لا إنكار في مسائل الخلاف
يوسف بن عبد الله الأحمد
فإنك لا تنكرُ على من خالفك، فالجميع مقصده اتباع الحق، وكل له دليله ويرى أن قولـه هو الراجح، وإنما يبقى النصح والبيان، فتكون القاعدة (لا إنكار في مسائل الاجتهاد وإنما النصح والببان)
- التصنيفات: الفقه وأصوله -
هذه القاعدة غير صحيحة، والصواب أن يقال: لا إنكار في مسائل الاجتهاد.
لأننا نختلفُ مع النصاري وأهل البدع، فهذه كلَّها من مسائل الخلاف الواقع، وينكرُ فيها على المخالف.
وإذا كانت المسألة، ومن مسائل الاجتهاد (كمسألة حكم تحية المسجد، هل تصلى وقت النهي أولا).
فإنك لا تنكرُ على من خالفك، فالجميع مقصده اتباع الحق، وكل له دليله ويرى أن قولـه هو الراجح، وإنما يبقى النصح والبيان، فتكون القاعدة (لا إنكار في مسائل الاجتهاد وإنما النصح والببان) وانظر كلام ابن القيم، حول هذه القاعدة في إعلام الموقعين (3/288).
* الخلاف وأقسامه.
الخلاف قسمان:
الأول: اختلاف تنوع:
وأمثلته كثيرة ومنها: الاختلاف في صفة الإقامة، فمنهم من يجعلها إحدى عشرة جملة، ومنهم من يجعلها كالأذان سبع عشرة جملة، وكلا الصفتين ثابت عن النبي ‘. فالأول صواب والآخر صواب.
ومن أمثلته: اختلاف صفة دعاء الاستفتاح، وصلاة الخوف، واختلاف القراءات في القرآن الكريم.
ويكثر هذا النوع من الخلاف بين أقوال السلف في تفسير القرآن، فالبعضُ يفسرُ الشيء بمعناه، والآخر بلازمه، كتفسير الرحمة في بعض الآيات، فمن السلف من فسرها بالمطر، ومنهم من فسرها بلازمه، وهو إنبات الأرض وكثرة العشب.
وهذا النوع من الخلاف ليس بمذموم، وإنما يكون مذموماً في حال البغي بظلم بعضهم بعضاً.
ومن ذلك حديث ابن مسعود قال: سمعت رجلاً قرأ آيةً سمعتُ من النبي ‘ خلافَها فأخذتُ بيده، فأتيت به رسول الله ‘ فأخبرته، فعرفت في وجهه الكراهة، فقال: «كلا كما محسنٌ فلا تختلفواº فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا» [ «أخرجه البخاري»] .
وقال تعالى: {وَمَا اختَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلَّا مِن بَعدِ مَا جَاءَهُمُ العِلمُ بَغيًا بَينَهُم} [آل عمرن: 19].
الثاني: اختلاف تضاد:
بأن يقول بعض العلماء بالوجوب في مسألة، ويقول بعضهم بالجواز مثلاً.
واختلاف التضاد نوعان:
أ. خلاف سائغ: (وهو الخلاف في المسائل الاجتهادية).
وهي المسائل التي اختلف فيها أهل العلم من أهل السنة والجماعة، ولكلٍ, استدلال معتبر. ومن أمثلته: جلسة الاستراحة في الصلاة، وكيفية الإشارة بالسبابة في التشهد، وصلاة تحية المسجد في وقت النهي، وهل الماء ينقسم إلى قسمين أو ثلاثة؟ واختلافهم في تحديد آخر وقت صلاة العشاء هل هو بانتصاف الليل أو بطلوع الفجر؟ واختلافهم في حكم صيام يوم الشك، هل هو واجب أو جائز أو محرم؟ ونحو ذلك.
وهذا النوع أمثلته كثيرة جداً، وهو الذي يقول فيه أهل العلم: لا إنكار في مسائل الاجتهاد وإنما النصح والبيانº لأن مع كلا الطرفين دليل.
وهذا النوعُ من الخلاف غير مذموم، وإنما يكون مذموماً عند البغي، كالسب والشتم والعداء والبغض بينهم. كما سبق في اختلاف التنوع.
ب. خلاف غير سائغ:
ويكون في حالين:
الحال الأولى: فيما أجمع عليه أهل العلم من أهل السنَّة.
ومن أمثلته: توحيد الله في ألوهيته وربوبيته، وأسمائه وصفاته، وإثباتها كما أثبتها الله تعالى لنفسه في كتابه أو على لسان نبيّه ‘ إثباتاً يليقُ بجلاله، من غير تحريفٍ, ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تكييف، والإيمان بأركان الإيمان الستة، وأركان الإسلام الخمسة، وأنَّ القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الإيمان قولٌ وعمل، وأن الظهر أربع ركعات، وأن في كل ركعة سجدتان، وأن الطهارة شرطٌ لصحة الصلاة، ومشروعية صلاة الوتر وقيام الليل.
وبدعية الاحتفال بالمولد النبوي، وصلاة الرغائب، والذكر الجماعي بعد الصلاة، وتلاوة المؤذن بعد الأذان للقرآن والتسبيح بمكبر الصوت، وتحريم سماع الموسيقى والأغاني، واختلاط الرجال بالنساء في العمل والتعليم، وحلق اللحى وو...الخ.
