك، وأكبر وأهم سبب هو علمه، الذي أهله لإدارة الناس بحنكة واقتدار، وأهله لمعرفة بناء السدود المتينة، وفهم لغات متعددة.
والقصص والأمثلة في السيرة النبوية كثيرة التي تبين كيف كان رسولنا - صلى الله عليه وسلم - ينظر للأسباب وكيف كان يأخذ بها، ويكفي أنه لم يقل في أي حديث من أحاديثه أن نترك الأخذ بالأسباب، بل قال للذي ضاعت ناقته عليه بعد أن تركها بلا رباط ودخل المسجد ليصلي وكانت حجته أنه متوكل, قال: "اعقلها(اربطها) وتوكل". والتوكل هو الثقة بالله بعد استنفاد جميع الوسائل البشرية.
وليست المشكلة في ذلك، بل فيمن يأخذ بالأسباب فقط ويرى التوكل سخافة وهوان لا يتصف به إلا ضعفاء الناس، ومن هؤلاء المتشدقين بالتقدم المادي، الذين يؤمنون فقط بالحواس وما يخترعه العقل ومفتونون جدا بـ "العلم التجريبي" ويؤمنون بأنه السبب الأكبر لسعادة البشرية ورقيها ويعلقون عليه آمال الناس ومستقبلهم، ويسخرون من المسلمين الذين ما زال لديهم مفاهيم إيمانية كالتوكل والقدر.
ومشكلتهم أنهم يتجاهلون أن علمهم هذا عاجز عن إيجاد أدوية لأمراض مستعصية كـ الإيدز والسكري والسرطان، وعاجز عن معرفة فيزيائية الموت ولا يتمكن من إيقاف الروح إذا خرجت، ولا يستطيع تحويل جنس المولود في بطن الأم من ذكر إلى أنثى أو العكس، وعلمهم لم يتمكن من معرفة بداية الإنسان والكون، ولم يجد عينين لمن خُلق بدونهما، وامثلة أخرى كثيرة يصعب حصرها.
ونسي المغرمون بالعلم أن الغربيين حينما نسوا أنفسهم وتعلقوا بالأسباب فقط عانوا من أمراض اجتماعية خطيرة مثل الحيرة والضياع والاكتئاب، ومن الشواهد على ذلك أنهم يقضون عطلة نهاية الأسبوع في الحانات ودور القمار والدعارة ولم يغن عنهم التقدم المادي شيئا، وهكذا يتبين أن للعلم حدودا معينة لا يتمكن من تجاوزها، وليس هذا خاصا بالعلم فقط بل على جميع الأسباب الأخرى ك القوة والمنصب والمال والذكاء..الخ التي إن عُلق الأمل عليها فقط دون التوكل على الله والسعي لمعرفته سبحانه فحتما سيخيب المرء في مكان ما.
وبغير التوكل ما كان لابني إسرائيل تحمل طغيان فرعون الذي أثخن في التنكيل بهم لدرجة أنه كان يقتل مواليدهم، ويستقدم نساءهم لخدمته وحاشيته، ويستعمل رجالهم لبناء الأهرامات والقصور، ووصل طغيانه إلى حد ادعاء الألوهية، فكيف لابني إسرائيل اتباع موسى(عليه السلام)وهم يعلمون أن مصيرهم مؤلم لو اكتُشف أمرهم بغير تفويض حالهم لله الخالق الرحيم، وكيف قارع نوح وشعيب ولوط(عليهم السلام) تهديدات قومهم بالنفي والرجم والقتل إلا بالتوكل على الله، وكيف حطم إبراهيم(عليه السلام) أصنام قومه وكيف نجا من النار، وكيف انتصر المسلمون في غزوة بدر بل كيف تجرأوا بقلتهم العددية مواجهة الكفار إلا بـ "حسبنا الله ونعم الوكيل" .
ويكفي أن التوكل على الله يُذهب الخوف من القلب والتشاؤم من الفكر، وبوجوده واستخضاره سينجح صاحب العمل - بفضل الله - في مشروعه، والطالب في دراسته وأبحاثه، والمظلوم في أخذ حقه، والشاب في طريقه للزواج. ولن تجد عاملا لنهضة الأمة إلا كان من صفاته: التوكل على الله، من أمثال شيخ المجاهدين أحمد ياسين الذي أذاق الصهاينة الويلات مع أنه كان قعيدا مشلولا، وذاكر نايك في الهند، وعلي عزت بيجوفيتش في البوسنة، وسيد قطب في مصر، وغيرهم كثير ممن رفع شعار {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} .