تهذيب وتذكية القلوب
وهذه أعلى مراتب الدين ولب الإيمان وروحه وتمامه وكماله «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» [البخاري ومسلم] .
- التصنيفات: الزهد والرقائق - أعمال القلوب -
بقلم/ ماهر جعوان
تهذيب القلوب بمعرفة الله حق المعرفة وتوقيره والحياء منه والخوف والرجاء فيه واستشعار عظمته واستحضار معيته ودوام محبته ومراقبته وخشيته والتوبة والندم والانكسار والذل والافتقار والاستعانة به وصدق الملجأ والإنابة والتضرع والدعاء والتقرب إليه بما أمكن من الطاعات .
وهذه أعلى مراتب الدين ولب الإيمان وروحه وتمامه وكماله «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» [البخاري ومسلم] .
وهو كمال الحضور مع الله وقمة البلوغ إلى مرضاته أن يظل القلب موصولا بالسماء قريبا من مولاه مرتبطا بخالقه جل في علاه بالفهم والوعي والإدراك والإخلاص والعمل والتضحية والجهاد والتجرد والأخوة والطاعة والثقة والثبات والرضا بعيدا عن السخط والغرور والكبر والعجب والشرك والنفاق.
فيتغير القلب من حال إلى حال من دنس المعصية والتفريط إلى عز الطاعة ومن الهدم إلى البناء والنماء ومن الكسل والقعود إلى النشاط والعمل ومن النقصان إلى التمام والكمال في الفكر والوقت والجهد ومن الجهل إلى المعرفة فيزيد الإيمان وينمو.
ولنا في رسول الله الأسوة والقدوة الحسنة كيف هذب النفوس والقلوب وربطها بالله في وقت الخلط بين الدنيا والآخرة، بعد غزوة حنين وزع الغنائم ووجد الأنصار شيئا في نفوسهم
(.... «يا معشر الأنصار ألا يرضيكم أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله إلى رحالكم أما والله لولا الهجرة لكنت امرء من الأنصار ولو سلك الناس فجا وسلك الأنصار فجا لسلكت فج الأنصار اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار فبكوا وقالوا رضينا برسول الله حظا وقسما» ).
ويضرب ﷺ لنا أمثلا في سد ثغرات النفوس والقلوب فهذا علي بن أبي طالب بعد أن قاتل قتالا شديدا يوم أحد، يعود إلى بيته فيقول لفاطمة: " «خذي هذا السيف غير ذميم» ..." ففي هذا الكلام إعجاب بالنفس، فسمعه ﷺ فقال له: " «لئن أحسنت القتال فقد أحسنه أبو دجانه وأحسنه فلان وفلان» ..."
وهذا سعد بن أبي وقاص ينظر لحظ نفسه ومكانته ومهارته يقول لرسول الله ﷺ ما بال الرجل يبلي البلاء الحسن ثم يعطى السهم كغيره فيجيبه ويهذبه ويرشده ﷺ «إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم»
وهذا خباب بن الأرت يشكو للنبي ﷺ: «أَلا تَسْتَنْصرُ لَنَا أَلا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: قَد كَانَ مَنْ قَبْلكُمْ يؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ لَهُ في الأَرْضِ فيجْعلُ فِيهَا، ثمَّ يُؤْتِى بالْمِنْشارِ فَيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجعلُ نصْفَيْن، ويُمْشطُ بِأَمْشاطِ الْحديدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعظْمِهِ، مَا يَصُدُّهُ ذلكَ عَنْ دِينِهِ، واللَّه ليتِمنَّ اللَّهُ هَذا الأَمْر حتَّى يسِير الرَّاكِبُ مِنْ صنْعاءَ إِلَى حَضْرمْوتَ لاَ يخافُ إِلاَّ اللهَ والذِّئْبَ عَلَى غنَمِهِ، ولكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» [البخاري] .
يجيبه ﷺ فيما وراء الكلمات وفيما تحدثه نفسه، في مداومة مستمرة على تقيم وتقويم وتهذيب وتذكية النفوس والقلوب.
وهذا هارون الرشيد لما سأل عن عدد الحجيج وأعجب بجهده في عمارة البيت الحرام فإذا بأبي حازم شيخه ومعلمه يرده إلى المبادئ والثوابت فقال يا أمير المؤمنين كل واحد يأتي يوم القيامة مسئولا عن نفسه وتأتي أنت مسئولا عن هؤلاء.
فإذا ما طهرت القلوب وطيبت صارت في حفظ الله ومعيته
«فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» [البخاري]
فتذكية القلوب وتهذيبها خير ونفع وفوز وفلاح كلها {ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه} {ونفس وما سواها فألهما فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} وأي فوز وفلاح أعظم من الجنة {جناتُ عدنٍ تجري من تحتها الأنهار وذلك جزاءُ من تزكى} فالخسارة الدائمة في من ترك نفسه دون تزكية أو تهذيب، والسعادة الأبدية في من طهر نفسه وقلبه من الذنوب والندوب والعيوب والرذائل والآفات.