الحالة الثانية: مما يكون الخلاف فيه غير سائغ: إذا حدث الخلاف بين أهل السنة والجماعة، ثم تبين الصحيح من الخلاف بجلاءٍ, تام، فيكون الاختلاف حينئذ مذموماً، و يشرع فيه الإنكار، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (خطأ من يقول: لا إنكار في مسائل الخلاف).
وقولهم: إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيحº فإنَّ الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل. أما الأول: فإذا كان القول يخالف سنةً أو إجماعاً شائعاً وجبَ إنكاره اتفاقاً، إن لم يكن كذلك فإنَّ بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله، وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره، بحسب درجات الإنكار، وكيف يقول فقيه: لا إنكار في المسائل المختلف فيها، والفقهاءُ من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتاباً أو سنة، وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء،
وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً، وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس، ممن ليس لهم تحقيق في العلم والصواب ما عليه الائمة: أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليلٌ يجب العمل به وجوباً ظاهراً، مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه، فيسوغ فيها إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به الاجتهادُ لتعارض الأدلة، أو لخفاء الأدلة فيها.
وليس في قول العالم إن هذه المسألة قطعية أو يقينية، ولا يسوغ فيها الاجتهاد طعنٌ على من خالفها، ولا نسبة له إلى تعمد خلاف الصواب.
والمسائل التي اختلف فيها السلف والخلف، وقد تيقنا صحةَ أحد القولين فيها كثير، مثل كون الحامل تعتد بوضع الحمل، وأن إصابة الزوج الثاني شرط في حلها للأول، وأن الغسل يجب بمجرد الإيلاج وإن لم ينزل، وأن ربا الفضل حرام، وأن المتعة حرام، وأن النبيذ المسكر حرام، وأن المسلم لا يقتل بكافر، وأن المسح على الخفين جائز حضراً وسفراً، وأن السنة في الركوع وضع اليدين على الركبتين دون التطبيق، وأن رفع اليدين عند الركوع والرفع منه سنة، وأن الشفعة ثابتة في الأرض والعقار، وأن الوقف صحيح لازم، وأن ديَّة الأصابع سواء، وأن يد السارق تقطع في ثلاثة دراهم، وأن الخاتم من حديد يجوز أن يكون صداقاً، وأن التيمم إلى الكوعين بضربة واحدة جائز، وأن صيام الولي عن الميت يجزيء عنه، وأن الحاج يلبي حتى يرمي جمرة العقبة، وأن المحرم له استدامة الطيب دون ابتدائه، وأن السنة أن يسلم في الصلاة عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأن خيار المجلس ثابت في البيع، وأن المصراة يرد معها عوض اللبن صاعاً من تمر، وأن صلاة الكسوف بركوعين في كل ركعة، وأن القضاء جائز بشاهد ويمين، إلى أضعاف أضعاف ذلك من المسائل، ولهذا صرح الأئمة بنقض حكمٍ, من حكم بخلاف كثيرٍ, من هذه المسائل، من غير طعنٍ, منهم على مَن قال بها، وعلى كل حالٍ, فلا عذر عند الله يوم القيامة لمن بلغهُ ما في المسألة من هذا الباب وغيره، من الأحاديث والآثار التي لا معارض لها إذا نبذها وراء ظهره، وقلد مَن نهاه عن تقليده، وقال له: لا يحلُ لك أن تقول بقولي إذا خالف السنة، وإذا صح الحديث فلا تعبأ بقولى. وحتى لو لم يقل له ذلك كان هذا هو الواجب عليه وجوباً لا فسحة له فيه، وحتى لو قال له خلاف ذلك لم يسعه إلا اتباع الحجة، ولو لم يكن في هذا الباب شيء من الأحاديث والآثار البتة، فإن المؤمن يعلم بالاضطرار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يُعلمُ أصحابه هذه الحيل، ولا يدلهم عليها، ولو بلغهُ عن أحدٍ, فعل شيئاً منها لأنكر عليه، ولم يكن أحد من أصحابه يفتى بها ولا يعلمها، وذلك مما يقطعُ به كل من لهُ أدنى اطلاع على أحوال القوم وسيرتهم، وفتاويهم، وهذا القدرُ لا يحتاجُ إلى دليلٍ, أكثر من معرفة حقيقة الدين الذي بعث اللهُ به رسوله \"اهـ (3/288ـ289).
مثال تطبيقي للقاعدة:
من الأمثلة العملية التي يكثرُ السؤال حولها: كشف المرأة لوجهها أمام الرجال الأجانب، وهذا المثال له حالان:
الحال الأولى: أن يكون من الخلاف غير السائغ، فيجب فيه الإنكار، وهذا إذا كان في الوجه زينة كالكحل، أو المكياج، أو نمص الحاجبين، أو كان في كشفه فتنة، أو كان الكشف أكثر من الوجه بكشفِ جزءً من مقدمة الرأس.
الحال الثانية: ألا يكون فيه زينة، ولا في كشفه فتنة، ولم يكن الكشفُ أكثر من الوجه، فهذه لا ينكر عليها باليد وإنما يكتفى بالنصح، فإذا رؤيت في الطريق فيقالُ لها: يجب على المؤمنة أن تغطي وجهها كما كان نساءُ الصحابة، وزوجات النبي‘ ونحو ذلك من العبارات المناسبة.
ومما ينبغي التنبيهُ عليه أيضاً من كانت من الحالة الثانية، ولكنها لم تلبس الجلباب، وإنما خرجت أمام الناس بالجاكيت والبنطال أو التنورة، فهذه يجبُ الإنكارُ عليها، لتركها لبس الجلباب الذي يسترُ ما دونه.